أوروبا.. لماذا فشلت في محاربة الجهاديين بمنطقة الساحل؟

موح أوبيهي

دشن انهيار النظام الليبي في 2011 مسلسل الانهيارات في منطقة الساحل الأفريقي، فقد أدى سقوط “رأس الدومينو” إلى تضعضع أنظمة سياسية وجدت في العقيد معمر القذافي -إلى ذلك الحين- السند الوحيد في المحن والأزمات التي تهددها. وكان زعماء دول الساحل المجاورة لليبيا يغدقون على القذافي المديح والألقاب، وكان سخيا معهم بالمال والسلاح.

وعندما سقط القذافي، لم تفقد هذه الأنظمة السياسيّة عرّابها فحسب، إنما أدّت التطورات المتلاحقة في ليبيا إلى سلسلة من الأحداث لم تكن في صالحها، أهمها على الإطلاق تقهقر المرتزقة من الطوارق -الذين كانوا جزءا من جيش القذافي- إلى الصحراء الشاسعة مدجّجين بالسلاح الثقيل والمال والرغبة في إيجاد موطئ قدم في موطنهم الأصل.[1]

في غضون أشهر قليلة، التقت مصالح مليشيات الطوارق الانفصالية مع مصالح جماعات جهادية ناشطة في المنطقة، فقرر الطرفان اقتطاع الجزء الشمالي من مالي وإعلان استقلاله تحت اسم “دولة أزواد”. وفي يناير/كانون الثاني 2012، انهزم الجيش المالي أمام هذا “التحالف البراغماتي” بسرعة فاجأت كل المراقبين لتطورات الوضع في الساحل.

وبسبب تلك الهزيمة المذلّة، قاد ضباط من الجيش المالي تمردا في العاصمة باماكو (جنوب) احتجاجا على طريقة تعاطي الحكومة مع الانفصاليين في الشمال، مما عجّل بسقوط نظام الرئيس أمادو توماني توري (ترأس البلاد خلال ولايتين من 2002 إلى 2012).

وخوفا مما سمّاه الأوروبيون “أفغانستان جديدة في غرب أفريقيا”[2]، تدخلت فرنسا في ديسمبر/كانون الأول 2012 لافتكاك شمال مالي من قبضة الجماعات المتشددة. وبينما نجحت الغارات الجوية الفرنسية في السيطرة على “أزواد”، فشلت في ضبط الأوضاع في باقي المنطقة، خاصة بعد أن فتح الجهاديون ومليشيات أخرى جبهات جديدة في دول مجاورة مثل النيجر وبوركينا فاسو.

كيف تدهور الوضع؟

عندما تدخلت فرنسا في نهاية عام 2012 في مالي، كانت قد مرت ستة أشهر كاملة على سيطرة الجماعات الجهادية على نحو ثلثي دولة مالي. وكانت أبرز هذه الجماعات هي “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، وفرعها المنشق “حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا”، بالإضافة إلى “جماعة أنصار الدين”، وهذه الأخيرة كانت في الأصل حركة قومية تابعة لأحد أبرز القيادات التاريخية لقبائل الطوارق في مالي وهو إياد آغ غالي.

لم يعتنق إياد آغ غالي (60 عاما) الفكر الجهادي إلا في السنوات القليلة الماضية، فالرجل كان يساريا قوميا عندما هاجر إلى ليبيا في الثمانينيات من القرن الماضي. تلقى تكوينه العسكري في صفوف “الكتيبة الخضراء” التي شكلها القذافي من الطوارق، ولعب دورا في اجتياح ليبيا لأراضي تشاد في محاولة فاشلة لإسقاط نظام الرئيس السابق حسين حبري (رئيس تشاد من 1982 إلى 1990).

في 1990، قاد “الحركة الشعبية لتحرير أزواد” للتمرد ضد الحكومة في باماكو، مطالبا بما يشبه “الحكم الذاتي” لولايات الشمال الثلاث (تمبكتو وغاو وكيدال) وبتوجيه نحو 50% من ميزانية مالي السنوية لصالح “الشمال المتخلف”.

