بغداد.. بنت العباس وأم المنابر والدموع

 

أمين حبلا

“من ذا أصابكِ يا بغداد بالعين
ألم تكوني زمانا قرة العين”.

قرة العين بنت التاريخ ورفيقة الشمس، تعيش عرسها الأبدي مع الدموع، فالدمع ثالث دجلة والفرات يسير معهما منذ مئات السنين على خدود بغداد الشاحبة.

من أين اكتست هذه المدينة الغارقة في أعماق الدم والعطر كل هذا الألق وهذه الجاذبية التي تجعلها محط أنظار الأذكياء والأخيار والنوابغ والغزاة واللصوص منذ آلاف السنين.

كل هؤلاء تسلقوا مآذن بغداد، بين صادح بنداء الفطرة الخالد وفنان يعزف قيثارة الأيام على وقع نحيب الفرات وهو يشدو مع نواعير دجلة بعض ترانيم ابن زريق.

شناشيل بغداد وأبلامها وشرفات مدائنها الخالدة ما زالت شاهدة على قصة بغداد وأيامها الزاهية منذ عهد المدائن إلى عهد الفوضى الخلاقة التي غزت العراق بجنود من شذاذ آفاق البلاد، لتحرير العراق من صدام حسين وإدخاله في أتون ملتهب من الأزمات العرقية والطائفية والدينية.

قدر بغداد بعد أن احتلت عين الشمس منذ قرون وأصبحت قبلة الوافدين بنِيّات ومقاصد شتى أن تظل حليفة الدموع والألم وألا تكمل حقبة من الرفاه ومد أشرعة العز على ضفائر العالم حتى تعاجلها نكبة مؤلمة تشق للدمع والدم طرائق على خدود الرافدين.

 

بنت العباس.. بستان الدماء والفن

ولدت بغداد من رحم الحضارات المتعاقبة منذ الآماد. ولأن بغداد إحدى كريمات العراق المصنّف من اليونسكو باعتباره قطعة أثرية كاملة، فإن لبغداد أيضا عبقا طويلا من تاريخ السنين.

دخل المسلمون سوق القرية الصغيرة بغداد سنة 13 للهجرة، ومنذ ذلك اليوم راج سوق الإسلام في تلك المدينة وأصبح السواد أو العراق إحدى محطات ومعالم التاريخ الإسلامي عموما.

ولدت بغداد لتكون إحدى كرائم الدولة العباسية الأول، أو قل هي بنت العباس وكريمة العباسيين الذين اختاروا لها المكان والمنطقة الأكثر صفاء وأمنا، هكذا اختارها أبو جعفر المنصور لتكون حلقة وصل بين مملكته التي بدأت أطرافها تترامى شرقا وغربا، وأرادت الأقدار وسجلات التاريخ ببغداد غير ذلك وأكثر منه.

يختلف المؤرخون حول التسمية ويرى بعضهم أنها كانت سابقة على العمران، وأن ذلك السهل الفسيح الذي شهد أعظم أحداث التاريخ خلال الألف سنة الماضية كان اسمه بالفعل بغداد، أي بستان داد. وبين كل الاحتمالات والشروح والتفسيرات تبقى بغداد مدينة الملامح والوجوه والحقب والتاريخ المتغير، تاريخ النماء والدماء والصراع والمحاريب والفن والنواعير الصادحة.

تزينت بغداد خلال أعوامها المنيفة على 1300 سنة بتاريخ عميق متضارب الاتجاهات، وتوزعت فيها المذاهب والنحل والملل والأهواء حيث كان فيها لكل دين عابد متأله، ولكل لغة لسان متحدث، والجميع أبناء بغداد.

وفي بغداد أيضا انتعشت لقرون سوق الكتب وجرى مداد التأليف في بطون القراطيس بأسرع مما جرى الفرات في سهول العراق، غير أن مصادفات المحن أن تصبغ دجلة بمداد المؤلفات والدواوين بعد أن قذف بها الهمج إلى النهر، لتغير لونه ومجراه، ومجرى التاريخ والأيام والحقب.

انتفضت بغداد بعد هولاكو، غير أنها لم تنس جراحه، فقد أطل عليها أكثر من مرة بأسماء وعناوين وأسلحة متعددة، وفي كل حملة وسقوط لبغداد جاثية على ركب الأيام، تكون الخيانة المفتاح الأساسي الذي يشرع أبواب مدينة السلام أمام الغزاة الذين حافظوا دائما على أخلاق الهمج، كما تحافظ بغداد على دموعها وسعيها إلى النهوض من الكبوة.

