تيار الصحوة في السعودية.. من الاحتضان إلى المواجهة
أمين حبلّا
بعد عقود من انتشار خطاب الصحوة وارتفاع صوتها في المنابر وسيلان مدادها في محابر الكتب والإعلام، باتت الصحوة شيئا مكروها بالنسبة لبعض النخب السياسية والعلمية الحاكمة والمحكوم بها في المملكة العربية السعودية.
ثلاثون سنة أو تزيد شبت فيها الصحوة عن الطوق وأخذت طريق الاكتهال بعد أن صبغت المجتمع السعودي بصبغة دينية ذات أبعاد ومواقف مختلفة، وأثارت كثيرا من الأسئلة الشائكة وسارت بالسعوديين في دروب مختلفة، ومختلف حولها بين من رآها دروبا ومسارب سالكة نحو الجنة وتعزيز الهوية الثقافية والدينية للمملكة، ومن رآها دروب الإرهاب والتشدد والانغلاق.
وبين هذا وذاك كانت الصحوة السعودية قد مَتَّت بحبل وثيق من النسبة إلى الأسس التي قامت عليها الدولة السعودية وخصوصا فيما يتعلق بأساس المبادئ التوحيدية التي دعا إليه مجدد البقاع النجدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
ولكن الأكيد أن السعودية الجديدة في عهد محمد بن سلمان قد نفضت يدها من الصحوة وألقت بكثير من رموزها في غيابات الجب، وجلبت آخرين منهم ليعتذروا للأمة السعودية عن أخطائها، ويغتسلوا من خطايا تلك الفترة الخاصة من تاريخ السعودية، قبل أن يشهدوا بعودتهم إلى الإسلام الحداثي الذي بشر به محمد بن سلمان.
ما هي الصحوة؟
مِن سِنَة الثقافة وسكرة الفكر تنطلق الصحوة التجديدية، هكذا يشي الأصل اللغوي للصحوة، فهي هبة من بعد سكر، ونشاط بعد سريان النشوة المُذهب للعقل، هكذا قال العرب قديما، وهكذا صرخ الشاعر الجاهلي المنخل العبدي وهو يترع كأسه من بنت العنب:
فإذا شربتُ فإنني ربُّ الخورنق والسدير
وإذا صحوتُ فإنني رب الشويهة والبعير
لكن هذه الصحوة لم تكن هي المراد الذي صدحت له منابر السعودية طيلة عقود، فلعلها كانت أقرب إلى قول الشاعر العربي الأسمر عنترة بن شداد
فإذا صحوت فما أقصرُ عن ندى
وكما علمتَ شمائلي وتكرّمي
تيار الصحوة.. البدايات
نشأ ما يعرف بـ”تيار الصحوة” في السعودية في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود، بيد أنه تبلور بشكل واضح خلال دخول القوات الأجنبية إلى الجزيرة العربية، حيث نشب صراع بين هذا التيار والسلطة الحاكمة، نتج عنه اعتقال عدد من رموز هذا التيار وإيداعهم السجن لسنوات.
ونشأ هذا التيار –على الأقل في شكله الحالي- في ضوء تداعيات الثورة الإيرانية وتزايد المد الصحوي الإسلامي بدعم من مجموعة من علماء السعودية، من أبرزهم سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر، إضافة إلى عائض القرني وعوض القرني وسعد البريك ومحسن العواجي ومحمد الحضيف، وغيرهم.
ومع بدايات النشأة الأولى لهذا التيار أُطلقت عليه تسميات عدة منها “تيار الصحوة” أو “الصحوة السعودية” أو “صحوة بلاد الرافدين”، واستطاع أن يستقطب فئات كبيرة من الشباب السعودي الذي انجذب لأفكاره من خلال المحاضرات والخطب الدينية لمشايخ ورموز هذا التيار.