تدخلت دول الجوار لتقريب وجهات نظر أطراف النزاع، فتم أخيرا توقيع “اتفاقية تمنراست” بالجزائر في 1991 بين دولة مالي و”الحركة الشعبية لتحرير أزواد”، إضافة إلى “الجبهة العربية الإسلامية لتحرير أزواد”. ورغم تجدد القتال في 1992 و1994، فإن المسلحين الأزواديين تخلوا عن أسلحتهم واندمجوا في الجيش المالي في عهد الرئيس المنتخب بشكل مدني ألفا عمر كوناري.

قبيل استهداف تنظيم القاعدة لبرجي التجارة العالمي في 11 سبتمبر/أيلول 2001، عادت منطقة الساحل إلى ما يشبه الفوضى العارمة، إذ تحوّلت تلك الصحاري الشاسعة إلى مسرح جديد للجماعات الإجرامية الناشطة في مجال تهريب المهاجرين وبيع المخدرات والأسلحة.

وفي هذه الظروف، وصلت تنظيمات جهادية إلى المنطقة مستغلة الفراغ الأمني والغياب التام لضبط الحدود بين دول الساحل الضعيفة، فظهر أول مرة ما سُمّى لاحقا “تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي”. وفي غضون عقدين فقط، ألهم هذا التنظيم جماعات جهادية أخرى في معظم الدول المجاورة.

ومع بروز الجماعات الجهادية في منطقة الساحل، ظهر مجددا اسم إياد آغ غالي في الإعلام الدولي، إذ توسّط في مناسبات كثيرة بين جماعات مسلحة مرتبطة بالقاعدة ودول أوروبية لإطلاق سراح رهائن غربيين مقابل دفع فدى كبيرة. وتردد آنذاك أن هذا القائد القبلي أصبح ثريا بعد أن تلقى عمولات كبيرة لقاء هذه الوساطات. وبين 2005 و2008، ترك إياد صحاري أفريقيا ليتولى مهمة دبلوماسية في مدينة جدة السعودية.

عندما أنزل الثوار معمر القذافي من عرشه في 2011، عاد المقاتلون الطوارق إلى بلدانهم في إقليم أزواد، وفي الوقت نفسه بدأت التقارير الاستخباراتية الغربية تحذر الحكومة المالية بأن موجات جديدة من الاقتتال قادمة، بعد أن انتهى الأزواديون إلى اعتناق واحدة من الحركتين المتزعمتين للانفصال عن مالي:

الأولى؛ هي “الحركة الوطنية لتحرير أزواد”، تأسست في 2010 ويتزعمها علمانيون طوارق وعرب وقوميون، وتسعى إلى كسب تعاطف واعتراف دوليين من خلال التركيز على “المظالم” الاقتصادية والثقافية لسكان شمال مالي، ويرأسها العقيد السابق في الجيش الليبي محمد آغ ناجم.

أما الثانية؛ فهي “جماعة أنصار الدين” التي أصبح اسمها منذ مارس/آذار2017 “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، ويتزعمها الدبلوماسي السابق إياد آغ غالي، لكن الرجل اختار هذه المرة أن يلبس عباءة “السلفية الجهادية”. فقد انتقل من اعتبار منطقة “أزواد” حدودا جغرافية خاصة بقومية الطوارق إلى اعتناق التوجه السلفي الجهادي والتحالف مع تنظيم القاعدة في محاولة لتطبيق الشريعة في المناطق التي تقع تحت سيطرته.

ورغم ما بينهما من فروق أيدولوجية، تحالفت هاتان الحركتان -مرحليا- لدحر الجيش المالي من الشمال، وهو ما تحقق في غضون شهرين فقط.

وفي هذه الأثناء، ظهرت حركة جهادية جديدة من رحم تنظيم القاعدة، لسبب يعتبره البعض غريبا نوعا ما، فقد سعى أبناء القبائل العربية في أزواد إلى تأسيس “كتائب للمقاتلين العرب” منضوية تحت لواء القاعدة أسوة بالكتائب الطوارقية “سرية الأنصار”، وعندما رفض تنظيم القاعدة هذا “الطلب الجاهلي”، قام هؤلاء بالانشقاق وتأسيس “حركة الجهاد والتوحيد في غرب أفريقيا”.[3]

