الإنتربول في ذكرى تأسيسه.. من اعتقال المجرمين إلى اعتقال المعارضين

الإنتربول هو منظمة دولية ظهرت فكرته في أبريل/نيسان عام 1914، وذلك عندما اجتمع ضباط شرطة من 24 بلدا في مدينة موناكو الفرنسية

 

أبرار عبد الرحمن

عندما نسمع عن الإنتربول، أول ما يحضر إلى الذهن صور مطاردات سيارات ومسدسات آلية، ويُخيل لنا أننا أمام نسخة عالمية من مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي (إف بي آي)، أو سكوتلاند يارد (المقر الرئيسي لشرطة العاصمة البريطانية)، وأنه شرطة خارقة تتبع اللصوص والمجرمين حول العالم، ويمتلك عملاء وضباطا يُنقذ بهم الأبرياء من يد الأشرار.

وخلافا لصورة الجهاز الدولية التي رسختها أفلام هوليود في عقول الملايين، ليس لدى الإنتربول فعليا أي سلطة للتحقيق في الجرائم أو الاعتقال، ولا يوجد للمنظمة سجون خاصة بها. وعوضا عن ذلك تعمل خلف الكواليس وتجمع الاستخبارات وتنسق جهود الشرطة على المستوى الدولي.

ولكن السيئ في الأمر أنه بات أداة بطش في يد الأنظمة القمعية التي أصبحت تعتمد على الإنتربول بشكل رئيسي لملاحقة المعارضين حول العالم، متجاهلين المادة الثالثة من القانون الأساسي التي تنص على أنه يحظر على المنظمة حظرا باتا أن تنشط أو تتدخل في مسـائل ذات طابع سياسي أو عسكري أو ديـني أو عنصري.

 

موناكو.. الانطلاقة الأولى

الإنتربول هو منظمة دولية ظهرت فكرته في أبريل/نيسان عام 1914، وذلك عندما اجتمع ضباط شرطة من 24 بلدا في مدينة موناكو الفرنسية، وتم تفعيل الفكرة على أرض الواقع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

وفي سبتمبر/أيلول 1923 أُطلق الجهاز فعليا تحت اسم “اللجنة الدولية للشرطة الجنائية”، واختيرت فيينا مقرا له، ولأول مرة صدرت نشرات بشأن أشخاص مطلوبين في مجلة السلامة العامة الدولية.

وعن طريق تسجيل البيانات والتحليل يدويا، أُنشئت إدارات متخصصة لمعاملة السجلات الجنائية ومكافحة تزييف العملة وتزوير جوازات السفر، وكان ذلك عام 1930، وبحلول 1942 سيطر النازيون على اللجنة بالكامل ونقل مقرها إلى برلين.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قادت بلجيكا جهود إعادة بناء المنظمة، واعتماد نظام ديمقراطي لانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية، ونُقل مقر المنظمة إلى العاصمة الفرنسية باريس. وفي العام نفسه اختيرت عبارة “إنتربول” اختصارا للشرطة الدولية.

وصدرت أول نشرة حمراء لمواطن روسي مطلوب بتهمة قتل أحد أفراد الشرطة، وطَوّرت المنظمة النشرات وأصبحت تأخذ ألوانا أخرى، كالصفراء المخصصة للعثور على الأشخاص المفقودين، إضافة إلى الزرقاء والسوداء والخضراء والبرتقالية والبنفسجية ولكل واحدة منها غرض مختلف.

وفي 1950 وُضِع رمز وعلم للإنتربول كما، وضع اسمها الرسمي المختصر بالإنجليزية وهو (ICPO)، وهي الأحرف الأولى من المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (International Criminal Police Organization).

وفي 1956 اعتُمد قانون أساسي جديد تضمن 50 مادة ينظم عمل المنظمة كمؤسسة مستقلة تحصل على تمويلها من البلدان الأعضاء والاستثمارات، وبلغت الميزانية الإجمالية للإنتربول لعام 2018، 137 مليون يورو، كان منها 57 مليون يورو حصلت عليها المنظمة من المساهمات النظامية للأعضاء، ووصل إجمالي التمويل الطوعي 80 مليون يورو.

واعترفت الأمم المتحدة بالإنتربول منظمة دولية عام 1971، وفي 1989 نقل الإنتربول مقر أمانته العامة إلى ليون الفرنسية.

وبعد عشر سنوات، وتحديدا في 1999، اعتمدت المنظمة العربية لغة رسمية رابعة، بعد بدء العمل باللغة الإسبانية ابتداء من عام 1955، وكانت الإنجليزية والفرنسية لغتي عمل المنظمة الأصليتين.

وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 تعهد الأمين العام للولايات المتحدة “بألا تُطفأ الأنوار أبدا بعد اليوم في الإنتربول”، وأصبحت المنظمة تعمل على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع.

