ليبيا.. حلبة عربية لمعارك دولية بالوكالة على عدة محاور

يونس مسكين
“الحال (في ليبيا) اليوم كمن يعاني من مرض العينين ويُنقل إلى طبيب عظام أو طبيب أنف وحنجرة. ومما ضاعف معاناة المريض تعدد الأطباء الخطأ”، هكذا يعبر وزير الخارجية الليبي السابق عبد الرحمن شلقم، مضيفا أن ما يقع في ليبيا ليس حربا أهلية، وأنه “لم يكن وراء المواجهات الدامية دوافع طائفية دينية أو عرقية أو جغرافية، فالشعب الليبي كله مسلم، وغالبيته سنة مالكيون، وحتى الأمازيغ الإباضية لا توجد حساسية عقدية بينهم وبين السنة”.
اليوم وبعد سنوات من اندلاع شرارة الثورة ضد نظام العقيد معمّر القذافي، لم تتحوّل ليبيا إلى أرض لا دولة فيها وساحة للحروب الأهلية فقط، بل تحوّلت بعد طول الانقسامات وعدم حسم الخلافات الدولية والإقليمية حول كنوز النفط الدفينة تحت كثبانها؛ إلى ساحة لمعاركة تدور رحاها بين أطراف خارجية لا ناقة لليبيين فيها ولا جمل.
معارك تدور بالسلاح تارة وبالاستخبارات أخرى، بكتائب المرتزقة حينا وعبر شركات خاصة تلعب دور القناع مرات أخرى، وفي “أحسن” الأحوال التي لا يكون الليبيون فيها مجرّد متفرجين، فإن تلك المعارك تحوّلهم إلى دروع تختبئ خلفها دول ومصالح وأطراف خارجية، لتدعم هذه المليشيات أو تلك القبيلة لتحقيق مآربها.
في قلب هذه الزوبعة التي تلتقي فيها بعض الأيادي تارة وتتعارك في أخرى، يمكن تمييز حروب ثنائية مباشرة وواضحة تدور بين أطراف إقليمية ودولية فوق الأرض الليبية وبواسطة الليبيين أحيانا.
من أهم تلك الثنائيات؛ الصراع التقليدي بين عملاقي النظام العالمي، أي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
معركة ثنائية أخرى لا تقلّ وضوحا وعلنية، هي التي تخوضها كل من فرنسا وإيطاليا، في إحياء لتنافس قديم بين الدولتين الأوربيتين.
معركة ثالثة من هذا الطراز، برزت مؤخرا بين مصر وتركيا، وإن كان كل منهما ظل محسوبا على أحد معسكري الشرق والغرب الليبيين.
أولا: أمريكا-روسيا.. الحرب الباردة
يعتبر كثير من المراقبون أن ليبيا كانت نقطة التحول في التعاطي الدولي مع ثورات الربيع العربي، حيث شكّل تدخّل حلف شمال الأطلسي (ناتو) لإسقاط حكم العقيد معمّر القذافي، خطوة “غادرة” من جانب الغرب في نظر روسيا، وهو ما يفسّر التدخّل الحاسم في سوريا من جانب موسكو. فقد حرصت هذه الأخيرة على استمرار موقفها “المحايد” من الانقسام الداخلي في ليبيا، لكن في الكواليس كانت دائما تربطها علاقات وثيقة مع معسكر خليفة حفتر.
ثأر 2011
حنق روسي ظل حاضرا رغم مرور السنين، وقفز إلى الواجهة من جديد بعيد انطلاق هجوم حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، حيث لم يتردد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في تحميل حلف شمال الأطلسي مسؤولية استمرار الصراع داخل ليبيا، بعيد وصوله إلى مصر في زيارة رسمية.
وكان لافروف اعتبر في حوار سابق مع صحيفة “لوموند” الفرنسية مستهل 2017، أن “كل شيء بدأ في ليبيا”، في إشارة إلى الصراع الروسي الأمريكي للتموقع في المنطقة العربية عقب ثورات 2011.
ويؤكد المسؤولون الروس أنه لولا إقدام الغرب بقيادة واشنطن على خرق القرار 1973 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في مارس/آذار 2011 بشأن ليبيا، واستخدامهم إياه غطاء للتدخل العسكري، لما كان هناك تدخل روسي في سوريا.