توصف هذه الحركة -التي يتزعمها حمادو ولد محمد الخيري الملقب بـ”أبو القعقاع”- بـ”الجماعة الإرهابية الأكثر إثارة للرعب وسفكا للدماء في شمال مالي”، إذ بايعت في يوليو/تموز 2014 تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأعلنت أن طموحاتها لتطبيق الشريعة تتجاوز حدود منطقة الساحل إلى باقي دول غرب أفريقيا.[4]

في 17 يناير/كانون الثاني، أعلنت جميع هذه التنظيمات (العلمانية والجهادية) الحرب على الحكومة المالية من أجل تحقيق الانفصال المنشود منذ أول تمرد في 1960. وبعد هزيمة الجيش المالي، أعلنت “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” في 5 أبريل/نيسان 2012 قيام “جمهورية أزواد”.

في البداية، عبرت الحركة عن رغبتها في تأسيس دولة علمانية، مطالبة المجتمع الدولي بالاعتراف بها، لكن عندما تجاهل الجميع هذا الطلب ورفضت دول الجوار إعلان الاستقلال بشكل أحادي، قام “العلمانيون” بالاندماج مع “حركة أنصار الدين” الجهادية لإنشاء دولة إسلامية في أزواد وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية “بشكل معتدل”، مع إبعاد الحركات الجهادية المتشددة مثل تنظيم القاعدة وباقي الجماعات الدائرة في فلكها.

وفي يونيو/حزيران 2012، انهار هذا التحالف، فأعلنت “حركة أنصار الدين” وجماعات جهادية أخرى سيطرتها على أبرز المراكز السكانية بشمال مالي، مما دفع فرنسا -المستعمر السابق لمالي- ودولا مجاورة في منطقة الساحل إلى التدخل عسكريا لتحرير “أزواد” من قبضة الجهاديين.

تدخل أوروبي

في 20 ديسمبر/كانون الأول 2012، وافق مجلس الأمن -في قراره رقم 2085- على التدخل الأوروبي في مالي تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما أعطى الضوء الأخضر للدول المجاورة للتدخل من أجل مساعدة الحكومة والقوات المالية، ودعا الحركات الوطنية الأزوادية إلى فكّ ارتباطها بشكل مطلق مع “الجماعات الإرهابية”.[5]

ويسمح الفصل السابع للحكومات بطلب المساعدة من دول أخرى عندما تتعرض سيادتها للانتهاك، وهو ما ركّز عليه آنذاك الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عندما قال في خطابه إن الحملة العسكرية الفرنسية تأتي “في نطاق الشرعية الدولية”، وإنها اتخذت “بالاتفاق مع الرئيس المالي (الانتقالي) ديونكوندا تراوري”.[6]

وبعد حملة من الغارات الجوية الفرنسية التي حملت شعار “سيرفال” (القط البري)، استطاع 4200 جندي فرنسي رفقة 3000 من الجنود القادمين من دول غرب أفريقيا -وتحالف ضمني من الانفصاليين الأزواد- السيطرة على شمال مالي من دون مقاومة كبيرة.

لجأت الجماعات المتشددة إلى الجبال، خاصة سلسلة “تغرغارت” التي سمّاها الإعلام الفرنسي “تورا بورا منطقة الساحل”، في حين وقّعت الحكومة المالية اتفاقا جديدا مع الأزواديين في 18 يونيو/حزيران 2013 رجع بمقتضاها الجيش المالي إلى شمال البلاد.

ومنذ التدخل الفرنسي في مالي، لم يتوقف الدعم المالي الأوروبي لباقي دول منطقة الساحل، إذ تحاول باريس إنقاذ الأنظمة السياسية المهددة بالانهيار في محاولة لقطع الطريق أمام الجماعات الجهادية التي تبحث عن موطئ قدم في المنطقة.

