رمضان 2019.. أفول الدراما العربية

خاص-الوثائقية

تحولت الدراما العربية من قناة للتنفيس وإعطاء الانطباع بالتلاحم مع التطلعات الشعبية قبل الربيع العربي، إلى قطعة جديدة في آلة الدعاية والتوجيه الأيدولوجي

من قناة للتنفيس وإعطاء الانطباع بالتلاحم مع التطلعات الشعبية قبل الربيع العربي، إلى قطعة جديدة في آلة الدعاية والتوجيه الأيدولوجي بعده.

هذه قصة الدراما العربية التي دشّنت انحدارها الفني منذ السنة الأولى للثورات العربية، بفعل الاضطراب السياسي والاقتصادي تارة، وعمى الثورات المضادة أخرى، لكن الإجماع حول أفول نجمها لم يتحقق إلا مع إطلالة هلال رمضان المصادف لسنة 2019، حيث غاب النجوم وهبط مستوى الكتابة وزاغت المواضيع بعيدا عن القضايا الكبرى والمصيرية لشعوب المنطقة.

إذا أردنا تصوير الدراما العربية في هيئة طائر، فإن جناحيه سيكونان حتما هما الدراما السورية ونظيرتها المصرية. ومنذ اشتعال شرارة “الربيع العربي”، بات الجناحان يشكوان الانكسار بفعل انقلاب الجيش المصري على الرئيس محمد مرسي، وانقلاب الحراك الشعبي السوري إلى حرب دامية إثر لجوء نظام الأسد إلى القمع الوحشي.

 

خريف الدراما

كان العرب إلى وقت قريب يجلسون إلى شاشاتهم التلفزيونية في ليالي رمضان ليشاهدوا قصصا من المجتمعات الحاضرة عبر المسلسلات المصرية عموما، ويطلوا على الماضي وتاريخه وملاحمه وصراعاته وأنماطه الاجتماعية ووضعية الأسرة والمرأة.. من خلال الدراما السورية. أما الإنتاجات الدرامية الآتية من الخليج والأردن وشمال إفريقيا فظلت تحتل المرتبة الثانية[1].

وعشية اندلاع ثورات الربيع العربي، كانت عيون العرب تتوزع قبيل حلول شهر رمضان بين إعلانات المسلسلات المصرية الجديدة، وانتظار جديد الدراما السورية من قبيل مسلسل “باب الحارة” الذي توالت نسخه على مرّ السنين، مركزة على الحياة اليومية لحارة دمشقية في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي، أي حين كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي[2].

تفسير هذا الارتباط الكبير لدى الأسر العربية بمشاهدة التلفزيون خلال شهر رمضان يتمثل عند البعض بتقاليد قديمة من قبيل “الحكواتي” الذي كان يروي في كل مساء خلال شهر رمضان جزءا من قصة يسترسل في فصولها إلى نهايته.

ويربط تفسير آخر الظاهرة بتدني القدرة الشرائية لدى عموم الأسر العربية، مما يجعلها تفضل المكوث في البيت بعد الإفطار بدل الخروج في جولات مسائية كانت شائعة في الماضي، بينما يذهب البعض إلى تفسير الأمر بالأسباب الأمنية التي لا تسمح بالخروج ليلا، خاصة في مجتمعات مهددة مثل العراق وفلسطين. وقد شكّل التلفزيون ومسلسلاته خيطا رابطا بين ملايين المهاجرين العرب عبر العالم، وبين أوطانهم الأصلية التي يشتد حنينهم إليها خلال رمضان[3].

هكذا باتت الإنتاجات الدرامية المصرية ترتبط في الأذهان بالمواضيع الاجتماعية، بينما تخصصت الدراما السورية أكثر بالإنتاجات التاريخية. فالدراما المصرية التي ورثت انتشارها الواسع عن فترة ساد فيها شبه احتكار مصر للشاشات العربية، تتميز بعدم حاجتها إلى إنتاجات ضخمة، في مقابل اعتمادها على الأقلام الشهيرة للكتاب والأدباء المتخصصين.

في المقابل، كانت الدراما السورية إلى ما قبل الحرب تحتاج إلى إنتاجات ضخمة بالنظر إلى المواضيع التاريخية التي تحتاج بحثا وتوثيقا وديكورات وألبسة خاصة، كما أن الدراما السورية تحولت إلى حصن للغة العربية وآدابها[4].

