أبناء الرّيح.. الغجر أمة الأساطير والرقص والترحال
الوثائقية-خاص
تزعم الأسطورة الشعبيّة التراثية أن المهلهل (الزّير سالم) التغلبيّ أوقع بالبكريّين في آخر معارك حرب البسوس، فأفنى مقاتليهم وذوي الفتوّة فيهم، واستحيى النّساءَ والعجزَةَ والضّعفاء وفرض عليهم أن لا يوقِدوا نارا ولا يستقبلوا ضَيفا وبدَّلَهم بحمل السّلاح الزّمْرَ وضَربَ الطّبل. ثم حَقَّت عليهم كلمةُ التّيه.
تِيهٌ وتمييزٌ مسّ أمّةَ الغجر فتشتّتَ شملُها جغرافيّا ولغويّا بين قارة أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط من حيث الحضور السكّانيّ المُركّز.
وقد التصق ثلاثي الترحّل والرقص والموسيقى بالشخصيّة الغجريّة حتى صار ملازما لها كما يصاحبُ الظلُّ صاحبَه.

وإن تعجَب فعجبٌ دعوى إلصاقِ الغجر بنسب بيتِ بني مُرّة من قبيلة بكر بن وائل، استئناسا بـزعم الأسطورة الفلكلوريّة المذكورة آنِفا.
وضمن سلسلة “نسيج وطن” تروي الجزيرة الوثائقية قصة هذه الأمة بأساطيرها وواقعها وتاريخها في فيلم بعنوان “الغجر.. أبناء الريح”.
رحلة اللهو والشتات
ويعدّ الغجر جماعة عرقيّة أو سلالة إثنية متميزة ومتفرّدة ومثيرة، مما جعل كثيرا من الروايات تُنسج حول تاريخ رحلة شتاتهم.
ومن هذه الروايات رواية إيرانيّة تزعم أنّ ملكا هنديّا كان مصاهرا لأحد ملوك الفُرس، وكان للأخير مجلسُ أُنسٍ ولهو لا ينقصه من أسباب المتعة وجوالب الملذّة سوى الموسيقى، فأنفذ إلى صهره ملك الهند كتابا يطلب منه ابتعاثَ فرقة سماعٍ موسيقيّة فأرسل إليه زهاء 12 ألفَ غجريٍّ مع نسائهم وولَدِهِم ودوابّهِم وآلات طربِهِم ومؤونةِ سفرهِم، فلمّا وصلوا وصلَهم الشّاهُ الفارسيُّ فأقطعَهم أراضيَّ ومالا أجرَ مجالس اللّهو الموسيقيّ والطّربِ الغنائيّ.
وما لبثت مصادرُ الدّعمِ المادّيِّ والتموين الغذائيّ أن انقطعَت فشكَوا بثّهم إلى الشاه معلنين بين يديه أنهم قد استنفدوا محصول الأراضي التي منحهم وأتوا على مخزون الغذاء الذي أمدّهم به، فغضب عليهم وأجلاهم عن أرض مملكته، فحملوا مع أوزار فاقَتِهم آمال عَيشٍ قذفَت بهم إلى ثلاث وجهات هي المشرق العربيّ وأفريقيا وأوروبا.
وقد غلبت على الوجهات الثلاث المهاجِرَة في عُرف الشعوبِ المستقبِلَة صفة الشعب غيرِ المنتِج وغيرِ المتعلّم وغيرِ المستقِرِّ، كما اضطُهدوا نفسيّا بالنّبز بألقاب الدّونيّةِ والسّلبية ولا سيما في أوروبا، حيث قُذِفوا باحترافِ السّرقة اللّصوصيّة ورُموا بامتهانِ السحر والشّعوذة.