الصحوة.. مطالبات بالإصلاح السياسي
تلبست الدعوة لسنوات وعقود كثيرة بالوهابية، وتكاملت معها، وتبنت الأفكار ذاتها التي تدعو إلى الحفاظ على العقيدة الإسلامية وتحصين المجتمع السعودي من “التغريب”.
ولكن الصحوة انتقلت من إطار العقيدة والتصحيح في مجال “اللاهوتيات” إلى إنشاء نمط ثقافي وديني في المملكة، ولتتحول إلى ممارسة اجتماعية تركت بصمات سيكيولوجية في ذهنيات أجيال كبيرة من المتجاورين على ضفاف العقل السعودي.
قدمت الصحوة نفسها تيارا يعتمد على “المنهجية الوسطية المعتدلة الرافضة للتطرف”، بيد أن ذلك التحول في الخطاب جر عليها خصومات مع السلطتين السياسية والدينية في السعودية ممثلة في هيئة كبار العلماء.
وبدأت هذه الخصومات بعد أن تبنى عدد من رموز هذا التيار مواقف تعارض بعض سياسات النظام، حيث انتقدوا علانية وجود القوات الأجنبية في السعودية وتعاون بلادهم مع الولايات المتحدة الأميركية في حرب الخليج الثانية عام 1991.
ففي مارس/آذار 2003، أصدر الشيخ سلمان العودة فتوى يحظر فيها على أي فرد أو جماعة أو دولة المشاركة في ضرب العراق “لا بقول ولا فعل ولا دلالة ولا إشارة ولا تموين ولا دعم”.
كما أشرف رموز هذا التيار على جمع توقيعات لجمع من العلماء على بيان يرفض أن تطأ أقدام الجنود الأجانب أرض الجزيرة العربية.
وقبل ذلك طالبوا بالإصلاح السياسي، ووقعوا في يونيو/حزيران 1992 على “مذكرة النصيحة” التي وجهها علماء وأساتذة جامعات للملك الراحل فهد بن عبد العزيز، وتضمنت المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية في الإطار الشرعي الإسلامي.
وفي المجمل؛ يمكن القول إن الصحوة الإسلامية في السعودية أخذت أبعادا متعددة، من بينها بعد تجديدي يحاول تحديث أنماط التدين والتفكير الديني في السعودية، مقدما تيارا “عُلمائيا” من خارج دائرة كبار العلماء الذين يمثلون هيئة رسمية تعيينا وإفتاء وتوجيها يرجحون في الغالب ما تميل إليه السلطة السعودية.
الصحوة.. وفاء للوهابية المعتدلة
سارت الصحوة سلفية إخوانية، وهابية سعودية، تداخلت فيها أرحام متعددة وأنساب متعددة، وكانت دون شك ظاهرة دينية تتمدد في الفكر والمجتمع السعودي عمقا.
كانت الصحوة وفيّة للمذهب الوهابي في التصورات الاعتقادية، ولم يغادر قادتها ما أقره ابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي ظل المقرر التي تدور حوله الشروح وتتكامل حوله الدعوات والمحاضرات.
بيد أنها حاولت مع ذلك أن تمد ذراعا سياسية سرعان ما تم قضمها بـ”مناشير” قوية من السلطات السعودية التي واجهت التيار الصحوي بكثير من التضييق خلال الفترات الأخيرة، رغم تعاطيها الإيجابي معه في فتراته الأولى احتضانا وتوجيها ودعما، خصوصا في فترة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز.
كانت السعودية يومها تحمل توجهات سياسية داعمة للجهاد الأفغاني متناغمة في ذلك مع الموقف الأمريكي الذي ظل دائما إطارا تتحرك فيه المواقف والسياسات السعودية الخارجية.
وضمن هذا السياق دعمت السعودية حراك الصحوة، وسعت في الوقت ذاته إلى الدفع بمئات من الشباب السعودي المتأثرين بالخطاب الصحوي عموما خارج الحدود، عبر ترحيل أو تسفير مئات منهم نحو ساحات الجهاد الأفغاني والشيشاني لاحقا، وأغدقت عليهم من المال والتوجيه.
