صقلية الإيطالية.. أوروبية ببصمة وروح إسلامية

حبيب مايابى

لقيت صقلية اهتماما كبيرا من قبل الأمراء المسلمين، حيث شهدت محاولات الغزو في بداية العهد الأموي

عَرفت الإسلام مبكرا وكانت من أوائل البقاع التي وطئتها أقدام الفاتحين في القارة الأوروبية، وبتعاقب الإمارات الإسلامية عليها شهدت نهضة حضارية وثقافية لا تزال آثارها تأبى الاندثار رغم طول الزمان وعبث أيدي الحاقدين.

مدينة صقلية بإيطاليا محور فيلم أنتجته الجزيرة الوثائقية سنة 2019 بعنوان “آثار مسلمي صقلية”، سلطت فيه الضوء على معالم الحضارة الإسلامية التي ظلت تلهم المدينة قيم التسامح والانفتاح.

وبحكم موقعها الجغرافي في وسط البحر الأبيض المتوسط لقيت الجزيرة الإيطالية اهتماما كبيرا من قبل الأمراء المسلمين، حيث شهدت محاولات الغزو في بداية العهد الأموي.

وفي القرن الثالث الهجري وضع الأغالبة سيطرتهم على تلك المدينة وبدأ الإسلام ينتشر في ربوعها، فشهدت مدنها نهضة وازدهارا بعد ما كانت تعاني من الانحطاط خلال حكم البيزنطيين.

نهضة الفاتحين

قامت خلال العهد الأموي محاولات وجهود كبيرة لفتح صقلية، ورغم قوة الدولة الإسلامية حينها فإنها لم تستطع أن تبسط نفوذها على تلك المدينة.

وفي القرن الثالث الهجري وجه زيادة الله بن الأغلب -رابع أمير لدولة الأغالبة في القيروان- جيشا لفتح صقلية، فاستتب له أمرها وبدأ صوت الإسلام يعلو من وهادها إلى تلالها.

غاب حكم الأغالبة بعد قرن، وجاء الفاطميون فزادوا من شأن المدينة، فأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها مَن كان قبلهم.

تعاقبت على المدينة أحكام وإمارات إسلامية فشهدت بناء حضاريا وازدهارا ثقافيا من خلال التيارات الفكرية والمذاهب العقدية المتنوعة، فأصبح الانفتاح وقبول التعدد من أهم سماتها.

رسخ المسلمون ثقافتهم الإدارية في مفاصل الدولة من خلال نظام الديوان وضرب النقود، وبنوا المساجد وشيدوا القصور وأقاموا القلاع والأسوار.

ويتحدث التاريخ عن مدينة “الخالصة” في صقلية والتي كانت آية في حسن البنيان وعرفت بحدائقها الغناء ومساجدها الكثيرة التي بلغ عددها 300 مسجد.

وبعد قرنين ونصف من الزمان على ازدهار الإسلام في صقلية تكالب الأمراء على العرش وساد الخلاف والتشرذم بينهم فضعفت الدولة حتى سقطت في يد جيش النورمان.

قامت خلال العهد الأموي جهود كبيرة لفتح صقلية، ورغم قوة الدولة الإسلامية حينها فإنها لم تستطع أن تبسط نفوذها على تلك المدينة

بقية من تراث إسلامي

بثت الجزيرة الوثائقية في فيلمها عن صقلية لقطات من أحد الأسواق الشعبية في المدينة، وظهرت حركته شبيهة بأسواق القاهرة والدار البيضاء، فالزحمة وأصوات الباعة بالنداء على بضائعهم مظاهر مميزة لأماكن التبضع ذات الكثافة السكانية في الدول العربية.

ولا تنحصر الثقافة في الأسواق وتنظيمها بل تتجاوز إلى اللغة والمسميات والوجبات الغذائية وطريقة الري الزراعي الذي ما زال قائما في مزارع حوض الكونكورد.

ويعتبر الأثر اللغوي من أكثر ما تركه العرب المسلمون، فعلى شاطئ الصيد يستخدم الصيادون مسميات عربية خالصة مثل “الشبكة” وكذلك “الريّس” الذي يعني رئيس الصيادين.

وفي دروب باليرمو يحضر الفن المعماري في كاتدرائية المدينة التي تُزين مدخَلها آيات قرآنية منقوشة بالخط الكوفي، وفي داخلها يوجد النقش والزخرفة المغربية على أعمدتها.

ويُقِرُّ المزارعون أن نظام الري الذي يستخدمونه يرجع الفضل فيه للعرب، ويتجلى ذلك في “الجيبة ” وهي طريقة لتوزيع المياه في البساتين.

وفي حديثه لوثائقي الجزيرة يقول أستاذ الجيولوجيا بجامعة باليرمو الدكتور بيترو تودارو “إن نظام الجيبة لضخ المياه والذي نسميه اليوم جابيه هو نظام شرقي جاءت به الحضارة الإسلامية أيام دولتها في صقلية”.