تجارة .. لا زراعة
عالميا يعمل سواد الغجر الأعظم في مجالات الزّراعة والتجارة والعمل اليدويّ الحرّ، وعربيّا -وتحديداً في المملكة الأردنيّة الهاشميّة- عرف بعض أبناء هذا العِرق طريقَهم إلى الوظيفة من بابي القطاعين العامّ والخاصّ، حاملِين شهاداتٍ دراسية عليا ومؤهّلاتِ خِبرةٍ علميّة.

وقد تجاوز بعض هؤلاء المتعلّمين نفسيّا عقدة الاصطلاح الاسميّ الشعبيّ التي أفرزها إطلاق لقب “النَّوَر” ونسبةِ “النّورِي” عليهم وتقبلوهما بمثل ما تتقبّل به الأقلياتُ العِرقيّةُ والفئات الاجتماعيّة التسمياتِ التي يُطلقُها عليهم المجتمع الأهليّ، ضاربين الذّكر صفحا عن الاصطلاح، مبرِّئين ذمّتهم مما وراءه من صفات تنقيصٍ ونبزِ تحامُل، رافضِين حُكمَ التعميم السلبيّ، راضين بتصنيفهم بشرا عاديين منهم الخبيث ومنهم الطّيّب.
ورغم تأقلُم المجتمع الغجري مع مغترَبِه العربيِّ وواقعه المُحيط، يحتفظ “النَّوَر” لأنفسهم بطابع هُويّتهم التّراثية الخاصة على مستوى نمط الحياة وطابع الثقافة من حيث رعاية أواصر الرَّحِمِ العِرقِيّ وتعهّدِ روابط العلاقة الاجتماعية بالسِّريّةِ البينيّة.
طقوس وعادات.. حدود النّمطيّة الغجريّة
ومن غرائب طقوسهم، إحراقِ خيمةِ الميِّتِ أو كرَفانِه ونقضُ عربَةِ نقلِه وكسر قطعة سلاحه، وكذلك نبذُ المرأةِ في المَحيض وعزلُها عن يوميّاتِ الحياةِ البيتيّة، وربطُ رفعِ الحصارِ عنها بساعةِ الإنجاب.
ومن عجيب أمرِ الغجرِ في باب الولادةِ احتفاؤهم بالبناتِ، الذي هو فرعٌ عن ولعهم بالنّسل وانتشار الذّريّة واستمرار العقِب الغجريّ.
وللغجرِ مع المحافَظَة قصّة يُرجعها بعضُ الباحثين إلى فواتِ التحاقهِم بـرحلة التطوّر الحضارِيّ على مستوى الانفتاحِ الاجتماعيّ، ومن هنا فقد ألزَموا أنفسَهم نمطا بمقتضاه تقوم الأسرة على تنظيم اجتماعي دقيق وسلّم تراتُبيٍّ متفاوِت وتنظيم عشائريّ خاص.
وتشير دراسة أنثروبولوجية حديثة إلى أنّ الغجَر لديهم ترتيب طَبَقيٌّ صارِم لا يعرفُه إلا من عاش بين ظهرانيهم، وتصل درجة تأثيرِ المرجعية العشائرية في المجتمع الغجريِّ حدّ تّوجيهِ القرارِ والتحكُّم في اتخاذِه بقوة قانون السلطة القبليّة.
نظامٌ عشائري يفسّرُ انغلاقَه انحصارُ دائرة الاهتمامِ الميدانيِّةِ في حفظِ وتأمين مقوّمات الحياة اليوميّة على حساب التعاطي مع مجريات حياة المجتمع المُحيط.
ويعكسُ هذه النظرةَ التقليديّة مفهومُ “التحصيل” الذي تُحيلُ لفظته –خارجَ حدودِ النّمطيّة الغجريّةِ– إلى حقل الدّراسةِ والتعليم، حيث ينصرفُ عند القَوم إلى يوميّاتِ الكَدحِ الحياتيّ والكَدّ التكسُّبِيِّ، كما تمثِّلُ السّلميّةُ والاعتزاليّة علامةَ ذاتيّة مسجّلة للغجرِيّ الذي يُعدُّ بنو عرقِه عبرَ تاريخِ حياتهم الغابِر شعبا غيرَ مقاتِل ينشُدُ الأمان ويبتغي الرّزق ويطلبُ كَفافَ العَيش، ويلوذ من الأيدولوجيّة بالبراغماتيّة في ساعةِ العُسرة وظروفِ الحرب.