دشّنت الدراما انحدارها الفني منذ السنة الأولى للثورات العربية، بفعل الاضطراب السياسي والاقتصادي تارة، وعمى الثورات المضادة أخرى

مسخ قادم من السياسة

إنها نهاية رسمية لزمن كانت أصداء بعض الأعمال الدرامية العربية تتردد فورا في عواصم مثل واشنطن وتل أبيب، مثيرة حفيظة بعض الأوساط السياسية. من تلك الأعمال كانت المسلسلات المصرية والسورية تثير الغضب بشكل سريع بسبب تصويرها للإسرائيليين على أنهم أشرار، ومن بين تلك المسلسلات نجد “فارس بلا جواد” الذي أنتج عام 2002، ومسلسل “الشتات” عام 2003، والمسلسل الفكاهي الذي بثته قناة أبو ظبي عام 2001 تحت عنوان “إرهابيات”…[5].

الفنان القطري غانم السليطي قال في حلقة 20 مايو/أيار 2019 من برنامج “للقصة بقية” الذي تبثه قناة الجزيرة، إن الثورات المضادة بعد الربيع العربي تسعى إلى “استعمار” مشاعر المواطن و”احتلال” آفاقه وطموحاته.

واستنكر السليطي الرقابة الصارمة التي تفرضها المخابرات على الأعمال الدرامية، وتحكّم العسكر في محتوى الإنتاج، معتبرا أن السلطة السياسية تمرر حقائق مزورة تتعارض مع الرسالة السامية للفن، والمتمثلة في إظهار الحقيقة وتنوير الرأي العام، مشيرا إلى أنه يُفترض أن تكون الموضوعات السياسية مجالا دسما للمعالجة والنقد.

وأظهر استفتاء أجرته الجزيرة على منصات التواصل الاجتماعي أن 86% من المشاركين رأوا أن الدراما العربية خادمة للحكام، بينما ذهب 14% منهم إلى أنها تعكس نبض الشعوب[6].

أظهر استفتاء أجرته الجزيرة على منصات التواصل الاجتماعي أن 86% من المشاركين رأوا أن الدراما العربية خادمة للحكام

فرجة عربية تؤلم الخصوم

كانت الدراما العربية التي تُنتج لفترة رمضان بالخصوص، في قلب الرهانات السياسية الكبرى في المنطقة العربية، ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك، القصة الشهيرة المرتبطة بمسلسل “الطريق إلى كابل” الذي انطلق بثه في رمضان الذي وافق العام 2004، وجرى وقفه بعد بث ثماني حلقات فقط[7].

يتعلّق الأمر بمسلسل تلفزيوني من إنتاج المركز العربي للخدمات السمعية البصرية الموجود مقره بالأردن، وذلك لحساب التلفزيون القطري. فهذا المسلسل الذي وافق فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها من اجتياح أمريكي لأفغانستان في السنة نفسها ثم العراق عام 2003، حاول ملامسة المأساة الأفغانية من الجانب الإنساني الذي يهم فئة “العرب الأفغان”، أي أولئك المقاتلين الذين التحقوا بساحات المعارك الأفغانية منذ فترة الحرب الباردة.

وبمجرد بث الحلقات الأولى منه، أثار هذا العمل التلفزيوني غضبا شديدا في واشنطن بسبب تطرقه لأحد جوانب اللعبة الدولية المرتبطة بالحرب الأفغانية والظاهرة الإرهابية[8].

تجسدت حساسية المسلسل في كونه لم يقتصر على القصة الإنسانية التي نُسجت حولها الحبكة الدرامية، بل تضمنت فصوله شخصيات أمريكية وسوفياتية، مع استخدام تقنيات إنتاجية ضخمة تطلّبت تصوير بعض المشاهد في كل من لندن والأردن وتشخيص ممثلين سوريين على قدر كبير من الحنكة والموهبة الفنية[9].

