رواق البخاري.. فضاء يحتفي بالحضارة الإسلامية في أكبر متاحف أوروبا

أيوب الريمي

من بخارى إلى سمرقند مرورا بأصفهان والبصرة وبغداد ومكة، كلها حواضر إسلامية، خلدت سيرة صاحب أشهر كتاب عن الحديث النبوي الإمام البخاري، ورحلته العجيبة التي أفنى فيها نزرا غير يسير من حياته بحثا عن أثر النبي عليه السلام.

والآن بات اسم العلامة البخاري أيقونة لصرح ثقافي عالمي في قلب المتحف البريطاني في العاصمة لندن، باختيار إدارة المتحف لاسم الإمام لتطلقه على رواقها الجديد الذي يُعنى بالثقافة الإسلامية ويؤرخ لكل الدول التي تعاقبت على المسلمين منذ صدر الإسلام.

وتحول “رواق البخاري” إلى مزار لكل الراغبين في التعرف على حضارة إنسانية عمرها مئات السنين، ويحتوي على أكثر من 1600 قطعة أثرية منوعة تم جمعها من شرق آسيا وصولا لأقصى غرب أفريقيا وجنوب أوروبا وهي الرقعة التي انتشرت فيها الدول الإسلامية وتركت فيها بصمات خالدة ألهمت العالم.

ولم يخف المسؤولون عن المتحف غبطتهم لهذا الحدث الثقافي، الذي وصفته صحيفة غارديان بالحدث الأهم في تاريخ المتحف منذ عقود، وهذا راجع لكون هذا المتحف الذي يعد أكبر صرح ثقافي في أوروبا كان يفتقد دائما لقسم خاص بالحضارة الإسلامية، وهي نقيصة تعيب أي متحف يضم بين جنباته كل المآثر البشرية منذ آلاف السنين.

ويعود الفضل في هذا الحدث لمؤسسة البخاري الثقافية الماليزية، التي عقدت شراكة مع المتحف لتسليمها قطعا أثرية إسلامية، وتم دمج الأخيرة مع ما يتوفر عليه المتحف، ليزهر رواق البخاري في قلب المتحف، وخصصت له قاعتان فسيحتان بعناوين عربية تشرح أصل كل قطعة وتاريخها.

وخلال افتتاح المعرض قال مدير المتحف البريطاني نيل كاكريغور، إن “هذه المقتنيات الثمينة من مؤسسة البخاري ستمكن المتحف من إعادة تقديم وعرض أهم مجموعة للآثار الإسلامية في العالم”، وأكد أهمية افتتاح الرواق خلال هذه الظرفية بالذات حيث تسود الكثير من الصور النمطية عن الإسلام، ويحمل المعرض على عاتقه مهمة الاحتفاء بالتاريخ الإسلامي وإظهار حجم التنوع والتشابك بين مختلف المشارب الثقافية في الحضارة الإسلامية، من أفريقيا جنوب الصحراء، إلى ماليزيا وصولا لشرق آسيا.

ولتسمية الرواق رمزية، فالبخاري اسم راسخ في وجدان المسلمين، فمن لم يسمع بصحيح البخاري، ولم يدرس حديثا رواه البخاري، لولا أن الكتاب وصاحبه يتعرضان في الفترة الأخيرة لحملة تشكيك بلغت حد تشويه سمعته، وذلك تحت شعار “تجديد الخطاب الديني”، ليكون معرض البخاري في المتحف البريطاني بمتابة رد اعتبار واحتفاء بهذا الاسم الذي بات مرادفا لأيقونة للحضارة الإسلامية.

الإمام البخاري أيقونة لصرح ثقافي عالمي في قلب المتحف البريطاني في العاصمة لندن

 

أنوار الإسلام مقابل ظلمات أوروبا

اختار القائمون على رواق البخاري قاعاته بعناية فائقة حيث يقع في الطابق الأول، هناك حيث تتواجد أهم الآثار في العصر الوسيط، وخصوصا في أوروبا التي كانت تعيش ما يسمى تاريخيا بعصر الظلمات.

