سجن صوفيا المركزي.. العبودية المقيتة في قلب أوروبا
عبر أربع قارات وستة سجون مختلفة؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “أعتى السجون في العالم”، فتذهب إلى ما وراء البوابات والجدران وقضبان النوافذ، إلى عالم مجهول نعلم بوجوده لكننا لا نريد التفكير فيه، إنها من أقسى السجون في العالم، حتى إن زعماء العصابات والقتلة يجربون فيها معنى الخوف. تدخل كل حلقة من حلقات السلسلة إلى عالم السجناء، ترصد حياة القدامى منهم والجدد الذين يقضون ليلتهم الأولى في الزنزانة، والأمهات اللواتي يتعين عليهن تربية أطفالهن خلف القضبان، والمجرمين الذين ينتظرون مصيرهم. وهذه الحلقة من السلسلة تتناول سجن “صوفيا المركزي” في العاصمة البلغارية صوفيا.
حسن العدم
بينما تشرق الشمس على دول الاتحاد الأوروبي، هناك مكان ما في هذا الاتحاد ما زال يتدثر بالظلام والرطوبة، وإذ يتنفس مواطنو الاتحاد هواء الحرية والمساواة كل صباح، فإن هذا المكان بالذات ما زال يرزح تحت نير العبودية، ويتنفس عنصرية وطبقية مقيتة.
هناك في مكان ما وسط العاصمة البلغارية صوفيا، وخلف المقاهي الفخمة والمحلات التجارية الأنيقة، هناك في بعض الأحياء المنسية، والأزقة المهملة يجثم سجن صوفيا المركزي.
في بلغاريا، وهي دولة في الجنوب الشرقي للقارة العجوز، وتحديدا في العاصمة صوفيا مدينة التناقضات، حيث يلتقي الفقر بالغنى، والحداثة بالظلام؛ يوجد واحد من أقسى سجون أوروبا، بل والعالم.
داخل هذا البناء المتهالك والآيل للسقوط، هناك 900 قصة وقصة لسجناء من مختلف دول أوروبا، ترويها قناة الجزيرة الوثائقية في حلقة بعنوان “سجن صوفيا المركزي- بلغاريا” ضمن سلسلة “أعتى سجون العالم”.
صوفيا.. 100 عام من الظلام
على مدى 100 عام خلت، كانت أسوار هذا السجن المخيف تخبئ وراءها حكايات مرعبة عن بطش الحراس وتنكيلهم بالسجناء، وفي المقابل فإن التعامل مع 900 سجين من أخطر المجرمين القتلة واللصوص ومتعاطي المخدرات، يجعل مهمة ضبطهم والتحكم بهم مهمة معقدة للغاية.
في بلد عضو في الاتحاد الأوروبي، وليس بعيدا عن وسط العاصمة الراقي، تصدمك مظاهر حياة أخرى؛ طرق غير معبدة، وعربات تجرها الخيول، وجبال من القمامة، لا شبكات للكهرباء أو المياه ولا حتى للصرف الصحي؛ إنها ببساطة أحياء يسكنها الغجر والأقليات الملونة.
يعيش في هذه الأحياء مليونا شخص بطرق غير قانونية، ويشكل الغجر ما نسبته 10% من السكان، وفي مثل هذه الظروف من الفقر والتهميش، فإن أحد شقَّيْ هذه المتلازمة سيكون العنف والجريمة بالضرورة.
“لا تُدر ظهرك لسجين طليق”.. الحقبة السوفياتية المنقرضة
السيد “ترايينكو فانكوف” الذي بدأ العمل في هذا السجن كحارس بسيط قبل ثمانية وعشرين عاما، وتدرج في الرتب إلى أن أصبح قائدا لحراس السجن، سيأخذنا في جولة على مرافق السجن.
يبدأ الحارس الجولة بمركز القيادة والسيطرة، وقد يوحي هذا الاسم بغير ما رأيناه حقا؛ أثاث قديم بالٍ وشاشة مراقبة تعود إلى الحقبة السوفياتية، وملفات يدوية قديمة تعود لأربعين سنة خلت على الأقل، وتؤرشف لعشرات آلاف المسجونين الذين مروا على هذا السجن.
هذا وقت الغسيل، حالة من التأهب تسود حراس السجن، الاحتكاك بين السجناء في منطقة الغسيل العامة قد يؤدي في أي لحظة إلى انفجار لا يمكن السيطرة عليه. وحدهم الذين ليس لديهم ما يغسلونه هذا اليوم، تبدو عليهم علامات الراحة وهم يستغلون هذا الوقت في التجول بحرية بين الزنازين.