المثير في قصة هذا المسلسل الذي شهد أكثر من تابعوه بقوته الفنية، هو أنه أثار في الوقت نفسه حفيظة الأمريكيين الذين اعتبروا أن تشخيص بعض الأدوار لقصص بعض الجهاديين العرب الذين التحقوا بأفغانستان، قد يشجّع على الالتحاق بالتنظيمات “الإرهابية”، وهو الاعتراض نفسه الذي صدر عن بعض الأوساط الإسلامية المتشددة التي اعتبرت المسلسل مسيئا لصورة الجهاديين العرب في أفغانستان[10].

كانت الدراما العربية التي تُنتج لفترة رمضان بالخصوص، في قلب الرهانات السياسية الكبرى في المنطقة العربية

الإزعاج.. نهاية الإرسال

سبب التفاعل الذي كانت الإنتاجات الدرامية الرمضانية تلقاه، هو كونها كانت تحظى بمشاهدة واسعة بفعل عرضها خلال فترات الذروة، ثم يعاد بثها في فترات مختلفة من العام بعد انتهاء شهر رمضان. وازدادت حساسية العواصم الغربية تجاه هذه الإنتاجات حين شرع التلفزيون السوري في التخطيط لترجمة بعض المسلسلات العربية إلى لغات مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، بهدف عرضها للجاليات العربية المقيمة في أوروبا والأمريكيتين، والتي أصبحت فيها أجيال لا تتقن اللغة العربية[11].

ورغم ارتباط جل شركات وهيئات الإنتاج العربية بالأنظمة السياسية القائمة، فإن هاجس الوصول إلى المتلقي وتحقيق مردودية تجارية، كان يجعل هذه المسلسلات العربية الرمضانية تحاكي الواقع وتعكس جزءا من آراء المجتمعات العربية، بل إنها كانت تتفاعل بشكل مباشر مع المشاعر العربية في لحظات حساسة مثل انتفاضة الأقصى (اندلعت في 28 سبتمبر/أيلول 2000)، أو أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001..[12].

الظهور القوي للدراما السورية جعل الشاشة العربية مصدرا جديدا لانزعاج القوى الدولية والإقليمية الحريصة على مصالحها داخل المنطقة العربية، حيث انزعج الفرنسيون والبريطانيون لما تكشفه المسلسلات العربية من وجه قبيح للانتداب الذي فرضاه على المنطقة العربية عقب اتفاقية “سايكس بيكو”، وانزعجت تركيا من تناول هذه المسلسلات لمراحل من الحكم العثماني للمنطقة العربية، فيما تركز الانزعاج تدريجيا في كل من تل أبيب وواشنطن باعتبارهما القوتان -الإقليمية والدولية- الحائزتان على أكبر قدر من المصالح في المنطقة العربية. هذا الانزعاج الأمريكي الإسرائيلي رافقه تنامي تحفّظ آخر من جانب الأنظمة العربية نفسها، بسبب ملامسة المسلسلات الدرامية لقضايا السلطة والفساد والحرية والمساواة..[13].

 

 

تنافس مصري سوري

هيمنت الدراما المصرية على مدى عقود طويلة على الشاشات العربية، وذلك في فترة ما قبل ظهور القنوات التلفزيونية الفضائية. وإلى غاية التسعينيات من القرن العشرين، كانت قصص العلاقات الغرامية بين فتاة غنية وشاب فقير، أو الصراع الطبقي في مصر المراحل القريبة من ثورة جمال عبد الناصر، أو القصص المرتبطة بشخصية “العمدة” و”الخديوي” و”الخواجة”.. تهيمن على الدراما العربية، حيث كانت الصناعة المصرية تستفيد من انغلاق جل الأنظمة العربية لتسويق إنتاجها على نطاق واسع[14].

ومنذ ربع قرن تقريبا، دخلت سوريا حقل المنافسة في المساحات الزمنية للقنوات الفضائية العربية، حيث بات يُنظر إليها على أنها معادِلة إن لم تكن متفوقة على نظيرتها المصرية. الشركات الخاصة التي تم إحداثها في التسعينيات لم تواجه صعوبات كبيرة في مجال التسويق نظرا للطلب المرتفع، لكن تدنيا ملحوظا في مستوى الدراما السورية سُجّل منذ العام 2005، وهو التدني الذي رافقه تراجع في الطلب وبالتالي انخفاض في قيمة الأموال الموجهة للإنتاج الدرامي، مما أثر على جودة النصوص التي تكتب خصيصا للأعمال الدرامية[15].