 

مدينة الحقب المتناثرة

تعددت أسماء بغداد، فمع أن اسمها الرسمي في أوراق التاريخ والهويات الثبوتية للمحن والأزمات لا يزال كما كان “بغداد”، إلا أنها حملت أسماء أخرى متعددة من بينها مدينة السلام، ذلك السلام الذي تبرعمه كل حقبة سيول الفرات وأنسامه، قبل أن يختطفه الغزاة ويقدموه قربانا على مذابح الألم.

دار السلام ليست الاسم الوحيد لبغداد، فقد حملت أيضا اسم المدينة المنورة تلميحا إلى بنيتها الهندسية التي جاءت قديما على شكل دائري.

تمتد بغداد على 660 كلم مربع يفصل دجلة بين كرخها ورصافتها، وعلى ضفاف دجلة تترامى وتتداخل أحياء الضفتين، وتتعدد أسماؤها، وفي ظلال كل حي وتحت أبنيته وبين شوارعه تتقافز ذكريات التاريخ والألم والحب والموسيقى والفن.

في كل محاريب بغداد ذكريات للمتصوفة الذين وجدوا في كرخ بغداد وفي خانات الرصافة مأوى يسع فقراء الطريق إلى الله. تراقص الدراويش على أنغام الذكر، وحلّقت موسيقى الأيام على نمنمات زرياب في قيثارة السنين.

تضم بغداد بين رئتيها كالأم الحنون أكثر من سبعين حيا ومنطقة سكنية من أشهرها أبو دشير والأعظمية والجادرية والسعدون وأحياء الرضوانية والصالحية والكاظمية والنهروان واليرموك وأحياء الكرادة، فيما يقف شارع المتنبي ضمن شوارع بغداد ليلقي على مسامع الأيام بعض قصائده الخالدة، ويردد على آذان بغداد المثقلة بضجيج المحن “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.

ليس المتنبي الوحيد في بغداد، فهنالك مقام الإمام أبي حنيفة النعمان، ومقامات أحمد بن حنبل والجنيد الصوفي وصاحب السر الصوفي السهروردي، وهنالك ابن عساكر صاحب تاريخ بغداد والخطيب البغدادي وزرياب الفن العراقي الأصيل.

وإلى جانب ذلك فإن بغداد تزخر بعشرات المشاهد والمساجد والمعالم الخالدة ومن بينها المدرسة المستنصرية، والمساجد الإسلامية القديمة، والقصور الأثرية، والمتحف الوطني الذي يضم أهم الآثار العربية والبابلية والفارسية.

ومن بين مقاماتها الشهيرة مقاما الإمامين موسى الكاظم، ومحمد الجواد في الكاظمية من بغداد، ومقام أبي حنيفة النعمان وتلميذه أبي يوسف، ومقام ومرقد عبد القادر الجيلاني، ومقام عمر بن حفص السهروردي.

ومن أشهر مساجدها مسجد الشهيد المبني على الطراز الأندلسي وهو من أحدث مساجدها، ومسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في حي الأعظمية المسمى باسمه، ومسجد الشيخ معروف الكرخي، ومسجد الخلفاء العباسيين المعروف قديما بجامع القصر أو جامع الخليفة، وجامع حيدر خانة وهو من أعتق جوامع بغداد صنعة وإحكاما.

ويوجد في المدينة متحف تُعرض فيها الآثار المختلفة من جواهر وعملات وهياكل بشرية وتماثيل من عصور ما قبل التاريخ حتى القرن السابع عشر الميلادي.

ومن الآثار العربية فيها بقايا سور بغداد ودار الخلافة والمدرسة المستنصرية ومقر المعتصم ومسجده الشهير، والقصر العباسي والمشهد الكاظمي وجامع المنصور وجامع المهدي وجامع الرصافة والمدرسة الشرفية والمدرسة السلجوقية والمدرسة المستنصرية.

صورة بانورامية لمدينة بغداد دار الحكمة ومنارة العلم وعاصمة هارون الرشيد والمأمون

 

أيام خالدة ودول متعاقبة

في دفتر الذكريات البغدادية أيام كثيرة وتواريخ عظيمة تركت بصماتها على رئة الزمان، سواء تعلق الأمر بتواريخ تشييد مدن بغداد وأحيائها، أو تواريخ الكوارث المتعددة التي تأتي مرة غضبا من دجلة، حيث ترتفع مياهه لتغرق أحياء ضفافه، قبل أن يعود إلى مزاجه الهادئ، باعتباره أبو العراق الحنون.

ولم يخل تاريخ بغداد من كوارث وأوبئة فتاكة تركت بصماتها القاتلة على ذاكرة السكان خلال القرون.

كما تعاقب على مُلك بغداد وعلى صهواته السياسية أنظمة متباينة وزعماء متصارعون وتاريخ سياسي متناقض، حيث كانت ضمن العراق الكبير تحت ظل الدولة الفارسية الأولى قبل أن تدخل في الحضن الإسلامي، وتحت هذا الحضن الفسيح عرفت بغداد أسماء وزعامات متعددة، فقد رافقت ثلاثة من الخلفاء الراشدين منذ فتحها سنة 13 هجرية، كما رافقت الدولة الأموية طيلة 92 سنة.

