نيوتن.. سقطت تفاحة فهل يسقط القمر؟
يمان الشريف
حينما ضجّت لندن العاصمة الإنجليزية بشبح الموت الأسود مجدداً، بعد أن قضى هذا الشبح -وهو مرض الطاعون- على ثلثي سكان قارة أوروبا في القرن الرابع عشر وقد كتبَ ابن خلدون عن تلك الكارثة “تعرضت المدن والمباني للدمار، والطرقات طُمست معالمها، والبيوت والقصور خلت، والقبائل والسلالات تضرر نموها، لقد تغير العالم بأكمله”.[1] عاد مرّة أخرى ليطرق أبواب مدينة الضباب وبيده منجله، يجرّه على الطرقات الخالية التي استوطنتها الذئاب، محدثًا صريرًا مريعًا كلما زادت سرعته لينقض على الضحية التالية.
يُقدّر المؤرخون أن ثمانية آلاف ضحية كانت تشهدها المدينة أسبوعيا بين عامي 1664 و1665. في تلك الفترة التي كان يتردد فيها طالب الماجستير الشاب إسحاق نيوتن على جامعة كامبردج، وبسبب ما آلت إليه أحوال البلاد من سوء وترد في المعيشة، أعلنت الجامعة وقف التدريس حينا من الزمن ريثما تستقر الأوضاع مجددا وينجلي الطاعون.
تفاحة سقطت فنهض العِلم
لم ينتظر نيوتن كثيرا كي يعود إلى بلدته الصغيرة الواقعة في مقاطعة “لينكولنشاير” على الساحل الشرقي من المملكة البريطانية، وهو المكان الذي وُلِد فيه عام 1642 وترعرع. كانت ميوله العلمية بارزة، وكان يفضل الانعزال بكتبه على إدارة شؤون المزرعة أمام منزلهم منذ الصغر.
وفي ذلك العام بعد عودته، باتت تلك المزرعة المكان الأشهر والشاهد على أكثر الأحداث جدلا في تاريخ العلم، حيث يدخل الشاب نيوتن صراعا جدليا حادا مع نفسه وهو يستلهم فكرة مجنونة جاءت بسبب سقوط تفاحة، ربّما سقطت على رأسه أو أمام قدميه، لكنها سقطت نحو الأرض في كلتا الحالتين.[2]

لحظة جمود سيطرت عليه عندما تخيل أن هذه الشجرة التي سقطت منها التفاحة قد تمتد إلى الأعلى بطول برج بيزا الكائن في مدينة العالِم الإيطالي غاليليو غاليلي، وهو الذي قام بتجربته الشهيرة بإلقاء كرتين بكتلتين مختلفتين من أعلى البرج وشاهد كيف أنّهما تصلان إلى سطح الأرض في الوقت نفسه.
وذهب نيوتن بعيدا بتخيلاته وقال: ماذا لو كانت الشجرة بارتفاع يصل إلى مستوى القمر؟ ستسقط التفاحة بذات الاتجاه. ولكن هل يمكن أن يسقط أيضا القمر نحو الأرض؟
وهُنا لمعت فكرة الجاذبية وقوانين الحركة في ذهن نيوتن، فاستبطن أن القوة الخفيّة التي أجبرت التفاحة على السقوط، هي ذات القوة التي تجعل القمر مرتبطا مع الأرض وِفقَ مدارات ثابته حسابيًا، وأن الأمر الوحيد الذي يمنع القمر من الارتطام بالأرض هو أنّ للقمر سُرعة أفقية بمقدارٍ معين وهو ما لا تمتلكه التفاحة، والنتيجة هي أنّ القمر في حالة سقوط دائم نحو الأرض.
أعجوبة علمية خالدة
كرّس نيوتن تلك السنوات القليلة وهو بعيدا عن جامعته في دراسة حركة الأجرام مستعينا بالحسابات الفلكية لمن سبقوه مثل العالم البولندي كوبرنيكوس صاحب نظرية مركزية الشمس، والعالم يوهان كبلر صاحب قوانين حركة الكواكب وقانون حفظ الزخم المداري، والعالم غاليليو غاليلي المرتبط بحساب قيمة التسارع الأرضي المعروف بـ9.81 متر لكل ثانية تربيع. وقال مستشهدا على ذلك “إذا كنت أرى أبعد من غيري، فلأنني أقف على أكتاف عمالقة”.[3]
مع مخزون المعلومات الهائل، وبمعونة صديقه وسيم الطلعة عالم الفلك إدموند هالي، قام بطرح أعجوبته العِلمية الخالدة التي لم يفهمها أحد حينها، كتابه “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” الذي يُعد من أهم الكتب العلمية في التاريخ. فقد ضم الكتاب ثلاثة أجزاء: الأول يتحدث عن مسائل تتعلق بالحركة دون تأثير الاحتكاك، والثاني يتعلق بحركة الموائع وتأثير الاحتكاك على حركة الأجسام، وأخيرا الجزء الثالث عُنوِن بـ”نظام العالم”.