 

شرطة من غير عناصر شرطة

منذ اليوم الأول لإنشاء الإنتربول كان الهدف منه توقيف أكبر عدد ممكن من المجرمين عن طريق تبادل المعلومات بين جميع سلطات الشرطة الجنائية في مختلف البلدان، ودعم أجهزة الشرطة في العالم عبر ضمان حصولها على الخدمات الضرورية لأداء مهامها.

كما يوفر تدريبا متخصصا للضباط والمحققين في الدول الأعضاء البالغ عددها 190 دولة، وهو ما يجعل منه أكبر منظمة شرطية في العالم، ولدى المنظمة أيضا سبعة مكاتب إقليمية في العالم في كل من الأرجنتين والكاميرون وكوت ديفوار والسلفادور وكينيا وتايلند وزمبابوي، ولها مكتب يمثلها لدى الأمم المتحدة في نيويورك وآخر يمثلها لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ولدى كل بلد من البلدان الأعضاء مكتب مركزي وطني.

وتعد الجمعية العامة للمنظمة هي أعلى هيئة إدارية فيها، وتضم مندوبا تعينه حكومة كل دولة من الدول الأعضاء. وتجتمع الجمعية العامة سنويا لرسم سياسات المنظمة وأساليب العمل، كما تقوم بانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية (13 عضوا) التي تشرف على تنفيذ قرارات الجمعية العامة وتجتمع ثلاث مرات سنويا، كما تحدد أولويات المنظمة وأهدافها لمدة ثلاث سنوات.

وعلى عكس الشائع، لا يملك الإنتربول وحدات شرطية خاصة به تعمل في الدول الأعضاء، لكنه يعتمد على التنسيق بين وحدات الشرطة المحلية في هذه الدول وفقا للقوانين الداخلية للأعضاء.

 

يد لاصطياد المعارضين السياسيين

استخدمت الدول الدكتاتورية أساليب كثيرة لتوسيع مجال مضايقة المعارضين المطلوبين وملاحقتهم، أهمها وأكثرها سهولة “النشرات الحمراء” الخاصة بالإنتربول، حيث استغلت الدول هذه النشرات الخاصة بالمجرمين الدوليين لإحضار خصومها إليها.

وتعتبر الادعاءات المتعلقة بالفساد والجرائم المالية أكثر الأساليب انتشارا التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية ضد خصومها السياسيين، وقد تم الإبلاغ عن العديد من الحالات التي واجه فيها اللاجئون تهما إرهابية مفتعلة، بينما كانوا هم أنفسهم ضحايا الإرهاب السياسي في أوطانهم.

 وفي أفضل الأحوال إذا حصل هؤلاء المعارضون على وضع لاجئ دولي في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، فإنهم يتعرضون للاعتقال عند المعابر الحدودية، ويُجبرون على البقاء وراء القضبان لعدة أشهر أو حتى سنوات، بينما لا تزال هناك إجراءات مطولة للنظر في طلبات التسليم.

ويبقى اللاجئون على القوائم الدولية للأشخاص المطلوبين حتى بعد رفض الدول تسليمهم إلى دولهم استبدادية.

ولا يقتصر الأمر على خطر تسليم المعارضين لأنظمة بلادهم، فمجرد وضعهم على قائمة النشرات الحمراء للإنتربول يعرضهم لخطر فقدان وظائفهم وسبل عيشهم، إضافة لرفض تأشيرات السفر، ورفض طلبات اللجوء، وإغلاق الحسابات المصرفية، ورفض طلبات القروض.

ويتضح حجم المشكلة عبر العديد من الحالات البارزة التي أساءت فيها الدول الاستبدادية استخدام الإنتربول لملاحقة معارضيها في الخارج، منتهكة بذلك المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق اللاجئين.

ويُعتبر رئيس اتحاد علماء المسلمين سابقا الشيخ يوسف القرضاوي من أشهر من أُدرج ضمن قائمة المطلوبين في الإنتربول لمعارضته الحكومة المصرية، ولكن في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي ألغى الإنتربول الإشعارات المتعلقة بملاحقته بعد تأكدها من أن ملاحقته تنطوي على أسباب سياسية.

ولم يكن القرضاوي الوحيد الذي تلاحقه مصر، فبعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013 أصبحت النشرات الحمراء الطريقة المفضلة لدي الحكومة المصرية لملاحقة معارضيها.

ففي أغسطس/آب 2018 اعتقلت إيطاليا الدكتور محمد محسوب وزير الشؤون القانونية في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي على خلفية مطالب مصرية عبر الشرطة الدولية لملاحقته، وقبلها بعام اعتقلت السلطات الألمانية الناشط السياسي عبد الرحمن عز في مطار شون فيلد ببرلين بسبب مذكرة من الإنتربول رغم حصوله على اللجوء السياسي في بريطانيا.

