فلسطين في ميزان “انقلاب” ديني وسياسي بأمريكا اللاتينية

خاص-الوثائقية

“التاريخ مسرح تتغير فيه الأدوار والأحداث، لكن نبوءات الإنجيليين تؤكد حدثا أساسيا بالنسبة للتاريخ الإنساني، وهو عودة المسيح لاستعادة أرض إسرائيل”.[1]

الحديث هنا لأستاذة اللاهوت في جامعة برمنغهام “كانديدا موس” في تقرير لها عنونته بـ”لماذا يحبّ الإنجيليون إسرائيل؟”.

هذا السؤال عاد في الشهور الأخير ليتردّد صداه في أركان جلّ مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، بسبب موجة التحوّل في مواقف دول أمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية، والتي ترتبط بشكل وثيق بمد تبشيري قوي للكنيسة الإنجيلية.

هذه المنطقة التي ظلّت منذ بدايات الألفية الحالية معقلا خالصا للفلسطينيين، وحيث صدرت أعلى نسبة اعتراف بالدولة الفلسطينية المعلنة من طرف واحد، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مصادر أولى الاعترافات بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمدينة القدس كعاصمة للدولة الإسرائيلية.

في خلفية المشهد، يوجد غزو كاسح لأحزاب يمينية شعبوية صعدت إلى السلطة في كثير من دول الأمريكيتين الوسطى والجنوبية، ووقود هذا الصعود ليس سوى تبشير ديني رفع رأسه أخيرا بعد عقود من الكمون، هو الذي تقوم به الكنيسة المسيحية الإنجيلية ذات النفوذ والنشاط السياسيين الكبيرين في الولايات المتحدة الأمريكية.

انقلاب لاتيني

في الوقت الذي عبّر العالم بشبه إجماع عن رفضه قرار الرئيس الأمريكي نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، خرج بعض من قادة دول أمريكا اللاتينية لمساندته بحماس كبير، وهو ما فاجأ الكثيرين. فدول أمريكا اللاتينية -باستثناء كولومبيا وبنما والمكسيك- أصدرت اعترافاتها بدولة فلسطين بين عامي 2008 و2013.[2]

شهد الواقع السياسي في هذه المنطقة من العالم تغييرات كبيرة، فدولة باراغواي كانت ثالث دولة تنقل سفارتها فعليا إلى القدس، مقتفية آثار كل من أمريكا وغواتيمالا في ذلك. بُعيد ذلك صادق برلمان غواتيمالا بدوره على قرار يدعو وزير الخارجية على الإسراع بهذه الخطوة، والرئيس البرازيلي المنتخب حديثا “خايير بولسورانو” كان قد وعد منذ ديسمبر/كانون الأول 2017 -أي أثناء تحضيره للترشح- أنه إذا فاز فسوف يتبع قرار ترامب المثير للجدل.

فورة يمينية

هذ التحول المسجل في مواقف دول أمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية يعود إلى انعطافة سياسية نحو اليمين تشهدها هذه الدول، وهي القوى السياسية الطامحة إلى الحصول على التأييد الأمريكي.

الحكومتان اليمينيتان في كل من هندوراس وغواتيمالا واجهتا أزمات سياسية حادة، وهو ما جعلهما في أمس الحاجة للدعم الأمريكي. وبالنسبة لرئيسيهما الملاحقين بتهم فساد، والمعارضة السياسية القوية، فإن نقل سفارتيهما لدى إسرائيل إلى القدس ليس مجرد إرضاء لترامب، بل هو محاولة للخروج من أزماتهما الداخلية أيضا.

علاقات أخرى تربط رئيس غواتيمالا مثلا بإسرائيل، فـ”جيمي موراليس” ينتمي إلى الديانة المسيحية الإنجيلية، والتي تمثل نحو 40% من السكان، كما أنه يوصف بأنه صهيوني متشدد.

أما نظيره الهندوراسي “أورلاندو هيرنانديز”، فهو خريج برنامج تدريبي تديره وكالة التعاون الإنمائي الدولي التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية.

رئيس باراغواي “هوراسيو كارتيس” -وهو ملياردير ملاحق بتهم تبييض الأموال والاتجار بالمخدرات- يرتبط بدوره بصلات خاصة مع إسرائيل، وتحديدا مع رئيس وزرائها الحالي بنيامين نتنياهو، وذلك لأن أحد أبرز مستشاري حملة كارتيس الانتخابية كان قد شغل في السابق مهمة مدير ديوان نتنياهو.[3]

مقاومة فلسطينية في أدغال الأمازون

كان لافتا خلال لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالرئيس التشيلي في رام الله منتصف يوليو/تموز 2019، جمعه بين الهجوم على مؤتمر البحرين الخاص بالشق الاقتصادي في “صفقة القرن”، وبين التأكيد على قوة الروابط التي تربط فلسطين بدول أمريكا اللاتينية.

عباس ذكّر بما وصفه الالتزام التاريخي لهذه الدول بدعم القضية الفلسطينية، في الوقت الذي تشهد فيه هذه الدول مدا يمينيا وإنجيليا قويا، مما جعل مواقف بعض دولها تنقلب تجاه القضية الفلسطينية.

انتهاز الرئيس الفلسطيني لفرصة لقائه بالرئيس التشيلي لطلب مزيد من الدعم من دول أمريكا اللاتينية، يعود إلى أن هذه الدولة تضم قرابة نصف مليون شخص ينحدرون من أصل فلسطيني.

وخلال زيارته لتشيلي في مايو/أيار 2018، حرص عباس على زيارة النوادي الرياضية الفلسطينية، كما حاول تجديد الحماس الذي كان قد رافق جولته في أمريكا اللاتينية عام 2010، حيث كانت دول أمريكا اللاتينية قد اعترفت بدولة فلسطين المعلنة من طرف واحد، بل إن البرازيل بادرت إلى التبرع بقطعة أرض لإقامة السفارة الفلسطينية عليها.[4]

وفي الوقت الذي يميل فيه البعض إلى تفسير للدعم الكبير للقضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية بهيمنة الإيدولوجيا اليسارية، فإن ذك لا يصمد أمام دعم دول تحكمها أنظمة محافظة مثل بيرو وتشيلي. فهذه الأخيرة كانت سنة 2018 من أوائل دول العالم التي صادقت على قوانين تقضي بمقاطعة المنتجات القادمة من المستوطنات الإسرائيلية.

مساعي الرئيس الفلسطيني اصطدمت بتيار قوي، عنوانه سعي الأنظمة المحافظة التي تكتسح أمريكا اللاتينية إلى حيازة الدعم الأمريكي، وذلك عبر كسب ود إسرائيل والتيارات الإنجيلية.

انتهز الرئيس الفلسطيني فرصة لقائه بالرئيس التشيلي لطلب مزيد من الدعم من دول أمريكا اللاتينية
انتهز الرئيس الفلسطيني فرصة لقائه بالرئيس التشيلي لطلب مزيد من الدعم من دول أمريكا اللاتينية

تحوّل ديني لا سياسي

لا يعتبر الدعم الواضح لأمريكا اللاتينية للقضية الفلسطينية قديما، بل إن هذه الدول كانت من أكبر داعمي قيام الدولة العبرية في فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتحدد الدراسات المتخصصة بداية الدعم القوي للفلسطينيين مع موجة صعود الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية بداية القرن الحالي، وتوّج هذا الدعم باعتراف شبه شامل بدولة فلسطين المعلنة من طرف واحد، وقيام كل من الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا والدومينيكاني ليونيل فيرنانديز، بزيارتين تاريخيتين للأراضي الفلسطينية سنتي 2010 و2011.

لكن ما يؤكد أن هذا الدعم ليس أيدولوجيا محضا، هو أن حكومات يمينية انخرطت في هذا الدعم قبل أن يجتاحها المد الإنجيلي، حيث كانت تشيلي وغواتيمالا وهندوراس من بين المعترفين بدولة فلسطين قبل أن تنجح فيهما تجربة التحالف الإنجيلي مع بعض الأحزاب اليمينية لقلب الموازين الانتخابية.[5]

وإذا كانت جل دول أمريكا الوسطى والجنوبية تعتبر صغيرة بمقياس الوزن الدولي والقوة الاقتصادية، فإن التحوّل الأكبر الذي وقع تجاه القضية الفلسطينية هو الذي حدث من جانب الأرجنتين. فالرئيس موريسيو ماكري بنى خطته السياسية على تغيير تحالفات بلاده، ومهّد لوصوله إلى الحكم باتصال مباشر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وطلب دعمه في مقابل وعد بالاصطفاف إلى جانب إسرائيل، وهو ما تحقق في ديسمبر/كانون الأول 2015.[6]

تقول الباحثة المتخصصة سيسيليا بايزة، إن التكتل الإنجيلي بات يمثل ثالث أكثر كتلة داخل البرلمان البرازيلي، فيما يقدر عدد معتنقي المذهب الإنجيلي في البرازيل نحو 50 مليونا، وهو ما يجعله ثاني أكبر تجمع إنجيلي في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، “وهم يعتبرون لقمة سائغة للصهيونية المسيحية”.[7]

التحوّل الأكبر الذي وقع تجاه القضية الفلسطينية هو الذي حدث من جانب الأرجنتين. فالرئيس موريسيو ماكري مهّد لوصوله إلى الحكم باتصال مباشر ببنيامين نتنياهو

زواج الإنجيليين والمحافظين

في مستهل العام 2018، كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا بعنوان “زواج مثالي.. الإنجيليون والمحافظون في أمريكا اللاتينية”. واستهل الكاتب مقاله بالقول إن الكنائس الإنجيلية باتت تستطيع فتح أبوابها في جميع أحياء أمريكا اللاتينية، آخذة في تغيير وجهة السياسات كما لم تفعل أي قوى أخرى، فهي توفر للقضايا المحافظة -وخاصة للأحزاب السياسية- قوى ومعاقل انتخابية جديدة”.

وتذهب “نيويورك تايمز” إلى أن التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية على قاعدة التبشير الإنجيلي ليس صدفة، “بل إن الإنجيليين الأمريكيين يدربون نظراءهم اللاتينيين على كيفية التقارب مع الأحزاب والتحول إلى جماعات ضغط والتصدي للمثليين، وإلى جانب تحالفاتهم مع الأحزاب تعلم الإنجيليون في أمريكا اللاتينية صنع السلام مع خصومهم التاريخيين، أي الكنيسة الكاثوليكية، وذلك على الأقل فيما يتعلق بالنشاط الجنسي”.

ويثير هذا الصعود السريع للتبشير الإنجيلي قلقا سياسيا كبيرا، وذلك لكونه يغذي تيارا جديدا من الشعبوية، ويزود الأحزاب اليمينية المحافظة بقاعدة ناخبة كبيرة ومعبأة.

وتعتبر البرازيل مثالا واضحا لصعود التبشير الإنجيلي بقوة، حيث تمكنت كتلة من النواب في البرلمان البرازيلي تناهز 90 نائبا، من إسقاط مشروع قانون يتضمن توسيعا للحريات الجنسية، وذلك استجابة منها لتوجيه الكنائس الإنجيلية.

ساهم هؤلاء النواب بقسط كبير في عملية الإطاحة بالرئيسة اليسارية ديلما روسيف، وأصبح القساوسة الإنجيليون في البرازيل قدوة لغيرهم، حيث بات آخرون يعتزمون تقليد النموذج البرازيلي في نقل تأثير الكنيسية الصاعدة إلى السياسة، بل إن هذا التيار يعتبر المسؤول عن عرقلة المصادقة على اتفاق تاريخي وقعته سلطات كولومبيا مع الحركة الثورية المسلحة المعروفة باسم “فارك”، وذلك لأن الاتفاق تضمن توسيعا للحريات الجنسية.[8]

رئيس غواتيمالا جيمي موراليس، يخاطب مؤتمر السياسة العامة للجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية، في مركز وولتر واشنطن للمؤتمرات
رئيس غواتيمالا جيمي موراليس، يخاطب مؤتمر السياسة العامة للجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية، في مركز وولتر واشنطن للمؤتمرات

أقلية دينية نافذة

وقعت جل هذه التطورات في وقت مازال الإنجيليون يُعتبرون فيه أقلية في أمريكا اللاتينية، وتعزى قوتهم إلى تكتيكهم الجديد المعتمد على تعبئة قواعد محافظة عبر ملامسة قضايا حساسة لديها، وتوجيه كل ذلك في مصلحة أحزاب يمينية ظلت تعتبر تاريخيا قريبة من الكنيسة الكاثوليكية ومعادية لغريمتها البروتستانتية.

أحد النماذج الواضحة لنجاح هذا التكتيك كان انتخاب الرئيس التشيلي الجديد عام 2017، حيث تمكّن “سباستان بنييرا” من العودة إلى الرئاسة بعد خروجه منها سنة 2014، وذلك بفضل تحالفه مع الكنيسة الإنجيلية، ويُحصي المراقبون وجود أربعة قساوسة إنجيليين ضمن فريق حملته الانتخابية.

