تايتنك.. كارثة حصدت الأرواح والأوسكار

وجدي الماجري
لم يكن اسم “تايتنك” مُبالغا فيه، فقد اتصفت السفينة بثلاث صفات لم تتوفر في غيرها من السفن في أوائل القرن العشرين هي الضخامة والتطور والفخامة.
منذ وضع المخطط النظري النهائي لبدن سفينة تايتنك، كان مُقدرا لها –في علم الغيب لا في إدراك الناس- أن تغرق في الماء وتفنى في عُمق المحيط الأطلسي. فالخلل المهلك الموجود في بنية تايتنك الضخمة والذي سرّع غرقها قبل ساعتين فقط من وصول فِرق الإنقاذ، اكتُشف بعد مرور مئة عام على وقوع الكارثة. حتى مزاج البحر كان له يد في مصير تايتنك آنذاك.
إن فكرة السفينة التي لا تغرق -حسب ما رُوّج لتايتنك من إعلانات إشهارية قبل انطلاق الرحلة- قد انسلخت من الأذهان بعدما صُعق العالم بنبأ غرق تايتنك والعدد المهول للضحايا.
ومن فاجعة كبرى تحوّلت قصة تايتنك الحقيقية على يدي المخرج العالمي جيمس كاميرون إلى فيلم هوليودي ذي نزعة درامية ونهاية مأساوية، وحصد من خلاله عدة جوائز منها جائزة الأوسكار لأفضل مخرج. ولكنّ عمليات التجميل السينمائية التي أُجريت على أحداث كارثة السفينة “آر إم إس تايتنك” في الفيلم سلّطت الأضواء على قصة الحب المذهلة التي دارت بين بطلي الفيلم “جاك” و”روز” بينما خسر الحدث الرئيسي –أي غرق السفينة- وزنه وقيمته الفعلية، فقد لطّفت المشاهد العاطفية المكثفة في الفيلم هول هلاك تايتنك وجعلته حدثا حزينا عابرا لا غير.
واقعة الغرق.. لغز استغرق مئة عام
قُبيل مطلع فجر 15 أبريل/نيسان 1915 بينما كان الليل الحالك يُرخي سدوله على المحيط الأطلسي، والبرد القارس يلفح الأجواء، غرقت أضخم سفينة لحمل الركاب في العالم إثر اصطدامها بجبل جليدي، وغاصت إلى قعر المحيط في أول رحلة بحرية لها من لندن إلى نيويورك عبر بحر الظلمات.
لقد ابتلعت تيارات المياه العارمة السفينة العملاقة في مدة زمنية وجيزة غير متوقعة، فبعد مرور عشرين دقيقة من الاصطدام اعتقد أغلبية الطاقم وكل الركاب أنّ الأضرار طفيفة غير مدركين بأمر الأربعمائة طن من المياه المتسربة إلى السفينة في الدقيقة الواحدة.
تلك الكمية الكبيرة من المياه التي كانت تدخل إلى السفينة عبر الشقوق والفتحات شكلت وزنا هائلا، حيث أنها كانت تسحب مقدمة السفينة نحو الأسفل، فكل قمرة تُغمر بالمياه تنزل إلى الأسفل وتنتقل المياه إلى القمرة التي تليها.
وبعد انقضاء ساعتين على غرق تايتنك، وصلت سفينة كارباثيا مع حلول الصباح الباكر، وأسرعت بإنقاذ ما أمكنها إنقاذه من الركاب الأحياء. ومن 1523 ضحية لقيت حتفها غرقا في تلك الليلة، تمت استعادة 328 جثة فقط ودُفنت معظمها في مقبرة فارفيو التي تقع في مدينة ويستفلد بولاية نيوجرسي. ولمّا استحال على الخبراء التعرف على العديد من الجثث، قاموا بتعليمها برقم وحسب.