موجة الإنتاجات الدرامية العربية بعد انتفاضية الأقصى (2000)، حملت معها إلى الواجهة تعلّقا جديدا بشخصيات وأحداث تاريخية تجسد أمجاد العرب وشخصياتهم البطولية. وهكذا نجد ضمن القائمة مثلا مسلسلين عن شخصية صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر القدس من الاحتلال الصليبي في القرن الـ12 الميلادي، ثم مسلسلات أخرى عن فترات ما قبل الإسلام مثل “الزير سالم” و”ذي قار”، وأخرى عن الفترة الإسلامية أي الفترة الأموية والفترة العباسية وأخرى عن فترة الوجود الإسلامي في الأندلس الأوروبي (صقر قريش)…

كل ذلك كان يلامس بشكل مباشر صلب الصراع السياسي بين القوى الغربية المهيمنة حاليا، والمنطقة العربية الخاضعة للانقسام والسيطرة الخارجية، وكانت المسلسلات الدرامية تنطوي ضمنيا على رسالة مفادها أن الضعف العربي ليس حتميا وأن تجاوزه يقتضي الوحدة أولا[16].

كانت الصناعة المصرية تستفيد من انغلاق جل الأنظمة العربية لتسويق إنتاجها على نطاق واسع

سرّ الصعود السوري

خلال فترة الهيمنة المصرية، كانت الإنتاجات الدرامية السورية تنحصر في مجال “الواقعية الاشتراكية”، أي أنها كانت تخضع لرقابة شديدة، وذلك إلى غاية منتصف الثمانينيات، حين بدأت سوريا في تشجيع القطاع الخاص على دخول غمار الأعمال الدرامية داخل البلاد، بعد سنوات من “اللجوء” في مناطق مثل اليونان.

مع ظهور البث الفضائي، برزت مجموعة من شركات الإنتاج السورية، لتكتسب الدراما المنبعثة من قلب الشام متابعة توسعت تدريجيا في المنطقة العربية، منافسة نظيرتها المصرية[17].

أولى الإنتاجات الدرامية السورية التي حظيت بمتابعة واسعة، كان مسلسل “خان الحرير” الذي يحكي قصة اجتماعية وسياسية تجري فصولها في منطقة حلب في فترة الخمسينيات، ثم ظهر اسم المخرج نجدت أنزور الذي أبدع مسلسلات سورية شهيرة مثل “إخوان التربة” و”نهاية رجل شجاع”، كما ارتبط اسم الرجل القادم من مجال الموسيقى المصورة بمسلسلات مستوحاة من الملاحم التاريخية التي تعود إلى فترات ما قبل الإسلام.

هذا الصعود السوري السريع في مجال الدراما العربية صادف صعودا آخر لقطاع الإنتاج التلفزيوني في الخليج العربي المتوفر على الموارد المالية والجمهور المتقبّل للهجة المحلية والممثلين السوريين المتمكنين من اللغة العربية الفصيحة، والخلفية الفكرية والثقافية المحافظة في الشام السوري، مما منح إنتاجات ما بعد عقد التسعينيات قوة دافعة كبيرة، خاصة بعد تأسيس قنوات عربية جديدة مثل “MBC” و”أبو ظبي” و”دبي”[18].

أولى الإنتاجات الدرامية السورية التي حظيت بمتابعة واسعة، كان مسلسل "خان الحرير" الذي يحكي قصة اجتماعية وسياسية

الانحدار بدأ في الشام

بداية الانحدار في الدراما السورية قبل عشر سنوات من الربيع العربي، مرده إلى موجة المقاطعة العربية للمنتوجات السورية التي سببها الهجوم العنيف للرئيس السوري بشار الأسد على القادة العرب في القمة العربية التي انعقدت في الجزائر شهر مارس/آذار 2005.

ومع دخول سوريا فترة الحرب الطاحنة التي أعقبت ثورات الربيع العربي، واشتداد الرقابة السياسية على مضامين الأعمال الدرامية، واجهت البنية الإنتاجية الفنية التي باتت هشة أصلا ضائقة خانقة، مما جعل أبرز الكتاب والمبدعين يلجؤون إلى شركات إنتاج عربية أخرى خارج سوريا، وهو ما عجّل بانهيار الدراما السورية وانقسام ما تبقى من الإنتاجات الصامدة بين الدعاية السياسية للنظام السوري، والانغماس في الإسفاف والمواضيع الاجتماعية المستهلكة والسطحية[19].