بل إن موسكو تبدو كما لو تدير الملف الليبي من داخل سوريا التي تتوفر فيها على موطئ قدم، وذلك تجنبا لاستدراجها نحو المستنقع الليبي الذي يحسن الغربيون مراقبته لاعتبارات تاريخية وجغرافية.
ليبيا.. صندوق بريد
“روسيا لا تتوفّر على أية مصالح حقيقية في ليبيا، الهدف الوحيد الذي تحققه موسكو من الملف الليبي هو مخاطبة واشنطن وإرغامها على إشراك روسيا في القرارات الدولية والقبول بعالم متعدد الأقطاب وتحقيق الهدف الذي جاء من أجله بوتين منذ 1999، أي إعادة روسيا إلى قلب القرار الدولي”، وفقا للخبراء الروس في شبه إجماع على هذا التحليل.
هذه القراءة تعزز أطروحتها بالقول إنه وبعد الاصطدام الذي وقع بين روسيا وأمريكا في ملف أوكرانيا شرق أوروبا سنة 2014، أصبحت موسكو تستخدم المنطقة العربية -وخاصة سوريا وليبيا- لفتح قنوات اتصال مع واشنطن وإرغامها على تقاسم النفوذ. والهدف الحقيقي من التحرك الروسي فوق الكثبان الليبية هو حمل الأمريكيين على “الإنصات”، وفتح باب التفاوض بشأن القضايا الدولية الإستراتيجية.
وحرص روسيا على مظهر الطرف المحايد يفسّره حضورها التاريخي في ليبيا، حيث تتوفّر موسكو على قنوات اتصال مباشرة مع جل الأطراف الداخلية، بفعل الارتباط الذي نشأ بين الاتحاد السوفياتي ونظام القذافي الذي كان في مواجهة مفتوحة مع الغرب في جل سنوات وجوده. لكن هذا الحرص لم يكن كافيا لإخفاء الدعم الروسي لحفتر، وهو العسكري الذي يتحدث اللغة الروسية، لكنه لم يكن ينال من الدعم الروسي الصريح إلا بمقدار ما يتمكن من إحكام قبضته على الأراضي الليبية.

تردد أمريكي
أمريكا التي كانت في قيادة هجوم حلف شمال الأطلسي ضد قوات القذافي عام 2011، سرعان ما “انسحبت” من الساحة الليبية بعد مقتل السفير الأمريكي في هجوم استهدف القنصلية الأمريكية في بنغازي، وباتت واشنطن تفوّض تدبير الملف لأصدقائها الأوروبيين.
وفيما يؤرخ المراقبون الصعود القوي للدور الروسي في ليبيا ابتداء من العام 2016، فإن الأمر أعقبه صعود تدريجي في الدور الأمريكي من خلال تعيين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، القائمة بالأعمال الأميركية السابقة لدى ليبيا ستيفاني ويليامز نائبة لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
ومن جانبها تحتفظ قيادة “أفريكوم” -المكلفة بالقارة الأفريقية داخل البنتاغون- بدور عسكري شبه دائم في ليبيا من خلال وحدات خاصة وغارات جوية شبه روتينية، تجعل واشنطن تبدو -وإن بشكل محتشم- داعمة لحكومة السرّاج في طرابلس، وذلك منذ العام 2016 على الأقل.
هذا التقاطب الأمريكي الروسي داخل ليبيا، تجسد في تلك السنة في قيام حفتر بزيارتين رسميتين وعلنيتين إلى موسكو، في مقابل احتضان واشنطن لحكومة السراج التي أفرزها اتفاق “الصخيرات” الذي توصل إليه الليبيون في المغرب.
تنافس جيو إستراتيجي
كجلّ مناطق المواجهة الروسية الأمريكية، تشهد ليبيا تنافسا بين الجانبين حول النفوذ العسكري، حيث كان الجنرال توماس والدهاوزر قائد القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، قد أعلن وجود قوات روسية في ليبيا تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وذلك تزامنا مع ازدهار العلاقة بين روسيا وخليفة حفتر الذي زار حاملة الطائرات الروسية “الأدميرال كوزنيتسوف” في المياه الإقليمية الليبية خلال يناير/كانون الثاني 2017.
تطوّر عسكري في التنافس الأمريكي الروسي، فسّره اللواء محمد علي بلال الخبير الإستراتيجي قائد القوات المصرية في حرب الخليج، بإقدام واشنطن على نشر قواتها في طرابلس رغم انتهاء عملية طرد تنظيم الدولة الإسلامية من مدينة سرت، وهو ما حمل روسيا على القيام بخطوة مماثلة.