ويضم هذا الدعم عملية برخان، التي تتألف من 4500 عنصر من القوات الفرنسية، وتتخذ من العاصمة التشادية مقرا لها، وتهدف هذه العملية ليس فقط إلى مكافحة الجماعات الإرهابية، وإنما أيضا -بطريقة غير مباشرة- إلى مكافحة التمردات ودعم الأنظمة القائمة.[7]

وبالإضافة إلى ذلك، قام الأوروبيون بإنشاء “بعثة الاتحاد الأوروبي لتدريب جيش مالي” والتي تضم 620 جنديا من أكثر من 20 دولة في الاتحاد الأوروبي، ويستفيد من خدمات هذه البعثة أيضا بعض الضباط من القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس المعروفة بـ”جي5″ (G5)، ومكونة من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد.[8]

ونشرت الأمم المتحدة أيضا ما يقرب من 13500 من قوات حفظ السلام في شمال مالي، ومعظمهم ألمان، ضمن “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي”، التي تسعى أيضا إلى “دعم الحوار السياسي الوطني والمصالحة والمساعدة على إعادة تأسيس سلطة الدولة وإعادة بناء قطاع الأمن”.[9]

وفوق كل هذه المبادرات الأوروبية والدولية، هناك القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس جي5 نفسها، والتي يصل عدد أفرادها إلى 5000 جندي. يحظى هذا التحالف العسكري الإقليمي بتمويل من الاتحاد الأوروبي، ويُعتبر أولوية رئيسية في الإستراتيجية الفرنسية في الساحل، لكن تعتريه مشاكل كبيرة متعلقة بالتجهيز والتمويل، علاوة على تحفظ بعض الدول على وجود مثل هذا التحالف أصلا.

جبهات جهادية جديدة

رغم تعدد المبادرات الأوروبية في الساحل، فإن الأرقام تؤكد أن الوضع الأمني هناك متدهور بشكل غير مسبوق، فقد ارتفعت أعداد الوفيات الناجمة عن العنف المسلح في مالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد من 587 في عام 2012 إلى 2868 في عام 2018، وفقا للبيانات الصادرة عن منظمة “مواقع النزاعات المسلحة” (ACLED).[10] ومنذ بداية 2019 بلغ عدد ضحايا العنف في هذه الدول نحو 2600، مما يعني أن هذا العام سيكون بلا شك أسوأ من الأعوام الماضية.

وإلى حدود 2014، كانت أعمال العنف تتركز أساسا في شمال مالي نتيجة للصراع الشائك بين الحكومة المالية من جهة والجماعات الجهادية والحركات التحررية الأزوادية من جهة أخرى، لكن نطاق الأزمة توسّع الآن وامتدّ إلى البلدان المجاورة.

ففي بوركينافاسو، قُتل نحو 950 شخصا بسبب النزاع المسلح والاضطراب الأمني منذ بداية عام 2019. وفي الوقت نفسه، ارتفعت أعداد ضحايا العنف في كل من النيجر وتشاد إلى 400 قتيل لكل بلد، وهي حصيلة مرتفعة عن العام الماضي.

وتشترك بوركينا فاسو مع مالي في حدود جغرافية شاسعة يسمّيها الغربيون “سيراق غرب أفريقيا” نسبة إلى الحدود السورية العراقية التي مكّنت تنظيم الدولة الإسلامية من اجتياح البلدين في 2014 وإقامة “دولة” بحجم بريطانيا استمر عمرها أربع سنوات.[11]

ويؤكد تحقيق استقصائي نُشر في أبريل/نيسان الماضي في صحيفة غارديان البريطانية، أن الجزء الأكبر من شرق بوركينا فاسو لا تسيطر عليه الحكومة، إنما يظل تحت السيطرة الكاملة للجماعات المتشددة ومقاتلين محليين.

وتنقل الصحيفة على لسان سكان محليين قولهم إن المسلحين “يسيطرون على المنطقة بأكملها، لديهم دراجات نارية كبيرة يركبونها مدججين بالرشاشات. لقد زرعوا الألغام في كل مكان (..) قوات الجيش لم تعد تحاول حتى الوصول إلى هذه المنطقة”. [12]

وليست الجماعات الجهادية هي التحدي الوحيد لدول الساحل، ففي ظل فشل هذه الدول في بسط الأمن، قامت بعض الأقليات بتأسيس “مليشيات عِرقية للدفاع عن النفس”، لكن تقارير حقوقية أكدت أن هذه الجماعات المسلحة تورطت في أعمال مروعة ضد أقليات عرقية أخرى.[13]

وحتى القوات الحكومية لا تحظى بالشرعية اللازمة بسبب ارتكابها في مناسبات متعددة أعمال قتل خارج القانون، مثل إعدام المتمردين المشتبه فيهم بطريقة غير قانونية أو الاعتداء على بعض القبائل لأسباب إثنية.[14]