وفجأة تقرع أجراس الإنذار صارخة “على السجناء التوجه إلى زنازينهم بأسرع وقت”، ينطلق النداء بلهجة الأمر الصارمة، وينتشر الحراس بين الزنازين يقفلونها من الخارج.
يقول فانكوف: لا تُدر ظهرك لسجين طليق، فلقد علمتنا التجارب أنك ستكون صيدا سهلا لأي سجين خارج زنزانته.
انتهاكات الحراس.. إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب
يقضي أكثر من 900 سجين فترات حجزهم التي تتراوح بين الحبس لخمس سنين والسجن المؤبد في هذا المكان الموحش، ويتألف البناء من أربعة طوابق؛ في الطابق الأول والثاني يتم احتجاز السجناء في فترة التحقيق وما قبل المحاكمة، وذلك في زنازين انفرادية معزولة عن العالم، لا تكاد ترى الشمس تقريبا، أما الطابق الرابع فهو مخصص لعتاة المجرمين وذوي السوابق، وهم من صدرت بحقهم أحكام سجن طويلة. فيما الطابق الثالث مكون من زنازين جماعية، وهو مخصص للسجناء ذوي الفترات القصيرة.
لا تتوقف موجات الانتقادات الحقوقية لهذه المنشأة الجزائية التي لا تخضع بأي شكل من الأشكال للمعايير الأوروبية، لكنها تشتد حين تتسرب من خلف القضبان صور لانتهاكات جسيمة بحق المسجونين، أو للمعاملة المشينة المنتهجة لدى حراس السجن، والتي لا ترقى في كثير من الأحيان إلى المعاملة الآدمية، أو للظروف المعيشية المهينة ومستوى النظافة في جميع مرافق السجن دون استثناء.
بَيد أن المسجونين أنفسهم ليسوا ملائكة على الإطلاق، بل إن مستوى الوحشية والعدائية لدى بعضهم يصل إلى مرحلة تهدد حياة الحراس والسجناء الآخرين، فالبقاء للأقوى هو العنوان البارز في ذلك السجن.
يقول “ستانيسلاف” وهو أحد السجناء من ذوي المحكوميات الطويلة: سيأكلونك، إذا أبديت أي مظهر من مظاهر الضعف.
الذكريات الأليمة.. القادمون من الجحيم
يقول “حمزة” وهو رجل أربعيني ألماني الجنسية، كان سجينا سابقا لمدة ستة أعوام في هذا السجن المخيف: إن مجرد التفكير في العودة إلى هذا المكان هو كابوس ثقيل، كنت أُفضّل عدم مرافقتكم في هذه الجولة، فرؤية أسوار هذا المكان تثير في نفسي ذكريات أليمة.
كان حمزة قد أدين بتهمة تهريب المخدرات، وبقي فترة حكمه كاملة في هذا السجن، وخرج منه قبل ستة أشهر. وهو الآن يعود مع فريق التصوير إلى سطح بناية شاهقة تطل على السجن من الأعلى، يكاد قلبه ينخلع وهو يرى السجن بتفاصيله الدقيقة من أعلى “لم يتغير شيء”، ثم يرمي ببصره المخطوف من الرهبة إلى الأفق البعيد.
رجال برتبة وحوش.. معايير الآدمية المفقودة
يتابع حمزة في وصف معاناته، فالافتقار إلى أدنى معايير النظافة هو أكبر تحدٍ كان يؤرقه، كما أن تسرب المياه أثناء الشتاء من كل زاوية من زوايا الزنزانة المكتظة، كان يضطرهم إلى النوم على أسرّة مبللة معظم الوقت. وفيما كانوا ينعمون بالدفء لأقل من ساعة في اليوم كله، كان البرد إلى حد التجمد يحاصرهم في ليالي الشتاء الطويلة الموحشة.
يقول حمزة: كنا تسعة في زنزانة لا تزيد على 12 مترا مربعا، بينما تنص لوائح الاتحاد الأوروبي أن لكل سجين الحق في مساحة لا تقل عن أربعة أمتار. ويصمت بمرارة.
في ثكنة خارج مبنى السجن الرئيسي يحتجز السجناء الأجانب؛ ظروف معيشتهم أفضل بقليل من السجناء المحليين، ولكن الأوروبيين منهم و”جوك” الأسترالي تنتابهم الصدمة العميقة من المعاملة التي يلقونها هنا “هذا شيء مريع، لا يمكن أن نعيشه في سجون بلادنا”.