اللسان الغجري.. شرقي
ينتظم الغجر في سلكِ جذرٍ وأصلٍ لُغَويٍّ جامعٍ رغم اختلافِ لهجاتهم وتسرُّبِ الدّخيلِ إليها من لغاتِ شُعوبِ ودول العالَم التي تحتضنهم.
وتروي الإعلامية السورية راما جرمقاني أن جذر اللغة الغجرية واحد، وأن الغجري السوري والكردي لا يجد صعوبة في التفاهم مع الغجري الإسباني وإن كانت هناك اختلافات في اللهجات.
أمّا حرّيّةُ التنقُّل فقد تحوّلت من مطلقةٍ إلى مقيَّدة وَفق نظامِ تحديدِ هُويّة وتصريحٍ قانونيٍّ صارِم، كما عافَ بعضُ “النَّوَر” حالةَ التّرحال التي ألفَها سائرُ الغجَر، فـمالوا إلى التوطُّنِ والتجنُّس.
الغجري اللبناني أبو عمر يتحسر على الزمن الذين كانوا يتنقلون فيه بحرية مطلقة بين سوريا والأردن، قائلا “بات يتحتم على المرور بالحدود وحمل الأوراق الثبوتية وبعض الدول العربية تفرض علينا الحصول على تأشيرة، ووضعت علينا قيودا كنا في غنى عنها”.
وتصنَّفُ أسرَ المجتمع الغجريُّ أنثروبولوجياً كـ”أُسَر أُمومية” أخذا من دور الأمِّ الغجريَّةِ في رئاسة وحدتِها الاجتماعية (الأسرة) وانحصارِ صناعةِ القرار المنزليِّ في دائرة صلاحيّة الأمِّ مع اكتفاء الأبِ بأداء طقوسِ الاضطلاعِ بأعمالِ الأسرة من باب الممارسة الاسميّة المجرَّدة.
الزواج وقراءة الكف
هذه المكانةٌ لم تكن مصدرَ حصانةٍ يعصمُ المرأةَ الغجريّةَ العَزبَاء من قسوةِ سلطانِ المجتمع التي تلزِمُها الاقترانَ بابن عشيرتِها وتحجرُ عليها الارتباط بـ”الآخَر” الغريب، وتضعُها ووليَّ أمرِها في حالة الرّفض بين خُطّتَي خسف أدناهما حُكمُ الإبعاد وأعلاهما حَدُّ القَتل.

وتتربّع قراءة الكفّ واستشرافُ الطّالع على مساحة شاسعة من شُهرة المرأة الغجرية في منطقة الشام من خريطة الوطن العربيّ، حيث يُهرعُ إليها السكّانُ المواطِنون وأفرادُ المجتمع المحلّيِّ لاستنطاقِ الغَيب وتفريج ذات صدورهم بما يعلّلونهم به من تنجيم باطنُه فيه معسول الأماني وظاهره من قِبَله مختلَقُ التنجيم الكاذبِ صادقُه، الخادعِ كاذبُه.
وعن اشتقاق كلمة “النَّوَر” تدور توجيهاتٌ تأصيليةٌ مرجعُها النُّور والتّنوير؛ أخذا من اللّونِ الزّاهي الأخّاذ، ومن انعكاس ضوءِ الشّمس الذّهبيِّ على ثيّاب نساء الغج المزركشة الذي يمثّل أحيانا مع جمال طلعةِ المرأةِ الغجريّةِ لوحة فنيّة بهيّةَ المنظَر جذّابةَ التَّقاسيم.