في صيف العام 2017، نشرت شبكة “سي إن إن” الأمريكية تقريرا يقول إن واشنطن تستعد لرفع مستوى حضورها العسكري في ليبيا، وذلك في تحوّل في الموقف الأمريكي الذي عبّر عنه ترامب في مارس/آذار من السنة نفسها، حين قال إن بلاده لن تلعب دورا كبيرا في ليبيا.
قابلت موسكو هذا التحرّك الأمريكي بلعب أوراقها الخاصة، حيث فتحت باب البحث عن وكلائها المعتمدين، لترجح كفة حفتر بعد فترة من بروز سيف الإسلام القذافي بن معمر القذافي، كورقة محتملة.
ردّت موسكو على المبادرات الأمريكية بدفع سفنها الحربية نحو السواحل الليبية، مستقدمة إياها من المياه الإقليمية السورية شرق المتوسط. كما دخلت حاملة الطائرات الروسية “الأميرال كوزنيتسوف” المياه الإقليمية الليبية في يناير/كانون الثاني 2017، وبعد رسوها في ميناء طبرق، جرى على متنها لقاء رسمي بين خليفة حفتر ورئيس أركان الجيش الروسي فاليري غيراسيموف، في مشهد لا يخلو من رسائل.

تقارب أمريكي روسي
الصراع والتنافس بين أمريكا وروسيا خفت في الفترة التي كانت قوات خليفة حفتر تزحف على طرابلس في هجوم أريد له في البداية أن يكون خاطفا وحاسما، حيث بدت إدارة ترامب أكثر استعدادا لقبول سيطرة القوات القادمة من الشرق على كامل ليبيا.
وازداد الموقف الأمريكي غموضا بعد تحريك حاملة طائراتها العملاقة “إبراهام لينكولن” ورسوّها في اليونان قبالة شواطئ ليبيا، وكانت معظم التفسيرات تشير إلى أن الولايات المتحدة تستعد لعمل عسكري في طرابلس، وتعززت هذه التفسيرات بعد إقدام إيطاليا التي ظلت تعتبر حليفة لحكومة السراج، على إغلاق شواطئها في وجه المهاجرين المحتمل نزوحهم بكثرة من ليبيا.
وسرعان ما تبدّد هذا الاحتمال بعد التحرك العسكري التركي لإنقاذ حكومة السراج، وهو ما قرأ فيه الروس تمهيدا لفرض نفوذ الحليف الأمريكي على ليبيا، وجعل بعض المسؤولين الروس يخرجون لتحذير أنقرة رسميا من تكرار سيناريو إدلب السوري في ليبيا.
موسكو تعتبر أن إقدام تركيا على تزويد حكومة طرابلس المعترف بها دوليا بطائرات مسيرة متطورة، لم يكن ليتم من دون ضوء أخضر أمريكي، خاصة في ظل وجود حظر دولي عبر الأمم المتحدة على تصدير الأسلحة نحو ليبيا.
ثانيا: فرنسا- إيطاليا.. الاستعمار ينبعث
بعد الهجوم العدواني الذي شنته قوات خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس بدءا من أبريل/نيسان 2019، لم يكن الموقف الفرنسي الذي كسر الإجماع الأوروبي بقيادة إيطاليا وبريطانيا بشأن إدانة الهجوم داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، إلا امتدادا للخلاف الفرنسي الإيطالي على الملف الليبي.
وعلى خلفية هذا الصراع قدمت فرنسا في السنوات الأخيرة مساعدات عسكرية لقوات حفتر، بينما ساندت إيطاليا الحكومة المعترف بها دوليا والتي منحت امتيازات نفطية لشركة “إيني” في عدد من حقول إنتاج النفط داخل ليبيا، مقابل الدعم السياسي الذي تمنحه له، بحسب ما يقوله خصوم لحكومة الوفاق.
خلف حالة التشظي الليبي، يوجد تفسير لما أحدثه قصف حلف شمال الأطلسي لليبيا عام 2011، حيث لم تكن الطائرات الغربية توجه قنابلها نحو قوات القذافي فقط، بل كانت تدمّر الركائز التي حملت على مدى عقود نظاما لعب أدوارا جيوسياسية هامة، خاصة في أفريقيا والبحر المتوسط. أعمدة تتجسد أساسا في كل من الجهاز الأمني الفتاك الذي انهار تحت القصف، والشركة النفطية العمومية، واللجنة الثورية، وصندوق الاستثمار الليبي.