كما استقبلت مئات الدعاة والعلماء من مختلف التيارات الإسلامية ذات المشرب السلفي أو الصحوي الذين وجدوا في المملكة العربية حضنا ومأوى.
شيوخ ورموز
لمعت أسماء متعددة في المملكة العربية، عرفت بأنها أبرز الرموز الفكرية للتيار الصحوي، ومن أبرز هؤلاء:
– الشيخ سلمان بن فهد العودة: وهو داعية وسطي، بدأ بمشرب سلفي صارم، انتقد بقوة بعض الآراء التجديدية للداعية المصري الشيخ محمد الغزالي الذي كان ينثر مواقفه التمدينية للإسلام في بيئات عربية “متصحرة” فكريا، ولم يكن يخفي انتقاده اللاذع لبعض الإرث الفقهي والفكري في تلك البلاد التي احتضنته مدرسا وموجها ودفينا في البقيع بعد ذلك.
استقطبت آراء الغزالي آلاف الشباب السعودي وأعادت تشكيل الوعي الديني لمجتمع بالغ التدين تقوده سلطة وضعت كلمة الشهادة بين سيفين شَهَرتهما على نخلة الوطن.
تعزز حضور الشيخ سلمان بن فهد العودة بأسلوبه الأخاذ وخطابه المتعدد الجوانب زيادة على عمق معرفته الشرعية التي جعلته أحد العلماء المرموقين في المملكة.
وزيادة على ذلك أخذ العودة جانبا آخر من الاهتمام بعصريات الفتوى والقضايا الإسلامية مناقشا الشباب والمرأة والاقتصاد، ومسائلا الحكم من طرف خفي وأسلوب مرن عن العدالة ومحاربة الظلم.
أسس العودة مؤسسة الإسلام اليوم التي كان لها دور إعلامي وتوجيهي واستشاري بالغ في المملكة وخارجها.
ولم يزل الزمن يصقل مواقف العودة، إلى أن صار “إخوانيا” كما تصنفه بذلك المملكة العربية السعودية.
ومع الثورات العربية، أخذ العودة على نفسه مساءلة الثورة في أبعادها الحضارية والفكرية، ومنطلقاتها وآفاقها، وكيف تنطلق ومم تستقي لهبها وفي أي مصب تنتهي.
نال العودة نصيبه غير منقوص من السجن في فترات متعددة، ونال الإقامة الجبرية مرارا وتكرار، وهو الآن حبيس السجن رفقة عدد كبير من علماء السعودية الذين تم الزج بهم في سجون ابن سلمان خلال السنين اليوسفيات الماضية في السعودية.
اهتم العودة بالصحوة، وعنها كتب بعض كتبه مثل الصحوة في نظر الغربيين ومعركة الإسلامية والعلمانية.
– الشيخ سفر الحوالي: عالم ومحدث سلفي وداعية مؤثر، عرف بمواقفه الصارمة تجاه حرب الخليج الأولى مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكان صريحا وواضحا في انتقاد كثير من المواقف السعودية الرسمية الداخلية والخارجية، ونال هو الآخر نصيبا طويلا من السجن مرارا وتكرارا، ومن الإقامة الجبرية والمنع من التدريس والمحاضرة.
عرف عن الحوالي مواقف صارمة تجاه الشيعة والليبراليين بشكل خاص، ورغم اتهامه من طرف البعض بالتنظير للتيارات الجهادية، فقد نال من التيار الجهادي والتيار التقليدي انتقادات لاذعة جعلته يترنح بين الاتهام بالتطرف والاتهام بالخنوع.
– سعد البريك: وهو أحد العلماء السعوديين المتخصصين في فقه القضاء، استعانت به السعودية كثيرا في الحوار مع الشباب المعتقنين للفكر المتطرف، رغم أنه يمثل أحد رموز الصحوة المتهمة بغرس التطرف والفكر المتشدد.