السلطات التايلندية ألقت القبض على اللاعب البحريني حكيم العريبي طبقا لمذكرة من الإنتربول، وبقي قيد الاحتجاز في تايلند نحو شهرين إلى أن أفرجت عنه بعد ذلك

 

أما لاعب كرة القدم البحريني حكيم العريبي فكان خُيّل إليه أنه هرب من الحكومة البحرينية عندما فرَّ إلى أستراليا منذ أعوام كلاجئ سياسي، فجازف بقضاء عطلة شهر عسل في تايلند، لكن السلطات قبضت عليه فور وصوله طبقا لمذكرة من الإنتربول وقرَّرت إعادته إلى موطنه الأصلي، وبقي قيد الاحتجاز في تايلند نحو شهرين إلى أن أفرجت عنه بعد ذلك.

ومن البحرين إلى الجزائر قرّرت لجنة الرقابة بالإنتربول في 13 أيار/مايو 2016 بعد معركة قانونية طويلة، أن تشطب من قوائمها مذكرة التوقيف الدولية الصادرة من السلطات الجزائرية في العام 2003 بحق المحامي رشيد مصلي المدير القانوني لمنظمة الكرامة لحقوق الإنسان.

وواجه رجل الأعمال التونسي المقيم في لندن محمد علي حراث نفس المصير عندما أصدر نظام الرئيس التونسي المعزول زين العابدين بن علي تأشيرة حمراء لملاحقته دوليا.

واتُهم حراث بعدد من الجرائم مثل الإرهاب واستخدام أسلحة ومتفجرات، وظل ملاحقا من الإنتربول لمدة 20 عاما، وبعد سقوط بن علي بثلاثة أشهر أزال الإنتربول اسمه من القائمة، وأخبره أنه “بعد إعادة النظر في جميع المعلومات الموجودة في الملف، خلص إلى أن التهم الموجهة إليه كانت ذات طبيعة سياسية في المقام الأول”.

واستغرق الأمر من الإنتربول 18 شهرا لقبول إشعار آخر صدر عام 2006 ضد باتريشيا بوليو، وهي صحفية تحقيق فنزويلية حائزة على جوائز دولية تعرضت للتهديد بسبب تقاريرها عن تورط الحكومة مع المتمردين الكولومبيين، مما دفع المحكمة الأميركية لحقوق الإنسان إلى إصدار قرارات عامة تأمر باتخاذ تدابير احترازية لحماية سلامتها.

وهناك أيضا نابليون جوميز المسؤول النقابي المكسيكي الذي قام بحملة من أجل الحقيقة بعد كارثة تعدين فظيعة وصفها بأنها “جريمة قتل صناعية”، وردّت السلطات المكسيكية باتهامه بالفساد. فقد هرب جوميز إلى الخارج وعاش تحت تهديد إشعار أحمر، وبالكاد يستطيع التحرك دون أن يتم القبض عليه.

وهناك آلاف الحالات من مختلف دول العالم، ووفقا لمؤسسة فريدوم هاوس فإن معظم أعضاء منظمة الإنتربول هي دول غير ديمقراطية، حيث إن 104 دول من أصل 190 “ليست حرة” أو “حرة جزئيا” فقط.

يُعتبر رئيس اتحاد علماء المسلمين سابقا الشيخ يوسف القرضاوي من أشهر من أُدرج ضمن قائمة المطلوبين في الإنتربول لمعارضته الحكومة المصرية

 

إشعار أحمر.. دون قيود

وتعد أحد أبرز التناقضات في نظام الإنتربول هي أن مَنح وضع اللاجئ في بلد من البلدان الأعضاء في المنظمة لا يؤثر على وضع الشخص المطلوب. فكثير من السياسيين والناشطين في الدول الاستبدادية حصلوا على حق اللجوء في الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، وثبت وجود بُعد سياسي في ملاحقتهم، ورغم ذلك لا تتم مراجعة “الإشعار الأحمر” ولا تتم حماية هذا الشخص من الاعتقال رغم علم الإنتربول بأنه قد يواجه خطر التعذيب وسوء المعاملة، وحتى قد يُحكم بالإعدام.

لذلك تُطالب الجمعيات الحقوقية بأن تضم ملفات لجنة مراقبة الإنتربول خبراء في القانون الدولي الخاص باللجوء بالتعاون مع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان.

وفي النهاية على المنظمة أن تعترف بوجود قصور كبير في نظامها الذي يقدم نفسه على أنه منظمة ديمقراطية حارسة للقانون، فما زالت هذه المنظمة تستقبل وتنفذ أوامر اعتقال تصدرها أنظمة دكتاتورية دون تحفظ أو مراجعة، فهل يبدأ الإنتربول عامه الجديد بحلول جذرية لهذه الأزمة؟

 

المصادر:


إعلان