قصة التسوق.. كيف تجعلنا المراكز التجارية نشتري ما لا نحتاج؟

مها فجال
إنه يوم الأحد، مجموعة من النساء الباريسيات ارتدين أفضل ما لديهن من ملابس واتجهن لـذلك المتجر الذي فتح أبوابه حديثا “لو بون مارشيه” (Le Bon Marche).
وفي اللحظة التي تخطو فيها أقدامهن المكان، تبرق أعينهن من فرط الدهشة والإثارة، هذا لا يشبه أي شيء رأينَه من قبل، كل تلك الفساتين والأقمشة والعطور والأحذية والمجوهرات تحت سقفٍ واحد. وبدون وعي أخذن يتقدمن في كل الأرجاء ويتفقدن كل تلك الأغراض الجميلة لتخطف أيديهن من فوق الرفوف كل ما ستتمكن أموالهن من شرائه.
بالطبع لن يدهشك هذا المشهد، فلا بد أنك رأيته عشرات المرات من قبل في كل مرة ذهبت فيها لمركز تجاري. لكن تاريخ المشهد يعود تحديدا إلى عام 1838 وهو تاريخ افتتاح “لو بون مارشيه” أول محل بيع شامل في العالم.
ذلك المشهد نفسه أعاد وثائقي الجزيرة الوثائقية “قصة التسوق” تمثيله واضعا أمام أعيننا تصورا لذلك المكان وزبائنه في ذلك الوقت. وإذا كانت تلك التصورات الخيالية لا تقنعك، يمكنك بسهولة زيارة المتجر بنفسك، فهو لا يزال قائما في باريس حتى اليوم.
مثّلت تلك المتاجر الكبيرة على غرار لو بون مارشيه والتي أخذت تفتح أبوابها في أوروبا وأمريكا نوعا من الثورة، ليس فقط من ناحية التجربة الشرائية، لكن أيضا من الناحية الاجتماعية. فقد منحت تلك المساحات الآمنة الممتعة والتي تمتلئ بالأغراض الخلّابة، مُتنفسا لنساء الطبقة الوسطى اللواتي كن قبلها لا يخرجن من منازلهن إلا في أضيق نطاق.
اليوم تغير الوضع كثيرا بالطبع، وأصبح بإمكان معظم النساء أن يذهبن حيثما أردن، ومع هذا لم يتوقفن عن التسوق، ولم تَمُت المراكز التجارية، فالتسوق ببساطة أصبح إحدى دعائم العصر الحديث التي لا غنى عنها، وأصبح نشاطا تمارسه النساء والرجال على حد سواء، ينفقون فيه الكثير من الأموال على أغراض لم يكونوا في حاجة للكثير منها أصلا.
قد تعترض على هذا، فأنت كما تظن شخص حذر لا ينفق أمواله فيما لا يريد، ويشتري فقط ما هو في حاجة إليه. هذا بالطبع ما يظنه الجزء الواعي من مُخك، لكن من قال إن وعيك هو المتحكم من الأساس أثناء عملية التسوق؟

من التسوق إلى الترفيه
في عام 1909، وبعد قرابة السبعين عاما من افتتاح لو بون م رشيه، أنشأ رجل الأعمال هاري جوردن سلفريدج أول فروع محلات بيعه الشاملة في لندن التي أسماها على اسمه “سلفريدج”، لم تكن فكرة محلات البيع الشاملة حينها بالشيء الجديد، لكن ما فعله سلفريدج في محله لم يكن أحد قد رآه من قبل.(1)
فقبل محلات سلفريدج كانت الأغراض والبضائع توضع في خزائن زجاجية فوق رفوف عالية وراء واجهات مًصمتة، فجاء هو ليتخلص من الخزائن ويضع الأغراض في متناول اليد ظاهرة للجميع. أسس سلفريدج بهذا نوعا من الحميمية بين الزبائن والسلع، وأصبحت كل المتاجر في كل مكان في العالم تتبع تصميمه ذلك حتى يومنا هذا. (2)
وفي حوار تلفزيوني، أكدت خبيرة التسويق ديانا لوكتشي أن 95% من قراراتنا الشرائية تخرج بشكل عاطفي لا عقلاني. لم تكن مثل تلك المعلومات مُتوفرة للمهندس المعماري النمساوي فيكتور غروين عام54 19 بالطبع، لكنه كان ذكيا بشكل سابق لعصره.(2)
لا يعود لذلك المعماري فكرة إنشاء أول مركز تسوق على الإطلاق فقط، بل تجربة التسوق الحديثة كلها. فعندما أقام مركز تسوق ساوثدايل في الولايات المتحدة الأمريكية، أقام معه أيضا صرحا للألاعيب الذهنية التي تهدف لجعلنا نشتري كل ما يريد أصحاب المتاجر أن يجعلونا نشتريه، بغض النظر عما إذا كنا نحتاجه أصلا أم لا نحتاجه.
لم يرَ غروين في التسوق محض نشاط عملي يقوم به الأفراد لتلبية حاجاتهم الأساسية، بل تجربة كاملة في أجواء مغايرة مُصممة خصيصا كي يشعر العميل بالراحة والاسترخاء في محلات مليئة بآلاف الأنواع من المُنتجات المُصطفة في الواجهات وعلى الرفوف بشكلٍ مُغرٍ وجذّاب.
وفي تلك الأبنية الضخمة التي تمتد على مساحات شاسعة، لا يقتصر المكان على مجرد المحلات فقط، بل يضم مطاعم وسينمات بل وملاهي أحيانا، لتتحول المراكز التجارية من أماكن نقصدها للتبضع إلى أماكن يمكن لعائلة أن تقضي فيها يوم العطلة بالكامل دون دقيقة واحدة من الملل.(3)