– عائض القرني: داعية سعودي سلفي، اهتم بالتأليف في القضايا الثقافية والأدب الروائي ذي الصبغة الإسلامية، نال نصيبا من السجن والإقامة الجبرية، وأدانه القضاء بقضايا أخرى تتعلق بالأمانة العلمية، سَلِم عائض القرني من داء الاعتقال والسجن الذي أصاب عددا من علماء الصحوة في الفترة الأخيرة، قبل أن ينفُض عباءته منها ويعلن توبة واعتذارا للشعب السعودي، وجاء الرد من بعض الصحويين واضحا، وهو أن عائضا لم يكن أحد قيادات الصحوة يوما ما، ولم يغادر العُدوة السلفية إلا إلى العدوة الوهابية.
في دائرة الاتهام
أصبح التيار الصحوي السعودي منذ فترة في دائرة الاتهام، خصوصا مع التوجهات السعودية الجديدة التي كنست بقوة كثيرا من التراث الصحوي والوهابي بشكل عام، وأعادت اكتشاف وجه سعودي آخر ينطلق من مدائن صالح وديار ثمود، ولا ينتهي عند آخر صيحات الفن والمسرح الغربي، مرورا بإهداء ختم النبي صلى الله عليه وسلم للفنانة سمية الخشاب في مصالحة بين المقدس والفن.
بدأت الحرب على الصحوة مع الحملات القوية على أذرعها ومؤسساتها، بالتوازي أيضا مع خطوات أخرى لتقليم أظافر المؤسسة الدينية السعودية، منها إنهاء مهام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالتوازي مع بروز تساؤلات كثيرة عن دائرة المعروف ومساحة المنكر في السعودية، وهل يمكن تبيين المعروف للحكام أو الإنكار عليهم؟
ومع بداية ما عُرف بموجة الانفتاح الأخيرة في السعودية؛ تعرض قادة ورموز الصحوة في السعودية لحملات اعتقال متعددة خلال العقود الماضية، ولكن الحملة الأكبر والأوسع تلك التي بدأت في 11 سبتمبر/أيلول 2017 حين تداول مغردون نبأ اعتقال السعودية عشرين شخصية معظمهم من الدعاة، منهم بعض الدعاة المشهورين على شبكات التواصل الاجتماعي ولديهم ملايين المتابعين، ومن أبرز هؤلاء الشيخ سلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري.
واتسعت حملة الاعتقالات لاحقا لتشمل أكثر من مئة شخصية دعوية وعلمية واقتصادية محسوبة على التيار الإسلامي.
وبالإضافة إلى الاعتقالات والتضييق؛ تواجه الصحوة السعودية اتهامات متعددة، فهي متهمة من السلطة بزرع ثقافة التشدد ودعم التطرف داخليا وخارجيا والتحريض على المملكة ومذهبها الديني، وهي متهمة أيضا من الليبراليين السعوديين بأنها عدو الحياة وخصم الفن وأنها اقتحمت على السعوديين بيوتهم وفتشت في قلوبهم ومنعت عنهم لذّات الحياة والمتع التي تُمنيهم بها رؤية 2030.
لكن الأكيد أن الصحوة كانت إحدى أهم البوابات السعودية نحو الداخل والخارج، فمن خلال نشاطها شهدت المملكة طفرة في المؤسسات الدينية والخيرية وتحولت إلى مركز استقطاب للعمل الإنساني، كما وفرت للسعودية وإن بشكل غير مباشر مكانة وحضورا في مختلف أرجاء العالم الإسلامي عبر الكتاب والشريط الصحوي اللذين أثرا في كثير من شباب العالم الإسلامي.
وتبقى الصحوة السعودية ظاهرة دينية ذات أبعاد سياسية واجتماعية، تناغمت مع المملكة وانغرست في كل تفاصيل المجتمع السعودي، عباءة وثوبا، ومواقف سياسية وفكرية وفنا وإعلاما، ومن الصعب سلخها من المجتمع السعودي، بل ربما تعود مرة أخرى في تقلبات السياسة وأمواج الخليج المضطرب.