لم تقوَ لجنة التحقيق وقتها على حلّ لغز غرق السفينة في زمن قياسي. وجلّ ما توصلت إليه هو أنّ تايتنك كانت تبحر بسرعة فائقة في منطقة الجليد ولم يُخطئ أحد من أفراد الطاقم، وإنّما كانوا يتقيدون بالتعليمات بحذافيرها. وتبعا لذلك رأت اللجنة ضرورة زيادة عدد زوارق النجاة على السفن بحسب عدد الركاب وليس بحسب وزن السفينة.
في المقابل، ما كانت للجنة التحقيق الجرأة على ذكر أنّ قوانين الأمان التي وضعتها لجنة الشؤون التجارية البريطانية قد انتهت صلاحيتها، كيف تفعل وهي تحاول أن تغطي على أخطائها، إذ كانت لجنة الشؤون التجارية هي التي تحقق في كارثة يقع الذنب الأكبر فيها على عاتقها، وذلك أنها سمحت لسفينة تايتنك بالإبحار محمّلة بـ16 مركبا فقط من أصل 48.

عوامل أدت لغرق تايتنك
أمّا الأسباب الفعلية التي دفعت بتايتنك نحو مصير شنيع، فقد اكتُشفت بعد مئة عام تقريبا من وقوع الفاجعة. في البداية كان عدد قوارب النجاة غير كافٍ البتة لاستيعاب كل الركاب، فضلاً عن القوانين المنتهية الصلاحية للجنة الشؤون التجارية فيما يتعلق باتخاذ كافة التدابير الأمنية اللازمة لسلامة السفينة والركاب.
ثم يأتي الخطأ الفادح الثاني عقب رغبة إزماي -المدير الإداري لشركة وايت ستار لاين مالكة السفينة- في إنزال الحاجز الفاصل بين الطبقات، وهو ما حجز قطاعات واسعة من الركاب عن محاولة النجاة بأنفسهم. وما زاد الطين بلة عدم وجود مناظير في برج المراقبة.
وكان قرارُ الضابط المناوب موردو في تلك الليلة بشأن تغيير مسار السفينة إلى أقصى الميمنة من أجل إبعادها عن الخطر الوشيك، قرارًا آخر سيحتّم دنوّ تايتنك من سوء الخاتمة.
وبعد ذلك، تمّ تجاهل الرسالة اللاسلكية المهمة المبعوثة من قِبل كاليفورنيا -السفينة الأقرب إلى تايتنك-التي تقول فيها إنها اضطرت إلى التوقف في الليل بسبب الجليد، ممّا دفع كاليفورنيا إلى إطفاء جهازها اللاسلكي، وبذلك فقدت تايتنك الاتصال الإذاعي مع السفينة الوحيدة التي كانت تبعد عنها ساعتين على وجه التحديد.
وأخيرا، كانت ولادة الجبل الجليدي في نفس الوقت الذي صُنعت فيه سفينة تايتنك أمرًا لا يُصدق بالمرة، زيادةً عن قطع الجبل لمسافة أبعد عمّا كان يُعتقد باتجاه الجنوب، أي في نفس مسار تايتنك.
كل هذه الأسباب بتسلسلها الفظيع، أفضت إلى كشف نقطة الضعف في بنية تايتنك التي عجّلت غرقها في غضون ساعتين لا أكثر. ولغاية مجهولة، قام البناؤون باختيار درجة أدنى من أنقى أنواع الحديد المطاوع يُسمى بالرقم 3، ودرجة الحديد المتدنية تلك فيها شوائب خبث أكثر ورؤوس مسامير أضعف بكثير مقارنة بالمسامير ذات الجودة العالية. صحيح أنّه لا مفرّ من أن تتكسر رؤوس المسامير بكلّ الأحوال من جرّاء الصدمة، لكنها كانت ستدوم لمدة أطول ممّا يسمح بإنقاذ أكبر عدد ممكن من الركاب قبل أن تهوي إلى قاع المحيط.