تكمن أهمية هذا الكتاب أنه أعطى حلولا رياضية لم تكن مُصاغة من قبل، إذ إنّ الحسابات والقوانين الرياضية التي دأب نيوتن على تطويرها في علم التفاضل والتكامل تمكنت من إيجاد وصف فيزيائي مطابق لما هو في الواقع لحركة الكواكب، وحركة الأجسام الأخرى بجميع أنماطها.
ولو أردنا مشاهدة كون نيوتن من بعيد، سنرى الكونَ من بين أسطر هذا الكتاب على أنه فراغ لا نهاية له، وأنّ مساحةً صغيرة جدا تشغلها مجسمات تتحرك بشكل أبدي، وأنّ جميع أنواع الحركة مختزلة في قوانين ميكانيكية بعيدة كل البعد عن تأثير الإنسان. فالكون في حالة انسجام وتناغم رهيبين مبني على مبادئ منطقية تربط كل جُسيم من المادة بجُسيم آخر في علاقة رياضية محكمة، فيمنع حدوث أي تشويش أو فوضى في عالم الحركة.
وعلى الرغم من عجز نيوتن عن فهم السبب وراء قوة الجاذبية التي أوجد لها قانونا رياضيا، فإنه تمكّن من جمع علمَي الفضاء والفيزياء في إطارٍ واحد، وذلك باعتماد أن قوة الجاذبية هي المسؤولة عن حركة الأجرام السماوية، وبذلك حقق ما كان يطمح إليه مَن سبقوه من علماء أمثال فيثاغورس وكوبرنيكوس وغيرهما. ولم يُرفع الحجاب عن سبب وجود قوة الجاذبية إلا بعد 250 عاما على يد العالم آينشتاين عام 1916.
عزوف علمي ونزوع سياسي
بعدما نشر نيوتن كتابه عام 1687، دخل في موجة اكتئاب وفقد رغبته بمواصلة الأبحاث العلمية، وأصبح يميل إلى الحياة السياسية، وطلب من زميل له في لندن أن يبحث له عن منصب في الحكومة.
وفي عمر الرابعة والخمسين أصبح نيوتن مراقبا في إحدى المراكز المسؤولة عن طباعة الأموال، وبدا عليه الكثير من الحماس كما لو أنّه أعاد اكتشاف الجاذبية مجددًا. وبسبب خلفيته الرياضية القوية، استطاع القيام بتغييرات في النظام المالي الإنجليزي أثّرت إيجابا في الدولة لمئة عام.

وفي السنوات القليلة التي تلت عُيّن رئيسا للجمعية الملكية، وتقلد الكثير من الأوسمة، وحصل على لقب الفارس. ثم عاد لينشر كتابا آخر في المجال العلمي سمّاه “البصريات”، وأحدث ثورة حينها، إذ إنّه تناول فيه مواضيع عدة مثل سلوك الضوء وتحليله ودراسة الطيف المرئي عن طريق تجارب اعتمدت على انكسار الضوء باستخدام عدسات ومنشورات، وأيضا شرح آلية عمل العين.
وما ميّز هذا الكتاب وجعله في متناول جميع سكان المملكة أنّه كان باللغة الإنجليزية، بخلاف الكتاب الأول “الأصول الرياضية” الذي كُتب ونُشر باللغة اللاتينية.
وقد غيّر العالِم نيوتن الاعتقاد السائد في أوروبا عن آلية الرؤية بالعين، فقد كان المعتقد السائد آنذاك هو الذي وضعه أفلاطون وهو أنّ العين تُصدر إشعاعات ضوئية تسمح لها برؤية الأشياء، وهي النظرية التي تُدعى الانبعاثات، إلى أن جاء العالم العراقي المسلم الحسن بن هيثم ليدحض ذلك المعتقد في كتابه “المناظر”، وبعدها جاء نيوتن ليضع النقاط على الحروف ويبلور المعتقد الصحيح لآلية عمل العين، وذلك أنّ الضوء يرتطم بالأجسام ثمّ يرتدّ إلينا فنبصره، وكل ذلك يحدث بسرعة الضوء العظيمة.
بحث في الخيمياء والكرونولوجيا.. في الخفاء
وبعيدًا عن أعماله العلمية الظاهرية، كان لنيوتن جانبٌ خفي واهتمامات مريبة مثل تحريه وبحثه في الخيمياء، وهو فن وممارسة غامضة تربط بين الكيمياء والفيزياء والتنجيم وعلم الرموز والفلسفة وأحيانًا الطب. فمن سنٍ باكرة كان نيوتن شابا مولعا بجميع أنواع علوم الطبيعة ولا سيّما المركبات الكيميائية، فقد كانت كتابات نيوتن تشير إلى أن أبرز أهدافه في مجال الخيمياء هي محاولة اكتشاف “حجر الفلاسفة”، ويُعد هذا الحجر مادةً أسطورية تقوم بتحويل أي معدن إلى الذهب.