ويقول جوك: إنهم يضربوننا بطريقة وحشية وممنهجة، عشرة حراس أو أكثر يجتمعون على سجين ويوسعونه ركلا وضربا بالهراوات، ثم يغادرون.
“حاميها حراميها”.. كاميرات لمراقبة الحراس
قد يكون هذا هو السجن الوحيد في العالم الذي تم تركيب كاميرات فيه لمراقبة الحراس لا السجناء، حتى أن بعض المنظمات الحقوقية من بلغاريا نفسها قد ضاقت ذرعا بممارسات الحراس في هذا السجن، وقدمت شكاوى إلى الوكالات الأوروبية المختصة، ولكن دون أذن صاغية من إدارة السجن.
يحاول قائد الحرس “فانكوف” الدفاع عن رجاله ضد هذه الاتهامات، ويقول: إن السجناء هنا خطرون للغاية، وهناك محاولات مستمرة للهرب، ونحن فقط نحاول القيام بواجبنا وضبط الأمور حتى لا تخرج عن السيطرة.
ويتابع فانكوف: فترة الاستراحة اليومية وهي 90 دقيقة يُسمح للسجناء فيها بمغادرة الزنازين إلى الفناء الخارجي للسجن، وتمثل هذه الفترة التحدي الأكبر للحراس، إن تجمع السجناء على شكل مجموعات يذكرك بالعصابات المسلحة، يصبحون خطيرين وعدوانيين للغاية، سواء تجاه أنفسهم أو تجاه الحراس، يجب أن نكون متيقظين وحذرين في كل لحظة.
البقاء للأبيض.. الطبقية في أعتى صورها
في فترة الاستراحة في الفناء الخارجي ترى تصرفات غريبة من السجناء، بعضهم يحب العزلة التامة، وينزوي بعيدا عن الأنظار، وبعضهم يمارس الألعاب الرياضية التي توحي بتفوقهم الجسماني، في نوع من التحذير والإرهاب لغيرهم من السجناء والحراس كذلك، أما البعض الآخر فيتمشون ويدخنون السجائر ويتحدثون إلى غيرهم.
لكنك لا تستطيع أن تتجاهل النظرات المتحفزة دوما، وقبضات الأيدي المتأهبة طول الوقت، وكأن معركةً ستندلع في أية لحظة، التوتر هو سيد الموقف في هذا المكان.
“حمزة” يعرف أكثر من غيره سبب التوتر والتحفز الدائم في هذا السجن سيء السمعة؛ إنه التسلسل الهرمي والطبقية هما ما يحكمان سلوك المجرمين في الداخل، القوي في أعلى الهرم، والضعيف أسفله، البلغاريين ذوي البشرة البيضاء هم المتنفذون داخل السجن، أما الغجر والأقليات الأخرى فهم الخدم. إن منطق السادة والعبيد ما يزال يطغى على هذا المكان المعزول عن الحضارة الإنسانية.
هناك مقطع فيديو مسرب يُظهر هذا المنطق بجلاء، سجناء من البيض يربطون آخرين ملونين بالسلاسل في أعناقهم ويجبرونهم على المصارعة كالكلاب، بل ويطلبون منهم الأكل والشرب بأفواههم مباشرة كالحيوانات.
سيأكلونك حيا.. بلغاريا المصغرة
“ستانيسلاف” سجين محكوم بخمسة عشر عاما بتهمة القتل والسرقة، شرس الطباع ومكروه من الجميع، ولذلك فهو يعزل نفسه عن الآخرين ويمارس الرياضات العنيفة، يدل جسده المليء بالوشوم النازية والشعارات القومية المتطرفة أنه كان يتبع لجماعة نازية في خارج السجن.
يقول: إذا بدا منك أي مظهر ضعف سيأكلونك حيا، لا يهمني ما يقولونه عني، المهم أن أكون ذئبا منفردا مستعدا للمواجهة في أية لحظة، هنا مبدأ القوة يحكم كل شيء، والضعيف لا يملك أي شيء.
هذا عالم مصغر عما تبدو عليه بلغاريا كلها في الخارج، فعلى مدى سنوات متتالية صنفت بلغاريا على أنها البلد الأكثر فسادا وجريمة في أوروبا، وأن عمليات القتل المأجور هي الأعلى نسبة في هذا البلد.