ويغذي هذا الظلم -الذي يقع تحت إشراف الأوروبيين- الجماعات الإرهابية في المنطقة، إذ يلجأ بعض السكان إلى الجماعات الراديكالية بحثا عن الانتقام من الحكومة أو من بعض النخب المحلية.[15]

وأدى غياب الأمن في مالي وبوركينا فاسو إلى تقويض الاستقرار في بلدان مجاورة مثل ساحل العاج وبنين والنيجر، فقد اخترقت التنظيمات الجهادية الحدود بين هذه الدول وقامت بمداهمات وعمليات اختطاف في مناطق كانت تعتبر إلى وقت قريب آمنة.[16]

وعلاوة على أعداد القتلى وانتقال العنف إلى دول أخرى، أدّت الاضطرابات الأمنية إلى نزوح نحو 413 ألف شخص في كل مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد وموريتانيا، في حين يحتاج 5.1 ملايين شخص آخرين إلى المساعدة الإنسانية، وفق “مركز رصد النزوح الداخلي” ومقره جنيف.[17]

فشل إستراتيجية أوروبا

منذ عام 2016 والتقارير تحذر من أن التدخل الأوروبي في الساحل يشكل مصدر تهديد للأمن على المدى الطويل، ففي مقال نشره الباحث في مؤسسة “بيير دو بوا” للتاريخ المعاصر ناثانيل كي باول في مجلة فورين أفيرز، أشار إلى أن “النجاحات العسكرية لوحدها لن تؤدي إلى استقرار الوضع في الساحل”، مضيفا أن “عملية برخان قد تضر أكثر مما تنفع، إذ إنها توفر دعما حاسما لحكومات قمعية هي المصدر الأساسي للمشاكل التي يعاني منها الساحل”.

ونصح هذا الباحث فرنسا ببناء جسور مع المجتمعات المحلية والسكان عوض الاكتفاء بدعم أنظمة مستبدة، معتبرا أن دعم باريس لحكومات “تفترس شعوبها يزيد من احتمالات الاضطرابات والتمرد، بل وحتى الإرهاب”.[18]

وفي تقرير العام الماضي لمجموعة الأزمات الدولية، أكدت أن الحل في الساحل لن يكون عسكريا إنما “سيأتي عبر تشجيع المصالحة والحوار على الصعيد المحلي، وخاصة في مالي”. وأضافت هذه المنظمة ومقرها بروكسيل “في تشاد ينبغي ألا يسعى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء إلى تحقيق أهداف أمنية قصيرة الأمد، بل يجب أن يسعى أيضا إلى التحقق من الدوافع الاستبدادية للحكومة قدر الإمكان”.

وتُقدم فرنسا دعما أساسيا لحكام أبديين مثل الرئيس إدريس ديبي إتنو الذي حكم تشاد منذ 30 عاما. فبين عامي 2006 و2008، حالت القوات الفرنسية دون الإطاحة بالرئيس التشادي بعد هجمات للمتمردين على العاصمة إنجامينا. كما تُقدم فرنسا الدعم لأنظمة أخرى في دول الساحل في مجال تجهيز الجيوش والشرطة وتدريب عناصر المخابرات.

ويرفض بعض الخبراء اعتبار ما يقع في الساحل اختراقا للجماعات الجهادية العالمية مثل تنظيم القاعدة، ويؤكدون أن معظم الجماعات الجهادية في غرب أفريقيا “محلية الصنع” نشأت بسبب الدكتاتورية وفساد الأنظمة والنخب السياسية.

يقول ناثانيل كي باول “تحاول الأنظمة السياسية إلباس الحركات المعارضة في المنطقة لبوسا جهاديا من أجل حشد الدعم الأجنبي وقمع المعارضين”، ويضيف “من خلال دعم هذه الأنظمة السياسية، يساهم المجتمع الدولي، وخاصة فرنسا، في إنشاء المنابع الحقيقية لعدم الاستقرار في المنطقة”.