نظام القذافي رغم طابعه “الثوري” ورغم الماضي الاستعماري لايطاليا في ليبيا، احتفظ لروما بمصالح حيوية داخل ترابه، حققت التعايش بين البلدين المتقابلين في ضفتي المتوسط. فشركة “إيني” النفطية الإيطالية دخلت ليبيا عام 1959، ومن خلالها كانت أوروبا لحظة سقوط القذافي تستورد 80% من البترول الليبي؛ 32% منه تستغله إيطاليا نفسها، وهو ما يعني “استقلالا طاقيا” إستراتيجيا.
وعقب الانهيار الذي ضرب ليبيا بفعل تدخل حلف شمال الأطلسي سنة 2011، خسرت إيطاليا قسما كبيرا من إمداداتها النفطية، في مقابل حصول شركة “توتال” الفرنسية على موطئ قدم شرعنه المجلس الوطني الانتقالي الذي تولى تسيير ليبيا، بإعلانه تخصيص 35% من العقود المستقبلية للشرطة الفرنسية.
عمق إستراتيجي حساس
في عمق هذا الصراع الفرنسي الإيطالي، يوجد صراع إستراتيجي بين مجالي النفوذ في كل من البحر المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية. الأولى تهم إيطاليا بالدرجة الأولى وتعتبر ليبيا خط دفاعها الأول ضد التهديدات الإرهابية والإجرامية وموجات الهجرة غير النظامية، بينما تصرّ فرنسا على توسيع مجال نفوذها على الساحل والصحراء في الحدود الجنوبية لليبيا نحو السواحل المتوسطية.
وإذا كانت روسيا تعتبر أن واشنطن أقدمت على “الغدر” بها حين قادت تدخلا عسكريا لحلف شمال الأطلسي ضد القذافي، فإن إيطاليا بدورها تعتبر أنها تعرضت لعمل مشابه من جانب فرنسا خلال حكم الرئيس نيكولا ساركوزي، حيث سعت باريس إلى انتزاع مجالات نفوذ ظلت تعتبر من حق إيطاليا في عرف القوى الاستعمارية السابقة.
استفادت فرنسا في هذا السياق من حضورها العسكري الكبير في كل من تشاد والنيجر جنوب الحدود الليبية، لتحاول ربط صلات جديدة شمال وغرب ليبيا. حضور عسكري واستخباراتي فرنسي حاولت باريس تحويله إلى مكاسب سياسية، حين دعت الفرقاء الليبيين في مايو/أيار 2018 إلى مؤتمر سلام، سرعان ما تحوّل إلى طبول حرب مع إيطاليا التي أصرت على إبقاء الأمم المتحدة مشرفا وحيدا على مفاوضات الليبيين، وهو ما ترد عليه فرنسا بالقول إن إيطاليا أول من كسر هذه القاعدة حين احتضنت في مارس/آذار 2017 مؤتمرا للمصالحة بين قبيلتين ليبيتين.
تحوّل هذا الخلاف إلى حرب حقيقية بين فرنسا وإيطاليا استدعت تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي عبّر عن دعمه لفكرة احتضان إيطاليا لمؤتمر سلام في ليبيا، كمحاولة لإرضاء الحنين الإيطالي إلى العهد الاستعماري، والذي أججه وصول حزب يميني شعبوي إلى رئاسة الحكومة صيف العام 2018.
أيهما أولا.. الهجرة أم الإرهاب؟
الخلاف الفرنسي الإيطالي لا يرتبط بالنفوذ العسكري والثروات النفطية والغاز فقط، بل يمتد ليشمل موضوع الهجرة. فإيطاليا التي تُعتبر أكثر دول أوروبا استقبالا للمهاجرين العابرين للبحر المتوسط، تَعتبر وقف هذا التدفق أولوية مقدمة على هاجس فرنسا المرتبط بمحاربة الجماعات الإسلامية.