خدعة التصميم.. إيكيا مثالا
في تلك الأجواء نفقد تركيزنا ونتشتت عن الهدف الأساسي الذي جئنا لأجله، وبدلًا من مجرد البحث عن هذا الهدف لشرائه ثم الذهاب، نقضي ساعات في تفقد كل تلك الأغراض الجديدة والخلابة لينتهي بنا الأمر دائما وقد اشترينا شيئا لم نكن في حاجة إليه من الأساس.
يُسمى ذلك النوع من الشراء بـ”الشراء المُندفع” (impulsive purchase)، وتعود إليه حوالي 62% من أرباح المحلات. ولهذا يلعب تصميم المحال التجارية خصيصا على تلك النقطة، لنشتري أكبر كم ممكن من الأغراض.(4)
ويعد تصميم محل الأثاث العالمي الشهير “إيكيا” من أشهر النماذج، فعندما تذهب لأي فرع من فروعه، تجد أن المحل من الداخل أقرب إلى المتاهة، العديد من الطرق الملتفّة على بعضها البعض التي تجعل من الصعب الوصول لما تريد، ومن المستحيل إيجاده دون المرور عبر أغلب أقسام وبضائع المحل.
وفي رحلتك، غالبا سينجح شيء ما في جذب انتباهك. وهنا يلعب تصميم المحل دورا آخر؛ فإذا أردت أن تُعطي نفسك مهلة للتفكير فيما إذا كنت تحتاج ذلك الغرض حقا أم لا وقررت المضي قدما ريثما تتخذ قرارا، ستخشى ببساطة أن تعجز عن الوصول إلى هذا المكان مرة أخرى، وهنا تستسلم للإغراء وتضيفه لسلة المُشتريات.
لا يتبع تلك الخُدعة إيكيا فقط، فإذا دخلت أي متجر كبير اليوم ستجدهم يضعون المنتجات الأساسية من خبز وجبن ولبن في عمق المكان، بينما تصطف أكثر من نصف الرفوف المؤدية إليها بمنتجات ثانوية من حلوى وشوكولاته ومياه غازية.(5)

هوس الماركات.. معابد العصر الحديث
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل جاء هوس الماركات ليذهب بنا خطوة أبعد في فصل الحاجة عند الشراء، وتحويل الأمر للعبة نفسية تجعلنا في رغبة دائمة أن نقتني أشياء لا لقيمتها النفعية بل لرمزيتها المعنوية، وذهب البعض إلى حد تشبيه مراكز التسوق بمعابد العصر الحديث، والماركات بآلهته.
ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن كثيرا من أسامي الماركات الحديثة مثل نايكي وكاليوبي هي في الأصل أسامي آلهة إغريقية، وأن شعارات الكثير منها أيضا مثل ستاربكس وفيرياشي مُستلهمة من رموز دينية.(6)
قَطَع التسوق والمحلات والمراكز التجارية رحلة طويلة من لو بون مارشيه إلى اليوم، ولم يتغير في تلك الرحلة سوى استكشاف وتطبيق أكبر عدد ممكن من الألاعيب الذهنية التي تدفعنا لشراء أكبر كم ممكن من الأغراض.
من الجدير بالذكر أن مؤسس تلك الألاعيب غروين نفسه قد تبرّأ من اختراعه قائلًا “أرفض أن أدفع أي نفقات في أي من تلك المُنشآت الحقيرة”.(7)
المصادر: