أمهات تحت الشمس.. فصول من معاناة نساء الصومال
لا تتوفر أرقام رسمية لدى منظمة الصحة العالمية عن معدل دخل الفرد في الصومال، ولكن إبراهيم آدم الذي يعمل مزارعا في قرية جمبلول يقول إنه يكسب كل يومين ما يعادل ثلاثة دولارات أمريكية، أما سكينة علي وهي مزارعة من نفس القرية فيبدو أنها أحسن حظا من آدم، إذ أنها تكسب ما يعادل دولارين يوميا.
لعل مثل هذه الأرقام المتواضعة أحرجت المنظمات العالمية أن تذكرها، وفي بلد تتنازعه الصراعات والحروب الأهلية، وتفتك به الأمراض والمجاعات، وتتكرر فيه مشاهد الموت البشع بكل أشكاله، فإنه يكاد يكون من المتعذر أن تشرق حياة مولودٍ بصورة طبيعية، وبأريحيةٍ وبساطةٍ كالمعهود في بقاع العالم الأخرى.
الصومال.. بلد الحرب والحرب
بين أيدينا فيلم وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “أمهات تحت الشمس”، يسلط الضوء على معاناة الأمهات الصغيرات في الصومال، هذه المعاناة التي تظهر في صورٍ شتى، ليس أقلها قتامةً الأعمال المرهقة في الحقول الزراعية من أجل أن تساعد المرأة زوجها وتغطي عنه بعض نفقات أفراد عائلتها.
وما أكثرها بشاعةً حالات الوفاة التي يتعرض لها أطفالها الصغار، أو حتى الأمهات أنفسهن أو الأجنة في بطونهن، وذلك لنقص الرعاية الصحية، والأطباء والمستشفيات.
وفي ظل غياب الحكومة المركزية، وتناحر باقي القوى والفصائل وشيوخ القبائل، والصمت الدولي إزاء هذه الكوارث، فإن الدور الأكبر يقع على عاتق المنظمات الأهلية والدولية غير الحكومية للإسراع في إيجاد الحلول الناجعة إستراتيجيا، وتقديم العون السريع على الأرض من أجل وقف نزيف الأرواح، وحماية حياة الإنسان بوصفه إنسانا خارج إطار التقسيمات العرقية والدينية والإثنية.
جمبلول.. قرية الفرح الحزين
الحياة مستمرة في قرية جمبلول الواقعة في إقليم شبيلي السفلي قرب العاصمة مقديشو، هؤلاء مزارعون يهرولون إلى مزارعهم مع خيوط الشمس الأولى، وفاطمة حسين تستعد لزفاف ابنها داوود الذي بلغ الثامنة عشرة من عمره، ونسوة غاديات رائحات في تلك الأزقة الموحلة الضيقة، بعضهن يذهبن للحقول من أجل العمل، وأخريات توجهن إلى بيت أم داوود للمساعدة في إتمام متطلبات العرس، ومجموعة قصدن بيت عبدي جدود الذي توفيت زوجته أثناء المخاض لتقديم واجب العزاء، والاعتناء بأطفالها الذين تركتهم خلفها.
في مقبرة القرية ترى مجموعة من الرجال يرشون الماء على قبرٍ، بعد أن أدوا صلاة الجنازة في ذات المكان، ويجلس مقعياً بالقرب من القبر رجل في أواخر العقد الثالث من عمره، إنه عبدي جدود الذي فقد زوجته وهي في المخاض.
قال لنا إنه حزين جدا على فراق زوجته، وحزين أنه لم يكن يملك ما يكفي من المال لعلاجها، وعندما لاحت له فرصة نقلها إلى المستشفى اشتد عليها المرض وفارقت الحياة قبل أن تصل إلى هناك، ولكنه حمد الله على كل حال، ورضي بقدره سبحانه، وسلى نفسه وأطفاله بالصبر الجميل.
كثير من النساء هنا يلاقين نفس مصير زوجة جدود، فهذه القرية لا يتوفر فيها مستشفى للولادة، ولا وحدة صحية صغيرة لرعاية الحوامل والأطفال، ولا حتى طبيب واحد يمكن أن يلجأ إليه أهل القرية في حالة طارئة كهذه، هي وحدها فاي سيدو؛ القابلة التقليدية في القرية، التي تقصدها النساء عند اشتداد الطلْق.
تقول سيدو “إننا لا نملك مقومات العناية الصحية الضرورية للتوليد، ولا حتى حقنة أوكستوسين التي تحفز عضلات الرحم أثناء المخاض، هي السكين فقط نستعين بها على قطع الحبل السري للجنين، وفي الحالات الصعبة تموت الحامل قبل أن تصل إلى المستشفى في مقديشو، أو في أحد الأقاليم الأخرى المجاورة”.
أما أم الخير علي، وهي إمرأة حامل في شهرها التاسع، فربما تكون أحسن حظا من ملايين الصوماليات، فهي تسكن في مقديشو، وتتابع حملها شهريا مع طبيبها في المستشفى، وحريصة على أخذ التطعيمات واللقاحات الضرورية في موعدها.
لقد مرت أم الخير بهذه التجربة مرتين قبل ذلك، فلديها ولد في الخامسة من عمره وبنت في عامها الثالث، وهي الآن تنتظر مولودها الثالث، ما زالت تتابع حديثها حين مر بنا الدكتور إبراهيم شيخ يوسف، طبيب النسائية في المستشفى، وهو في جولة تفقدية على مرضاه، وقال لنا “إن أكثر ما نواجه من حالات في هذا المستشفى هو حالات الإجهاض المتكررة لدى النساء”.
ويتابع أن النساء يعانين من حالات نزيف شديد، وما إن تصل إلينا حتى تكون في حالة حرجة ونكون على مفترق طرق بين إنقاذ الأم أو إنقاذ الجنين، وتكون الأولوية للأمهات بالطبع، ولك أن تتخيل بعد ذلك الصدمة النفسية العميقة التي تواجهها الأم والعائلة كلها بعد فقد الجنين.
أهازيج الحياة وتراتيل الموت
ونعود إلى قرية جمبلول، حيث تسبق إلى آذاننا قبل الوصول أصوات أهازيج النساء الآتية من بيت داوود العريس، لقد زُفَّت له فتاة أحلامه وأم أولاده في المستقبل، إنه فرِح مسرور وكذلك والدته وعروسه.
تحدث إلينا متهللا وجهه مبتهجةً أساريره “عمري الآن 18 عاما، أهلنا في هذه السن حريصون على تزويج أبنائهم، إنهم يقولون لنا إنهم سيتحملون أعباء الزواج عنا، هم يدركون أن فرص العمل قليلة في هذه البلاد، وليس لأمثالنا في هذه السن الحصول على عمل في وقت قريب، وهم يحبون أن يفرحوا بنا وبأحفادهم بأسرع وقت”.
وعندما حانت منا التفاتةٌ إلى فاطمة حسين، والدة العريس، رأيناها تؤمّن على كلام ولدها، وتقول لنا “أريد أن أفرح بأولاد داوود وهم يلعبون في حضني، أريد أن أراهم وهم يمتطون ظهر جدهم، لقد تعبنا في تربية أبنائنا وتعليمهم القرآن الكريم في الخلوة، وبفضل الله ها هم كبروا وأصبحوا رجالاً، لقد آن لنا أن نرتاح قليلاً، أتعلمون؟ لقد تداينت ما يعادل 3400 دولار لتكاليف العرس وتأثيث المنزل، وأرجو الله أن يعينني على السداد، أنا فرحة كثيرا، أرجو الله أن يوفق داوود وعروسه الجميلة”.
القصص في هذه القرية الصغيرة تتشابه كثيرا، ومعاناة أهلها تتراوح بين قلة فرص العمل، ونقص مستويات التعليم، والتدني الحاد في الرعاية الصحية والتثقيف والإرشاد الصحي والنفسي، وخصوصا للنساء.
ففي مجتمع تقليدي يحرص فيه الناس على تزويج أولادهم صغارا، يستوي في ذلك الذكور والإناث، ويحرص فيه الرجال على إظهار فحولتهم والتفاخر بزيادة معدلات الإنجاب، وتتعذر فيه فرص الأطفال في الحصول على الفترة الكافية من الرضاعة الطبيعية، وبالتالي تضيع أي بارقة أمل للمباعدة بين الأحمال، فإن كل هذا يؤدي إلى النتائج السلبية المحتومة من كثرة حالات الإجهاض وموت النساء والأطفال والأجنة، ناهيك عن كل ما يخلفه هذا من حالات نفسية وصدمات عصبية للآباء والأمهات والأزواج.
كل الصومال يشبه جمبلول
وليست جمبلول وحدها هي المنطقة التي تكثر فيها المعاناة، فهذه فاطمة أويس من حي حمرججب في العاصمة مقديشو نفسها تذكر قصة أخرى من قصص المعاناة، تقول “مشاكل الحوامل في هذا الحي كثيرة، فمثلا عندما يأتي ألم المخاض نتكئ فورا على أكتاف قريباتنا ومن ثم نذهب نزولا من هذه الطرق الوعرة إلى المستشفى أو مقر إقامة القابلات. تقع منازلنا على هذه التلة التي بنيت عليها منازل عشوائية، لا يوجد هنا ممر للسيارات، فعلى المرء هنا أن ينزل مشيا على الأقدام وهو أمر عسير على المرأة الحامل عندما تأتيها آلام المخاض، فالبعض منا عندما يلدن تحتجزهن القابلات إلى أن يتم دفع أجرة عملية الولادة للقابلة، من هنا تبدأ مشكلة الولادة، حيث من الصعب عليّ دفع تكاليف عملية الولادة، فظروفنا المادية لا تسمح بذلك، زوجي يعمل حمالا، وأنا أعمل أحيانا كعاملة نظافة من أجل توفير لقمة العيش لأطفالي، وليس لي عمل آخر”.
وتضيف فاطمة “أعاني من فقر الدم، وهذا هو ما يقلقني ويزرع الخوف في نفسي من مواجهة عملية الولادة، بالإضافة إلى عدم استطاعتنا دفع تكاليف القابلة أو المستشفى. فما هو مصير طفلي المنتظر إذا لم أدفع تكاليف الولادة؟ توفي طفلي السابق نتيجة إصابته بإسهال معوي، ولم نستطع أخذه إلى المستشفى بسبب ضيق ذات اليد، وهذه مشكلة أخرى نواجهها في هذا الحي”.
ويقول حسن إبراهيم زوج فاطمة “أجمع مخلفات السيارات، ومن ثم أعرض ما يصلح منها للبيع لكسب لقمة العيش لأسرتي، وعندما يتعذر علىّ وجود ما يصلح للبيع أعمل حمّالا، كل هذا من أجل أسرتي التي تعيش ظروفا معيشية قاسية، وعندما أسقطت زوجتي الحامل أخذتها إلى مستوصف الحي القريب منا، وفي هذه الحال فإن تأجير سيارة يحتاج إلى مال، وكذلك المستشفى. ما يقلقني أكثر هو أنني لا أستطيع فعل شيء لمساعدة زوجتي الحامل، أخاف جدا من هذه العملية وذلك لضيق ذات اليد، فهي تعاني من فقر الدم، وتحتاج الى تغذية جيدة، بينما لا أملك شيئاً لأقدمه لها”.
وتستمر الحياة
هنالك مقولة شائعة في الصومال تقول “قبر الحامل جاهز ومحفور مدة أربعين يوماً”، ويذكر فريق العمل في هذا الوثائقي أنهم عايشوا هذه المقولة للأسف الشديد بكل حذافيرها، فبعد زيارتهم الأولى عادوا بعد ستة أشهر لزيارة الحالات التي التقوا بها سابقا، وكانت الحال لا تسر كثيرا، بعض النساء أجهضن قبل تمام الحمل، وبعضهن فقدن الأجنة في لحظات المخاض الأخيرة، وأخريات كتب الله لهن ولأطفالهن النجاة، وماتت زوجة عبدي جدود رحمها الله، وما زال إبراهيم آدم يحلم بمدرسة ومركز صحي في قريته، ومريمة لامي زوجة إبراهيم فقدت طفلها بعد سبعة أيام من ولادته لتعذر تشخيص مرضٍ أصابه.
ما أبسط أحلام الناس هنا، ولكنها لا تتحقق، ومع كل هذا فإنهم ما زالوا يفرحون، وما زالوا يعتقدون أن شمس هذا الصباح تختلف عن شمس الأمس، ويبدو أن تفاؤلهم الشاحب يوحي لهم بأن الأجنة والأطفال الذين يُدفَنون تحت التراب يبرعمون من جديد ويزهرون، وأن الأمهات اللاتي دفنوهن اليوم، يصبحن أشجارا باسقة غدا، وترى على وجوه الجميع من خلف أستار المعاناة والحزن، رضا عميقا وسكينةً آتيةً من السماء، وصبرا جميلا.