ويهدف المشرفون على المتحف إلى سرد قصة تاريخية معبرة ولها دلالة عميقة، حيث تم وضع المعرض بين رواق أوروبا الوسيطة وأوروبا الحديثة، أي أن الزائر للقاعة المخصصة لأوروبا القديمة سيمر عبر رواق البخاري ثم يصل لمعرض أوروبا الحديثة، ولهذا التسلسل الزمني غاية، حيث يظهر لك كيف كانت أوروبا تعيش في عصر الظلمات من القرن الرابع إلى القرن الثاني عشر، وكيف كان العالم الإسلامي مركز الثقافة والحضارة وكان أهله يبدعون في كل المجالات، وبعدها يمكن الانتقال للفضاء المخصص لأوروبا الحديثة أو ما يسمى بعصر الأنوار، وهناك يظهر كيف أن الأنوار الأوروبية استمدت طاقتها وأفكارها من الحضارة الإسلامية.

ويغطي المعرض تاريخا مديدا قوامه 1500 سنة، ويسلط الضوء على الدول الكبرى التي تعاقبت على هذه الحضارة، كما أنه يقدم شرحا وافيا عن العلاقة التي ربطت العالم الإسلامي بغيره من الإمبراطوريات التي كانت قائمة، كالإمبراطورية البيزنطية، بل وحتى العلاقة مع محاربي الفايكينغ، فهؤلاء تم العثور مؤخرا على ثياب لمحاربيهم تحمل زخرفة باللغة العربية تحمل أسماء بعض صحابة النبي، وخصوصا اسم علي ابن أبي طالب.

اختار القائمون على رواق البخاري قاعاته بعناية فائقة
رواق البخاري.. قاعات تعرض أنواع الفنون والعلوم

 

وثيقة تاريخية تدحض المغالطات

يشبه المعرض وثيقة تاريخية تفند الكثير من المغالطات بشأن الإسلام وحضارته، حيث يظهر بجلاء تأثير الفن الإسلامي على الفن الغربي، وعلى سبيل المثال فطريقة إضاءة المساجد في العهد المملوكي عن طريق مصابيح توضع في إطارات معدنية لتوزيع الضوء بشكل أكبر وبطريقة مبدعة، استلهمها الفنانون الأوروبيون في بناء القصور وأشهر المعالم التاريخية في أوروبا، ومنها استلهموا تقنيات توزيع الضوء.

أما في الجزء الثاني من المعرض فيتعرف الزائر على مقتنيات ثمينة، وربما قد يصادفها لأول مرة خصوصا لو تعلق الأمر بزائر ينتمي لدولة عربية، والذي تعوّد على مشاهدة المآثر الخاصة بالدولة العباسية والأموية ودولة الأندلس وما تركه الفاطميون، أي كل الدول التي مرت في الشرق الأوسط وجنوب أوروبا.

لكن الجيد في المعرض هو أن يحتفي بتراث دول عمرت قرونا وحكمت مساحات شاسعة، حتى كان يقال إن راية الإسلام ترفع في نصف الكرة الأرضية، ويتعلق الأمر بدول إسلامية لم يكن حكامها من العرب، بل من المغول والعثمانيين والصفويين، كل هذه الدول لا يتاح للمتلقي العربي قبل الغربي التعرف على ما تركته من آثار وقطع فنية رغم أن عمرها استمر قرونا عديدة، وسيتاح مشاهدة توقيع السلطان العثماني الذي يقول إنه “الحاكم في البحرين وسلطان البحرين وخادم الحرمين الشرفين” تعبيرا عن شساعة الدولة وعظمتها.