وتصنف مزارع الكونكورد أو الحوض الذهبي بأنها ما زالت قائمة على التقنيات التي أدخلها العرب والمسلون قبل عدة قرون.

ويضيف الأستاذ أن البرتقال والليمون من الإرث الزراعي الأهم الذي ورثوه من العرب لأن زراعة الحمضيات لم تكن معروفة قبلهم في تلك المنطقة.

يعتبر الأثر اللغوي من أكثر ما تركه العرب المسلمون

الكسكس والحلوى

وفي سان فيتو لوكابو شمال غرب صقلية تعطي واحات النخيل الموجودة منذ أيام الفاطميين رونقا وجمالا للشوارع والأماكن العامة.

وفي نفس المدينة توجد مطاعم الوجبات التقليدية التي تعكس تراث الأوائل وثقافتهم في الأكل.

وجبة الكسكس إحدى الوجبات التي تُقدَّم أطباقها يوم الأحد وهي وجبة تراثية، ويقول سكان المدينة إنها تذكرهم بأجدادهم، وقد عرفها الناس من أيام استقرار القرطاجيين في الجزيرة.

وكانت معرفة إعداد هذه الوجبة من الشروط الأساسية لتأهل المرأة للزواج في مدن الشمال الغربي لصقلية.

ويقول العاملون في بيع الحلوى إن بضاعتهم يرجع الفضل في وجودها لحقبة المسلمين، فما تتم صناعته من الفستق واللوز وجوز الهند كله من أصل عربي لأنهم أول من أدخل هذه المنتجات قبل فترات من الزمن.

وجبة الكسكس إحدى الوجبات التي تُقدَّم أطباقها يوم الأحد وهي وجبة تراثية، ويقول سكان المدينة إنها تذكرهم بأجدادهم

أسس الحضارة الإسلامية

بعدما احتل النورمان صقلية وأنهوا حكم المسلمين فيها بدأ الملك روجا الثاني في بناء دولته، والتي اختارها أن تقوم على قواعد ما أسسه المسلمون من البناء الحضاري والنظام الإداري.

كان المسلمون يمتلكون أغلب الموانئ للجزيرة وكانوا يدا عاملة في شتى المجالات فاستغلهم الملك النورماني في بناء دولته.

شيَّد الملك قصره على قلعة جعفر، وكانت صبغة الفن المعماري العربي حاضرة، فالزخرفة من الداخل والبناء من الحجر المُقطَّع والحدائق الغناء هي أهم ملامح العمارة الإسلامية.

ويقول رئيس قسم علم الاجتماع والتاريخ بجامعة باليرمو الدكتور أنتونيو بوتيتا “كان ملك النورمان معجبا بنظام الفاطميين في مصر فأسس ملكه على محاكاته واستعان بموظفين إسلاميين وخصوصا في مجال العمارة والمعاملات المالية وأسس نظام لاديوانا الذي يعني الديوان”.

وبحكم ما تعاقب عليها من الحضارات والسكان تصنف صقلية في أوروبا أول دولة تعترف بتعايش الأديان وتعدد الثقافات في القارة الأوروبية.

يُقِرُّ المزارعون أن نظام الري الذي يستخدمونه يرجع الفضل فيه للعرب، ويتجلى ذلك في “الجيبة ” وهي طريقة لتوزيع المياه في البساتين

مدينة التنوع الثقافي

وقد كان العهد الإسلامي في الجزيرة يمثل حقبة تسامح وانسجام بين جميع الطوائف، ويعتبر الأساتذة والباحثون أن صقلية هي مدينة التنوع الثقافي والتعايش المشترك بفضل الثقافة الإسلامية التي سادت في المنطقة وبقيت روحها المعتدلة بين السكان.

ويضيف رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة باليرمو “مما لا شك فيه أن الوجود الإسلامي مثّل ويمثل حتى اليوم أحد أهم العناصر في ثقافة الجزيرة، فالسكان يتميزون بالتسامح الموروث من المسلمين”.

وبعد أن توطد الحكم لملك النورمان وساعده المسلمون في بناء الدولة، فرض عليهم الجزية مقابل الحماية.

لم يكن الحضور السياسي الإسلامي في صقلية أقل شأنا من الأندلس، لكن الكنيسة الكاثوليكية عملت بجهد عبر القرون على محو آثار الإسلام.

لم يبق لمدينة الخالصة ومساجدها وقلاعها أي رسم، لكن البناء وفن العمارة الإسلامية مازال شاهدا على التاريخ المزدهر الذي عاشه المسلمون هناك قرونا من الزمان.

وتُجسد ثقافة العربِ المسلمين حضورَها في عدد من دروب الأسواق ومحاريب المعابد وعقليات الأجيال التي تتوارث قيم التعايش والانسجام والتسامح.


إعلان