وتعتبر بعض الأصوات في مالي أن التواجد الفرنسي ليس بريئا، بل “يأتي في إطار محاولاتها السيطرة على موارد المنطقة من المواد الخام والبترول، وأنها تقوم في هذا الإطار بتوظيف المتمردين كورقة ضغط على حكومة مالي من أجل الحصول على مزيد من التنازلات السياسية والنفطية”.[19]

ويعتقد الخبير في قضايا الساحل، بيتر دورى، في مقال نشره على “وورلد بوليتيك ريفيو”، أن الناس في مالي يؤمنون إيمانا شديدا بأن “فرنسا صممت الأزمة الحالية كذريعة لاحتلال شمال مالي والوصول إلى الغاز الطبيعي وحقول النفط في الصحراء”.

وفي حين يعتبر الباحث المقيم في مالي أن “هذه مجرد نظرية مؤامرة”، يؤكد في المقابل أنها فكرة “يتبناها سائق سيارة الأجرة في واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو) كما تتبناها أيضا وزيرة الخارجية السابقة في مالي سي كادياتو سو الجالسة في مقهى ضخم في باماكو”.[20]

وما يغذي هذه النظريات هو التعاون الضمني بين القوات الفرنسية والانفصاليين الطوارق في شمال مالي، وهو ما لا تنفيه باريس، إذ تؤكد باستمرار أن هدفها هو محاربة الإرهاب.

ويعتقد خبراء آخرون أن فرنسا لا يهمها في هذه البلدان سوى الحفاظ على الاستقرار على حساب الديمقراطية، في محاولة للتصدي للجهاديين وشبكات تهريب المهاجرين إلى أوروبا.

والأخطر من هذا كله هو أن الناس بدأت تعتنق وجهات نظر معادية للغرب في الساحل، إذا يتساءلون -بحسب بيتر دورى- دون جواب شاف: هل تعجز فرنسا والدول الأوروبية بكل التكنولوجيا التي تمتلكها عن سحق الجهاديين وترك منطقة الساحل لأهلها؟

وفي هذا الصدد، يقول بيتر دورى إن إستراتيجية الاتحاد الأوروبي لم تفشل وحسب، إنما أدت أيضا إلى “تحول خطير في المواقف تجاه الغرب. وعلى المدى الطويل يمكن أن يكون هذا مدمرا ومكلفاً أكثر بكثير من الخطر الذي يشكله وجود حفنة من الإسلاميين في صحراء مالي”.

المصادر:

[1] https://www.aljazeera.com/programmes/specialseries/2016/10/shadow-war-sahara-161009025023817.html
[2] https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/03071847.2013.774635?scroll=top&needAccess=true
[3] https://www.aljazeera.net/encyclopedia/movementsandparties/2014/2/12/%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7
[4] https://www.ecfr.eu/mena/sahel_mapping/mujao
[5] http://www.globalr2p.org/media/files/sres2085-on-mali.pdf

[6] https://franceintheus.org/spip.php?article4310
[7] https://www.defense.gouv.fr/operations/barkhane/dossier-de-presentation/operation-barkhane
[8] http://eutmmali.eu/

[9] https://peacekeeping.un.org/ar/mission/minusma
[10] https://www.acleddata.com/dashboard/
[11] https://www.globalresearch.ca/mali-burkina-faso-niger-border-triangle-new-syraq/5677712
[12] https://www.theguardian.com/global-development/2019/apr/22/kalashnikovs-and-no-go-zones-east-burkina-faso-falls-to-militants

[13] https://www.jeuneafrique.com/785893/politique/mali-dans-le-cercle-de-koro-ces-villages-freres-peuls-et-dogons-qui-se-font-la-guerre/
[14] https://www.hrw.org/news/2019/05/22/burkina-faso-respect-rights-during-counterinsurgency-operation
[15] https://www.worldpoliticsreview.com/articles/27977/europe-has-spent-years-trying-to-prevent-chaos-in-the-sahel-it-failed
[16] https://www.bloomberg.com/news/articles/2019-05-05/two-french-tourists-kidnapped-guide-killed-in-benin-france24
[17] http://www.internal-displacement.org/
[18] https://www.foreignaffairs.com/articles/west-africa/2016-02-01/flawed-strategy-sahel
[19] http://alwatannewspaper.ae/?p=13155
[20] https://www.worldpoliticsreview.com/articles/27977/europe-has-spent-years-trying-to-prevent-chaos-in-the-sahel-it-failed


إعلان