وتظهر قدرة المنتمين لهذه الدول في الإبداع والابتكار والذائقة الفنية الفذة التي تميزوا بها في أشكال الحلي المعروضة، وفي الزخارف والنقش على الجدران والأعمدة، والألوان الزاهية والمتناسقة بعناية في الملابس، وحتى الصباغة على الجدران، كل هذه المقتنيات التي تزين المتحف البريطاني وتظهر مدى الرقي الذي بلغته الحضارة الإسلامية، وتنوع روافدها.

وعلى الرغم من الحفاظ على الإطار الحضاري الواحد المنصهر في قالب الإسلام إلا أن كل دولة وكل منطقة أبدعت حسب محيطها وتاريخها وخلفيتها، ولهذا يظهر المعرض وكأنه فسيفساء جميلة من كل الألوان والأشكال الجميلة التي تدخل في إطار واحد، دون أن يشكل ذلك اختزالا لأي جزء أو تفصيل مهما كان بسيطا.

يشبه المعرض وثيقة تاريخية تفند الكثير من المغالطات بشأن الإسلام وحضارته
المعرض وثيقة تاريخية تفنّد الكثير من المغالطات بشأن الإسلام وحضارته

 

حضارة التنوع.. وقبول الآخر

يخرج المعرض من الإطار النمطي لتقديم الحضارة الإسلامية على أنها كانت مبنية على التعصب للعرق والقبيلة والطائفة وأن الدول المتعاقبة عملت على تكريس تفوق الإنسان العربي وسحق بقية الهويات الثقافية، ليظهر من خلال مقتنياته الدور الكبير الذي لعبته الأقليات غير المسلمة في النسيج الثقافي الإسلامي.

ففي عز امتداد الدول الإسلامية في آسيا وأوروبا وفي أوج قوتها، كان أبناء الديانات الأخرى يساهمون في بناء الصرح الثقافي الإسلامي، ويتضح ذلك جليا من خلال العديد من الآثار التي تركها أبناء الديانة اليهودية أو المسيحية وحتى البوذية، بل وسيجد المتلقي العديد من المخطوطات والشواهد أن المنتمين لأقليات دينية أو ثقافية لعبوا دورا بالغ الأهمية في الحياة السياسية والاقتصادية.

وفي كل هذا رد على من يقول إن الثقافة الإسلامية بنيت على الانصهار، أي أنها أخفت المعالم الثقافية للمناطق التي وصل إليها الفاتحون، بل إن رواق البخاري يحتفي بكل الروافد الثقافية والهويات المختلفة، ويظهر ذلك خصوصا في الأزياء الآسيوية والحلي النسائية في هذه الدول التي حافظت على طبيعتها وألوانها وأشكالها واحتفت بالطبيعة من خلال التطريز الرائق على الحرير الطبيعي التي تزخر به تلك المناطق.

في المقابل تختلف الأزياء في منطقة الشرق الأوسط بما يناسب أهل تلك المناطق، كل هذا يظهر سماح الدول الإسلامية لكل منطقة بالاحتفاظ بنمطها الحياتي وإرثها الثقافي باستثناء الاتفاق على الإطار العام وهو الانضواء تحت راية الحضارة الإسلامية وتحتها تختلف الألوان والأشكال وطرق التعبير.

يقدم المعرض رواية جديدة للتاريخ
يقدم المعرض رواية جديدة للتاريخ من خلال معروضاته التي تثبت أن العصر الإسلامي كان عصر علم وازدهار

 

هل كان الإسلام يوما ضد الفن؟

يقدم المعرض رواية جديدة للتاريخ، فالقرون الوسطى التي هي قرون التخلف والحروب في أوروبا، كانت فترة ازدهرت فيها العلوم والفنون في العالم الإسلامي لدرجة أن صحيفة غارديان قالت إن ما خلفه المسلمون في تلك الفترة تطلّب من أوروبا عشرة قرون لتحقيق مثله، كما تحدثت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية عن كون رواق البخاري سيغير النظرة السلبية التي لدى الكثيرين عن الحضارة الإسلامية.