جيمس كاميرون ورائعته “تايتنك”
منذ 1997، ما إن تُلفظ كلمة “تايتنك” حتى تذهب العقول مباشرة إلى المخرج جيمس كاميرون والممثل ليوناردو دي كابريو والممثلة كيت وينسلت، الثلاثي الذهبي الذي خلّد ذكرى كارثة تايتنك في عمل سينمائي ساحر.
يحمل الفيلم الرقم القياسي لثاني أعلى فيلم حقق ربحا على الإطلاق، فقد وصلت عوائده عالميا إلى 1.8 مليار دولار أمريكي. ورُشح لـ14 جائزة أوسكار في عام 1998، وحاز على 11 منها، مثل جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج، كما أصبحت موسيقى الفيلم التصويرية الأكثر مبيعا في سجل مبيعات الموسيقى التصويرية على الإطلاق.
تتصف أعمال كاميرون السينمائية بوجود صراع بين الإنسان ومشاعره الإنسانية والآلة، وهو ما ظهر بوضوح في فيلم تايتنك حيث اعتمد كاميرون على الحضور الطاغي لبطل الفيلم جاك وبطلته روز ليُسلّط الأضواء الباهرة على قصة الحب الفريدة التي جمعتهما تحت ظل تايتنك، فتكون الغلبة بذلك للإنسان والعاطفة على حد سواء، فيما احتل غرق السفينة –الآلة- الرتبة الثانوية في سلم الأحداث. وينتصر الإنسان على الجماد في لعبة الحياة.
يتناول فيلم تايتنك كارثة غرق السفينة في أولى رحلاتها عبر المحيط الأطلسي، فيحكي قصة شخصين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين وقعا في الحب على متن الرحلة عام 1912. ومع غرق السفينة، تترك روز والدتها وخطيبها الذي لا تطيقه -وقد ركبا في إحدى قوارب النجاة- وتذهب لإنقاذ حبيبها جاك. وبعد عدة عقبات يعود جاك وروز إلى السطح وقد غادرت قوارب النجاة وصار المُتبقّون يتساقطون في المحيط مع انقسام السفينة وارتفاع مؤخرتها في الهواء. ثُم تغوص السفينة بأكملها في المحيط فيما يتشبث جاك وروز بلوح خشبيٍ طافٍ؛ وينتهي الفيلم بالحزن والألم، إذ يموت البطل جاك إثرَ انخفاض حرارة جسمه بينما تُنقَذ روز من أحد قوارب النجاة العائدة.

حين يتغلب الحب على الكارثة
استَلهم كاميرون أحداث الفيلم من حُطام السفينة الذي أسره بجاذبيته. وحتى يضفي جمالية أكثر على قصة ذات طابع مأساوي بامتياز، أدرج كاميرون قصّة حب خاطفة للأنظار في سيناريو الفيلم لحشد انتباه المشاهدين واستدرار عواطفهم.
ولكن المخرج تغافل عن العدد الهائل للضحايا الذين ذهبوا سدًى مع السفينة إلى قاع البحر والذين استحقوا لفتة جليلة وكريمة من الناس، وركّز في المقابل على قصة الحب في فيلمه وأوْلَاهَا اهتماما بالغا.
بدأ إنتاج الفيلم في عام 1995 عندما قام كاميرون بتصوير حُطام السفينة الحقيقية. ومن أجل تصوير غرق السفينة بُنيت نماذج مُصغرة للسفينة على شاطئ روساريتو في كاليفورنيا، كما استعان المخرج بتقنيات الحاسوب لمعالجة الصور الرقمية. ويُعتبر فيلم “تايتنك” أغلى فيلم تمت صناعته في ذلك الوقت بميزانية قُدّرت بنحو 200 مليون دولار.
وإن بدا فيلم تايتنك الشهير ملحميا رومانسيا وذا نزعة فنية عالية، فإنّ عين الحقيقة لا يُمكن أن تغطيها ألف شمس. وستبقى فاجعة غرق سفينة تايتنك خالدة في ذاكرة التاريخ بوجعها وعِبرتها وأخطائها القاتلة.