هكذا باتت ليبيا تتأرجح بين يد فرنسا، كـ”قوة دولية أساسية، وعضو دائم بمجلس الأمن، وقوة نووية لها حاملات طائرات وتصنع أحدث الطائرات الحربية “رافال”، وبين إيطاليا التي ترى أنها الأكثر قدرة على الاقتراب من الأزمة الليبية “بحكم الجغرافيا والعلاقة التاريخية من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الاستعمارية الفاشية، إضافة إلى الروابط الاقتصادية. فالأنبوب الذي يمتد تحت الأرض من ليبيا إلى صقلية هو شريان حياة إستراتيجي، وكذلك النفط حيث تقوم في إيطاليا مصافٍ مصممة على نوعية النفط الليبي، وكذلك المساهمات الليبية في عدد من المصارف الإيطالية، إضافة إلى العلاقات التجارية…”.
يكشف الدبلوماسي الليبي السابق عبد الرحمن شلقم أيضا أن “معاهدة الصداقة” الموقعة بين ليبيا وإيطاليا، تتضمن التزام الحكومة الإيطالية ببناء طريق سيار وفق المعايير الأوروبية يمتد من الحدود مع مصر إلى الحدود مع تونس بقيمة خمسة مليارات دولار، “على أن تتولى الشركات الإيطالية تنفيذ ذلك المشروع، ولا يزال المبلغ بأرباحه مرصوداً في الميزانيات الإيطالية سنوياً. وتطمح إيطاليا أن يكون لشركاتها مكان فسيح للمساهمة في إعادة بناء ليبيا”.
ثالثا: مصر-تركيا.. الإخوة الأعداء
إلى غاية الشهور الأولى من العام 2019، لم يكن الصراع المصري التركي داخل ليبيا يتجاوز درجة انتماء كل منهما إلى أحد المعسكرين الأساسيين ضمن فسيفساء المتصارعين للسيطرة على هذا البلد العربي الشاسع المساحة.
وبعد إعلان حفتر زحفه على طرابلس بدءا من مستهل أبريل/نيسان 2019، تغيّر موقع كل من تركيا الأردوغانية ومصر السيسية، خاصة بعدما خطت تركيا خطوة إضافية في دعمها لحكومة السراج، وتدخلها بشكل عسكري حاسم لمنع الاختلال التام لميزان القوى الميدانية لصالح حفتر.
فبعد أسابيع من الحصار الخانق الذي فرضته قوات اللواء المتقاعد على العاصمة الليبية طرابلس، قامت تركيا يوم 18 مايو/أيار 2019 بإرسال شحنة من الأسلحة إلى قوات الحكومة الليبية في طرابلس. وهي خطوة لم يُسمع صداها في أي من العواصم الدولية بقدر ما تردّد في القاهرة من تحذيرات من انعكاسات ذلك على الأمن القومي المصري.
لم تكن شحنة مايو/أيار الأولى التي أعلن عنها ضمن أشكال الدعم السياسي والعسكري التركي لحكومة السراج، فقد سبق -في مناسبات متكررة- الإعلان عن حجز أو رصد شحنات من الأسلحة التركية الموجهة إلى طرابلس، وهو ما لا تنفيه أنقرة نفسها، بل إن أردوغان أجرى اتصالا هاتفيا مع السراج قبل ساعات من وصول شحنة مايو/أيار 2019.
حرب برية بخلفيات بحرية
يربط الخبراء العسكريون المصريون -الذين خرجوا لتصريف الاحتجاج القوي لبلادهم على الخطوة التركية- الأمر بتنافس إقليمي شامل، معتبرين أن تركيا تسعى إلى محاصرة مصر عبر تحركاتها في كل من ليبيا والسودان لدعم الإسلاميين والإرهابيين.
لا يبدو هذا التبرير مقنعا لتفسير هذه المواجهة شبه المباشرة بين مصر وتركيا داخل ليبيا، فالمصالح التركية في ليبيا أبعد من مجرد دعم مجموعات إسلامية محلية أو “مستوردة” من سوريا.
لكن ما يحرّك تركيا في ليبيا ولا تعترف مصر بمعاكسته نيابة عن قوى دولية أخرى، هو مخاوف أنقرة من أي اتفاق محتمل بين القبارصة اليونانيين واليونان وليبيا، بتقاسم السيادة على المياه الإقليمية المشتركة بينهم على حساب المصالح التركية وحقوق القبارصة الأتراك في المنطقة.
وتتجسد هذه المصالح في حق الملاحة البحرية المدنية والعسكرية، لكن وأساسا في المخزون الكبير من النفط والغاز في مياه هذه المنطقة غير البعيدة عن السواحل الليبية.