وتجسد ترويج المواقف السياسية للنظام السوري مثلا في أعمال كمسلسل “روزنا” الذي عُرض في رمضان سنة 2018 ميلادية، وهو يحكي قصة أسرة سورية نزحت من حلب إلى دمشق هربا من الحرب، مع خلفية عامة للمسلسل تقول إن سبب المأساة هو “الإرهاب”[20].

الظهور القوي للدراما السورية جعل الشاشة العربية مصدرا جديدا لانزعاج القوى الدولية والإقليمية الحريصة على مصالحها داخل المنطقة العربية

محاولات نهوض محتشم

رافق هذا الهبوط العام في مستوى الدراما السورية صعود لعنصر جديد في المشهد التلفزيوني العربي، هو الدراما الخليجية التي استفادت من وفرة الموارد المالية واستقطاب عدد من الكفاءات الأدبية والفنية، خاصة من سوريا.

وسجلت الدراما المصرية صعودا مماثلا، حيث استشعرت آثار “تفوّق” الدراما السورية لفترة ما قبل الحرب، واستقطبت تمويلات كبيرة في السنوات الأخيرة، وراحت الإنتاجات المصرية تستقطب بدورها بعض الوجوه الفنية السورية وتمنحها أدوار البطولة مثل الممثل جمال سليمان. كما استلهمت الدراما المصرية من نظيرتها السورية فكرة البطولة الجماعية بدل الاعتماد على البطل الفرد[21].

ورغم كل الانحدار الذي شهته الدراما السورية بعد اندلاع الحرب، فإن بعض النقاد يصرون على توثيق صمود الدراما السورية واحتفاظها بحضور سنوي رغم كل الخراب المحيط بها، وموجة الهجرة الجماعية للفنانين والمبدعين، وشح الموارد المالية وصعوبة المبادلات مع الخارج ووجود منافسة شرسة من الأعمال التلفزيونية التركية والمكسيكية..[22].

في فترة متأخرة، وفي رمضان المصادف للعام 2018، بدت الدراما السورية كما لو أنها مقبلة على فترة نهوض جديدة، حين تم الترويج لمشروع مسلسل تاريخي حول شخصية “هارون الرشيد”، مما خلق حالة انتظار وترقب كبيرين. لكن الصدمة كانت شديدة حين أقدمت السلطات السورية على حظر بث المسلسل عبر القنوات السورية، وذلك بخلفية سياسية مفادها أن العمل ينطوي على إساءات للحليف السياسي الأول للنظام، أي إيران. وهو وضع أكد أن استعادة العصر الذهبي للدراما السورية لن تكون في المدى المنظور[23].

ذهبت "تايمز" إلى أن المخرجين المصريين تلقوا توجيهات بتمجيد الجيش في الأعمال الجديدة، مع استبدال الممثلين الكبار بآخرين صاعدين

2019.. السقوط الكبير

في مصر، قالت صحيفة تايمز البريطانية إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومنذ توليه السلطة عام 2014، سعى للسيطرة على السياسة وخنق النقاش الفكري والحد من حرية الصحافة، “لكن رغبته الآن في السيطرة على المجال العام امتدت إلى عالم المسلسلات والدراما”[24].

وقالت الصحيفة في مقال لها بعنوان “المسلسلات المصرية آخر ضحايا حملة السيسي أنه من بين 24 عملا دراميا تُعرض في رمضان هذا العام (2019)، أنتج 15 منها بواسطة شركة سينرجي، وهي واحدة من شركات عدة تعمل في مجال الإعلام، وتخضع لسيطرة مجموعة “إعلام المصريين” المرتبطة بجهاز الاستخبارات الذي يمتلك أغلب شبكات القنوات الفضائية المصرية. وذهبت “تايمز” إلى أن المخرجين تلقوا توجيهات بتمجيد الجيش في الأعمال الجديدة، مع استبدال الممثلين الكبار بآخرين صاعدين.