ولعّل السبب وراء غموض نيوتن في هذا المجال أنّ بعض ممارسات الخيميائيين كانت محظورة في بريطانيا بأمر ملكي. وقد بقيت كل تلك الخبايا ضمن مخطوطات نيوتن الخفية التي تُقدر بعشرة ملايين كلمة لم تنشر لأنّه كان يخشى على نفسه من أن يُنعت ويُتهم بالهرطقة بسبب ما يبديه من رحابةٍ في الحديث عن آرائه الدينية بعد دراسته وارتباطه بتفسير الإنجيل.[4]
ومن تلك الاهتمامات أيضا، بحثه في علم الكرونولوجيا ودراسته للتسلسل الزمني للأحداث التاريخية. فبعد وفاته بعام طُبع كتابه “التسلسل الزمني للممالك القديمة” الذي اشتمل على ستة فصول لستّ ممالك استغرقت الفترة من عصور الإغريق الأولى إلى الإمبراطورية الفارسية.
ووفقًا لما توصل إليه من حسابات رياضية وربطها بالتسلسل التاريخي، تنبأ بنهاية العالم قبل عام 2060 بحسب وثيقتين صدرتا في القرن الماضي. وعلى الرغم من أنّ الوثيقة الثانية كانت لا تشير لأي حدث مأساوي سيدمر الأرض، فإنه يُعتقد بأن أمرا ما سيطهّر الأرض ويحل السلام على الكوكب.[5]
رهبنة العلماء
وعلى صعيد حياته الشخصية، لم يتزوج نيوتن مطلقًا، وذلك يعود إلى تأويلات عدة منها أنّ تقاليد الجامعات الرائدة مثل جامعة كامبردج وجامعة أوكسفورد كانت تطلب من الطلاب والمعلمين والبروفيسورات عدم الزواج، وذلك كان تأسيًا بنظام الجامعة الكاثوليكية في العصور الوسطى. ولم يكن الوحيد بين أقرانه في العزوبية، فمثله ليوناردو دافنشي وكوبرنيكوس وجاليليو وجوتفريد لايبنتز لم يتزوجوا مطلقا.
ذلك لم يمنع محاولة أصدقائه من تزويجه والبحث له عن سيدة بعدما أنهى رحلته المهنية الطويلة في جامعة كامبردج في السن الستين، فقد حاول صديقه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أن يقدم له امرأة ويُعرفه بها على أمل أن تكون له شريكة مستقبيلة، لكنّ الرسائل بين نيوتن وجون لوك أظهرت ردة فعل سلبية وحادة من نيوتن حيث يقول “تسعى لكي تورطني مع امرأة”.[6]

وترى آراء أخرى أن سبب عدم إقبال نيوتن على الزواج هو أنّه كان يعاني من متلازمة إسبرغر، وهو اضطراب في النمو يرتبط بالتوحد وبمستوى تفكير عالٍ فوق المتوسط ومقرون بعدم القدرة على التواصل الاجتماعي.
وبعد سنواتٍ طويلة مليئة بالإنجازات والتحديات والغموض، بعد أن وُلد يتيما وعاش مع جده بعيدا عن أمه التي تركته للعيش مع زوجها، أمضى نيوتن حياة طويلة بين الكتب والتأملات واضعا منهجا جديدا للبحث العلمي، ومُنشئا فرع الفيزياء الكلاسكية الذي يُعرف باسمه “فيزياء نيوتن”.
وفي التاسع والعشرين من أبريل/نيسان عام 1727 توفي العالم إسحاق نيوتن تاركا وراءه إرثا عظيما، وتاركا وراءه قمرا في حالة سقوط دائم نحو الأرض.