وكما ينفي المعرض عن الإسلام صفة التعصب لعرق أو قبيلة، فإنه أيضا يكذب ادعاء تعارض الإسلام مع الفنون، حيث سيجد الزائر نفسه حبيسا للأضواء التي تفنن القائمون على المتحف في وضعها لتحاكي تقنيات الإضاءة المعتمدة من طرف المعماريين المسلمين.

تقول صحيفة غارديان إن أضواء العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر هي أنوار أوروبا في القرن التاسع عشر، حيث ساد العقل والمنطق.

وإذ تقر الصحيفة البريطانية بهذا الواقع، فهذا راجع بالأساس لمستوى الحرية الفكرية في العالم الإسلامي في تلك الفترة، حيث كان العقل المتحرر الخلاق يبدع في مختلف الفنون، من مدرسة بن يوسف في مراكش لقصر الحمراء في غرناطة، مرورا بقصور بخارى والمساجد في سمرقند، هذه المعالم تلخصت فيها العلوم الهندسية والابتكار الفني في الأشكال والتصاميم والتلاعب بالأضواء والمساحات.

كل هذه التوليفة سيجدها الملتقي في الرواق وسيشاهد نماذج منها، إضافة للعديد من “الآلات” التي استعملت في الملاحة والبناء والحساب، وهي الأدوات التي بنت عليها أوروبا نهضتها العلمية عندما أفل نجم العالم الإسلامي.

خلال رحلة الأنوار هذه سيصل الزائر لفهم الأسس الجمالية التي بُني عليها الفن الإسلامي
خلال رحلة الأنوار التي يقدمها المتحف، سيصل الزائر لفهم الأسس الجمالية التي بُني عليها الفن الإسلامي

 

أسس بناء الفن الإسلامي

واعتمد المتحف البريطاني على أحدث الوسائل التكنولوجية حتى يتمكن المشاهد من ملاحظة واكتشاف مزيج من الألوان الطبيعية والاصطناعية، وكأنه داخل مسجد عتيق أو بهو قصر فسيح، حيث النوافذ تنطق بالألوان وتتلاعب بأشعة الشمس.

وخلال رحلة الأنوار هذه سيصل الزائر لفهم الأسس الجمالية التي بُني عليها الفن الإسلامي والتي يمكن تركيزها في ثلاثة محاور: أولا قوة الشخصية الإسلامية والثقة في النفس التي تنعكس على الأعمال وتظهر في فخامتها، ثم الإطار الديني، وأخيرا التحرر الفكري والعقلي الذي أفضى لحس علمي راق، ولهذا ابتكر المسلمون في الفنون ما لم يبتكره غيرهم، في النقش والرسوم والزخرفة والعمارة وحتى الموسيقى والأزياء والحلي.

وعن الصورة النمطية التي تقول إن الإسلام منع كل المجسمات، فهي أيضا خاطئة حيث يقدم المعرض مجسمات بشرية وكذلك للحيوانات، لولا أن التركيز الكبير للمعماريين والنحاتين، المسلمين انصب دائما على المساجد، التي لم تكن فقط أماكن للعبادة، بل هي فضاء للعلم، والقضاء، ولقاء نخبة الدولة مع المواطنين العاديين.

ولعل المسلمين كانوا الوحيدين خلال أيام مجدهم من نجحوا في التوفيق بين ما هو روحي وما هو علمي وعقلاني، عندما كان الصراع على أوجه بين الكنيسة والعلماء في أوروبا، وهذا التوفيق هو ما أطلق العنان للفنانين وأهل العلم والمبدعين -وإن لم يكونوا مسلمين- كي يشيدوا إرثا حضاريا لو انسحبت من عقد التراث الإنساني سينفرط هذا العقد ويصبح من دون معنى، وهذا هو الدور الذي يقوم به أيضا رواق البخاري عندما يساهم في وضع لبنة مهمة في صرح المتحف البريطاني.