ولأنها بنت العباس فقد تحولت إلى دار الخلافة طيلة خمسة قرون انتهت بمأساة التتار، وضمن الحقبة العباسية نفسها عاشت بغداد تحت أسماء زعامات مختلفة ودول متعددة من بينها دولة البويهيين ودولة السلاجقة بعد أن تحولت الخلافة العباسية إلى شعار.

أخذ المغول أيضا حصتهم الطويلة من حكم بغداد، فهولاكو ومِن بعده تيمور لنك وآخرون كثر قدموا من وراء البحار ليسوموا بغداد سوء العذاب، وعلى امتداد فترة طويلة شهدت بغداد حالة نِطاح قاسية بين قبيلتي الخروف الأسود والخروف الأبيض المغوليتين اللتين حكمتا أجزاء كبيرة من العراق وإيران وآذربيجان.

وبعد المغول جاء الدور على الصفويين ليحكموا العراق وبنته الكبرى بغداد عدة قرون، قبل أن يأتي الدور أيضا على العثمانيين ومن ثم الاحتلال البريطاني الذي أسلم العراق إلى حكم عراقي بأسماء وألقاب مختلفة.

 

بغداد بين غزوين.. هولاكو وبوش

لا تزال ذاكرة العالم رغم كل ما مر عليها من أهوال مشدوهة أمام حجم الفظاعة التي ارتكبها جنود هولاكو حين قرر بعنف سحق زهرة المدائن.

وكان المؤرخ المشهور ابن الأثير من أشهر المؤرخين الذين بكوا بغداد دمعا ودما بعد سقوطها، محجما عن الحديث عنها قبل أن يُقدِم ويتجاسر “لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجلا وأؤخّر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسْلام والمسْلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا”.

ويسجل المؤرخ ابن كثير بقلم الأسى تلك النكبة قائلا “وعادت بغداد بعدما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وقد اختلف الناس في كمية من قُتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة؛ فقيل 800 ألف، وقيل ألف ألف وثمانمئة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، ومازال السيف يقتل أهلها أربعين يوما”.

ولم تكن بغداد تتوقع أن يمر عليها هول أشد فظاعة من احتلال هولاكو، غير أن جعبة الأيام كانت مليئة بما لا تشتهيه مدينة السلام، فقد كانت على موعد آخر في 9 أبريل/نيسان 2003 مع الفوضى الخلاقة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ومهد لها الجنرالات الأمريكيون بآلاف القتلى بعد حصار طويل راح ضحيته قرابة مليون طفل عراقي.

تقاربت الحصيلتان، وكان الفارق في حجم الفظاعة، فقد سقط قرابة مليون قتيل في العراق منذ الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين، مع انهيار كامل وتام للبنى التحتية والأمن والتنمية في العراق، إضافة إلى انتشار الأمراض الفتاكة بسبب الأسلحة المحرمة دوليا والتي وجدت في أجساد العراقيين فرصة للتجريب وترك بصمات الألم الفظيع فيها.

دخلت الولايات المتحدة تحت غطاء تحرير الشعب العراقي من صدام حسين بعد أن أذاقته الحصار المر طيلة عشر سنين، وخرجت بعد سنوات دامية بعد أن ملأت سجل التاريخ الحديث بجرائم وحشية ارتكبها الجنود في المدن العراقية وفي شوارع بغداد. وفي سجن أبو غريب على سبيل المثال ارتكب المجندون الأمريكيون كل غريب من أنواع الجرائم والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان.

بين الغزوين توحدت ملامح الغزاة، فكل منهم غريب الوجه واليد واللسان على بغداد، وكل واحد منهم يحمل في قلبه حقدا دفينا على بغداد، يُحمّلها جرائم الكون كلها ويقتص منها لجرائر الأيام.

وفي كلا الحقبتين كانت بغداد في ظل نظام متخاصم مع جزء من شعبه، وفي الحالتين أيضا سهّلت الخيانة طريق الغزاة، ففي الغزو المغولي كانت خيانة مؤيد الدين ابن العلقمي ومن شايعه من مغاضبي الخليفة العباسي بوابة النار والألم الذي التهم كل بغداد، وفي 2003 كانت خيانة عدد من قادة الجيش العراقي سببا كافيا لانهيار منظومة الدفاع العراقي أمام السطوة العنيفة لـ”العلوج والطراطير الأمريكان”.

وبين الغزوين تبقى بغداد شاهدة ألم ووسادة لجماجم الحقب المتناثرة، وقصة مؤلمة للصراع التاريخي بين الغزاة والحضارة.


إعلان