الانتحار.. الطريق الأعنف إلى الخلاص
يحاول “ستانيسلاف” أن يخفي قلقه خلف مظهر عضلاته البارزة ولكنه لا ينجح دائما، فعندما يتذكر الزنزانة الانفرادية والانقطاع عن العالم لأيام وأسابيع، يكاد أن يصل إلى حافة الجنون، وقد وصل به اليأس فعلا إلى محاولة الانتحار مرارا، وهو يتحدث عن كثيرين من السجناء الذين أنهوا حياتهم بالفعل، بسبب انهيارهم وعدم تحملهم للظروف القاسية التي يعيشونها في الحبس الانفرادي.
عمليات التفتيش والمداهمة المفاجئة للسجناء في زنازينهم، هي إجراءات روتينية يقوم بها حراس السجن، وغالبا ما يعودون بحصيلة وافرة من المهربات، من الأسلحة يدوية الصنع إلى الهواتف المحمولة وحتى المخدرات.
كل هذا يمكن أن يجده الحراس بحوزة النزلاء، وهذا يعطيهم شيئا من راحة الضمير حين يتعاملون بقسوة مفرطة وإزعاج مستمر للسجناء، فهنا يلعب الحرس والسجناء لعبة “العسكر والحرامية” في أعنف صورها، ويفهم الطرفان أصول اللعبة على أنها ندِّيةٌ لا تنتهي.
الهجرة إلى السجن.. خليط غير متجانس
ما يزيد المعاناة في هذا المكان الكئيب هو ذلك الخليط غير المتجانس من السجناء، هناك مهاجرون أو لاجئون رمتهم أقدارهم بغير جريمة خلف قضبان هذا السجن، وهم مضطرون للعيش وسط مجرمين قتلة، ليس لهم ذنب إلا أنهم وجدوا أنفسهم في بلغاريا، كلهم يتندمون على مجرد التفكير في الهجرة أو اللجوء، حينما يكون هذا هو مصيرهم.
يقولون إن البلدان الأخرى عندما تضطر لمعاقبة المهاجرين غير الشرعيين فإنها تحتجزهم في مخيمات خاصة قبل ترحيلهم، أما هنا فهم سجناء مع المجرمين واللصوص وتجار المخدرات.
“رشيد” و”حمزة” من أفغانستان ذاقوا ويلات العنصرية والإجرام في هذا المكان، لا لذنب إلا لأنهما حاولا مغادرة بلدهما الذي أنهكته الحروب.
عبثا يحاول رشيد أن يمنع دموعه، يحكي بحسرة عن الظروف المهينة التي يعيشها، فلا ماء ولا كهرباء، وحتى العناية الطبية منعدمة إلى حد كبير، أما الطعام فقصة أخرى، خبز مع حساء بارد مقزز لا يكفي لسد الجوع، الطبق نفسه كل يوم، أشبه بطعام المتسولين، وقليل هم السجناء المحظوظون الذين ينتظرون طعاما من أقاربهم في الخارج.
الأفضلية للجنس النبيل.. الاتحاد الأوروبي والدور المفقود
وحدهم البلغاريون البيض يحظون بشيء من الرفاهية في هذا السجن، فلديهم صالة ألعاب رياضية خاصة، ويتطوع مدربون من خارج السجن لتدريبهم على الملاكمة، ويستمتعون بقراءة الكتب، ولديهم قائمة أحسن من الطعام، لكن هل هم من انتزعوا هذه الميزات بأنفسهم، أم أن إدارة السجن والحكومة قد تواطأت معهم لأنهم من الجنس النبيل؟
لا أحد يعرف على وجه الدقة، ولكن البلد الذي يلفه الغموض والريبة في بيئة الاتحاد الأوروبي مرشح لكل التناقضات.
يحلم “جوك” الأسترالي بانقضاء مدته دون مزيد من المشاكل، وما يزال ينشط في توضيح الصورة المزرية للسجن لدى الرأي العام والمنظمات المختصة، فيما يحاول “حمزة” و”رشيد” التشبث بأهداب الحياة على أمل الخروج من هذا الجحيم، ولو حتى بالعودة إلى بلدهم الذي مزقته الحرب، بينما يستمر “ستانيسلاف” النازي على تقوية عضلاته استعدادا لمعركة يراها حتمية في هذا المجتمع الذي يؤمن بالأقوياء فقط، ويتنكر للضعفاء.