بعد انقلاب 2013 الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي، بات الخوض في المواضيع السياسية التي اعتادتها الدراما المصرية من قبيل المحظورات. رقابة سياسية وأخرى ذاتية جعلت الانحدار السريع في مستوى الإنتاجات الرمضانية يصل عام 2019 إلى مرحلة اختفاء شبه تام لكبار نجوم السينما والدراما المصريين، لغياب إنتاجات ذات قيمة إنتاجية وفنية تسمح بظهور أسماء مثل عادل إمام ويسرى ويحيى الفخراني..[25].

رفع بعض النقاد أصواتهم مشتكين من تحوّل شركة واحدة هي “سينرجي” إلى فاعل مهيمن على قطاع الإنتاج الفني بتحكمها في كل من المنبع والمصب، أي الإنتاج والتوزيع. ومنذ بث أولى مقاطع الدعاية الأولية لمسلسلات رمضان 2019، اتفق النقاد على رداءة العرض الدرامي لرمضان هذه السنة، مرجعين ذلك إلى استحالة الخوض في المواضيع السياسية والإشكالات المرتبطة بغياب العدالة الاجتماعية في الأعمال الدرامية، واختفى بالتالي مشهد البطل الشاب الذي يقاوم الفساد وينتصر عليه، مفسحا المجال أمام قصص الغرام الكلاسيكية بين الفتاة الغنية والشاب الفقير، كما تركزت السيناريوهات في قصص الأبطال الرياضيين والشبان الذين يواجهون العصابات الإجرامية.. أي أن الخطاب بات موجها لفئة الشباب والمراهقين[26].

الممثلة المصرية غادة عبد الرازق: بيقولوا هنقعدكم في البيت، ولو عاجبكم، ولو سألتهم بتتكلموا باسم مين يقولك باسم الجيش أو المخابرات

حجب ورقابة

مع بداية شهر رمضان لهذا العام 2019، صُدم المشاهدون المصريون بقرار حجب موقع “إيجي بست”، أكبر موقع مصري لمشاهدة الأعمال الدرامية المصرية والأجنبية المقرصنة.

فبعد يد الرقابة والتوجيه التي شددت الخناق على الإنتاج الدرامي في مصر، بدت يد الأزمة الاقتصادية وقد انضمت إلى حفلة الإجهاز عل ما تبقى من إنتاجات تلفزيونية. فالشركة التي باتت تحتكر الدراما المصرية والمرتبطة بجهاز المخابرات، لم تجد بديلا عن إطلاق موقع إلكتروني جديد يتيح مشاهدة المسلسلات والأفلام مقابل اشتراكات مالية، وذلك بعد انهيار شبه شامل لحجم السيولة المالية الموجهة للإنتاجات الدرامية باكتفاء مصر بنحو 24 مسلسلا مقابل معدل 40 مسلسلا في السنة منذ 2011[27].

وإذا كان الوضع الاقتصادي في كل من سوريا ومصر ليس أسوأ من سنوات مضت حين كانت الاضطرابات في ذروتها، فإن التفسير الأقرب إلى الواقع لما آلت إليه الدراما العربية في رمضان 2019 هو خضوع الشاشات العربية للقبضة المباشرة للأمنيين والعسكريين.

وفي تقرير صدر عشية رمضان الحالي بعنوان “تحت الحصار.. محاولات جديدة للرقابة على الدراما”، كشفت مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن “قيود رقابية جديدة على الدراما الرمضانية”، وعن “تدخلات من جهات أخرى غير هيئة الرقابة على المصنفات الفنية في محتواها[28].

وإذا كانت الرسالة تقرأ من عنوانها، فإن الممثلة الشهيرة غادة عبد الرازق أعلنتها صرخة مدوية قبل بضعة أشهر من رمضان 2019، حين كتبت عبر حسابها في “أنستغرام”، مشتكية من تضييق شامل على كبار الممثلين، “.. وبيقولوا هنقعدكم في البيت، ولو عاجبكم، ولو سألتهم بتتكلموا باسم مين يقولك باسم الجيش أو المخابرات، هل ده صحيح؟ مجرد سؤال علشان الوسط الفني كله بيسأل معايا ده حقيقة ولا كذبة؟ أرجو الرد عني وعن زملائي. وشكرا”[29].

المصادر:


إعلان