تركيا الواقعة في أقصى الشرق، لا يمكنها أن تخاطب اليونان بشكل مباشر بخصوص السيطرة على مياه هذه المنطقة إلا من خلال وجود نظام حليف أو مقرب منها في ليبيا. أما علاقة مصر بهذا الملف فتتمثل في كونها تنخرط في تكتل يضم إلى جانب اليونان وقبرص اليونانية؛ إسرائيل المنخرطة في صراع محموم مع تركيا على ثروات ومياه شرق المتوسط. وبالتالي فإن محرّك الصراع المصري التركي مرتبط بخيوط جيو إستراتيجية وليس بمبررات القاهرة الخاصة بالجماعات الإرهابية.

حفتر “حبيب” مصر والإمارات
تحدد دراسة لمعهد “كارنيغي” لحظة تحالف حفتر الرسمية مع مصر في يناير/كانون الثاني 2014، حين رفض اللواء المتقاعد التمديد للمؤتمر الوطني العام الذي كان الإسلاميون يحضون فيه بحضور وازن.
“إن هدف مصر الأساسي هو مواجهة ظاهرة انتشار الإسلام السياسي -لا سيما في البلدان المجاورة- التي يمكن أن تشكل تهديدًا للأمن القومي”، هذا ما تقوله دراسة كارنيغي، مضيفة أن النجاح الانتخابي للأحزاب السياسية المرتبطة بالإخوان في تونس ومصر والمغرب، أدى إلى تأجيج مخاوف السيسي من أنهم يسعون إلى السيطرة على العالم العربي، وبالتالي إضعاف نفوذ مصر الإقليمي، ومساعدة الإسلاميين المصريين على توسيع وجودهم في مصر، “وبدعم حفتر يأمل السيسي أيضا إثبات أن نموذج الحكم العسكري قادر على توفير الأمن والاستقرار” .

مصالح اقتصادية.. من المستفيد؟
إلى جانب الاعتبارات الأمنية والأيدولوجية، لا ينفصل الصراع المصري التركي وتدخل البلدين المحموم في ليبيا عن مصالح اقتصادية على غرار باقي القوى الدولية والإقليمية المتدخلة.
ففي الحالة التركية مثلا، تُعتبر الشركات العاملة في مجال البناء والمنشآت متضررة من انفلات الوضع في ليبيا. فقد كانت شركات البناء التركية مثلا مرتبطة بعقود بقيمة إجمالية تناهز 15 مليار دولار لحظة سقوط نظام القذافي، وهو ما لا يمكنها استعادته إذا سيطر حفتر على جميع البلاد.
ولا تُعدم مصدر المصالح الاقتصادية التي تحركها في ليبيا، فقبل سقوط القذافي كان أكثر من مليون ونصف مليون مصري يعملون في هذا البلد الجار، وكان هؤلاء العاملون يحوّلون نحو 33 مليون دولار من الأموال سنويا إلى مصر.
كما أن الصادرات المصرية نحو ليبيا انخفضت بأكثر من 75% بعد سقوط القذافي، وهذه السوق هي واحدة من العوامل التي تحرك مصر في ليبيا، إلى جانب انتظار تدفق الاستثمارات الليبية في مصر وتأمين الحاجيات الطاقية للقاهرة، ومشاركة الشركات المصرية في إعادة الإعمار.
هل تتغير محاور اللعبة؟
في دراسة لمعهد واشنطن، تم إخضاع العلاقات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط للفحص، وفي مقدمتها العلاقات المصرية التركية. وتقول الدراسة إنه وبعد وقت قصير من سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك في عام 2011 أصبحت تركيا من المؤيدين الإقليميين الرئيسيين لمصر. “لكن عندما تمت الإطاحة بالرئيس الجديد محمد مرسي في عام 2013 غيّرت تركيا من مسارها. ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر سرعان ما أصبح الخصام بين البلدين من الخصومات الرئيسية في بلدان المشرق العربي”.
وفي الجذور العميقة لهذا الصراع، تقول الدراسة إن مصر وتركيا هما أكبر دولتين تضمان غالبية مسلمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. “وتعتبر كل منهما نفسها قوة إقليمية، وزعيمة الإسلام السني في الوقت الحالي. وتعود التوترات بين البلدين إلى أيام الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مصر في ظلها مقاطعة حتى عام 1867 حين أصبحت شبه مستقلة”.