وقد حوّلت هذه الوصفة السحرية الأحزاب اليمينية من أندية نخبوية معزولة إلى حائزة على تأييد شعبي كبير، خاصة من بعض الأوساط الفقيرة.

وتقول “نيويورك تايمز” في مقالها إن زواج هذه الكنيسة مع اليمين السياسي لم يحصل في أمريكا اللاتينية أول مرة، بل سبق تجربته بنجاح في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها خلال الثمانينيات، “حيث أصبح اليمين المسيحي أحد أكثر المعاقل الانتخابية وثوقية داخل الحزب الجمهوري”، بل إن الصحيفة المرموقة تضيف أن الرئيس دونالد ترامب نفسه المعروف بمناقضته للكنيسة الإنجيلية، استعان بنائبه في البيت الأبيض “مايك بينس” حتى يكون قناة وصل مع الإنجيليين الذين ينتمي إليهم بينس.

تبشير حديث

ظلّت المسيحية في أمريكا اللاتينية مجسدة في الكاثوليكية الرومانية، وذلك إلى غاية ثمانينيات القرن العشرين، حيث كان خصمها الوحيد هو أفكار الإلحاد وليس دين أو مذهب آخر.

أما اليوم، فإن معتنقي المسيحية الإنجيلية باتوا يمثلون 20% من سكان القارة، بزيادة 3% مقارنة بثلاثة عقود سابقة، بل إن الإنجيليين يقتربون من تشكيل الأغلبية في بعض دول أمريكا الوسطى. وتتمثل الطبيعة المحافظة لهذا المعتقد في كونه يتسامح مع أتباعه في اعتناق الأفكار المختلفة، باستثناء ما يتعلق بالمرأة والجنس والأسرة.[9]

وفي دراسة علمية مطولة لموسوعة “أوكسفورد” للأبحاث عن الكنيسة في أمريكا الوسطى، تبين أن الكنيسة الإنجيلية استفادت من الانكماش الذي شهده حضور الكنيسة الكاثوليكية منذ بدايات القرن العشرين، بسبب ما تعرضت له من محاربة على يد التيارات السياسية العلمانية والمناهضة للدين.

وأدى هذا الانكماش إلى ظهور نوع جديد من المسيحية في هذه الدول، تصفه الدراسة بالمسيحية الشعبية، وهي عبارة عن خليط بين التعاليم الدينية المسيحية ومعتقدات الشعوب المحلية في دول مثل غواتيمالا وكوستاريكا، وهو ما جعل الكنائس الكاثوليكية تطلق حملات تبشير جديدة في الأربعينيات، على اعتبار أن المعتقدات الجديدة هي أقرب إلى الوثنية منها إلى المسيحية.[10]

إزاحة الكاثوليكية الاجتماعية

المد الكاثوليكي الجديد الذي شهدته أمريكا اللاتينية منتصف القرن العشرين، حمل قلقا خاصا جعله ينتج ما يسمى بـ”الفكر الكاثوليكي الاجتماعي”، وهو ما أنتج كاثوليكية أقرب إلى الفكر الاشتراكي واليساري، لدعوتها إلى ضمان حق كل إنسان في حد أدنى من الحقوق والمتطلبات المادية والتعليمية بعض النظر عن الانتماء الطبقي، وهو ما سمح لليسار بالانتعاش في بعض دول المنطقة، وهو أيضا ما انقلب إلى معاداة جديدة للكنيسة بصعود التيارات الشيوعية عبر عدد من الثورات.

ومع تنامي مظاهر اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية وقص أجنحتها، ظهر شكل جديد من التدين آخذ في الانتشار، وهو المرتبط بالبروتستانتية. وبحلول القرن الـ21، أصبحت منطقة أمريكا الوسطى تضم أكبر نسبة من البروتستانت في مجموع دول القارتين الأمريكيتين. ويعتبر هذا الصعود القوي لهذا المذهب المسيحي نتيجة لعملية تبشير قوية قادمة من أمريكا الشمالية بهدف مواجهة المد الشيوعي إثر قيام الثورة الكوبية عام 1959.[11]

إسرائيل تجني الثمار

لم يعد سرا أن إسرائيل جنت ثمار المد الإنجيلي في أمريكا اللاتينية، بل أصبح مدعاة للفخر لدى بعض الأصوات الإسرائيلية. فصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” كتبت في أكتوبر/تشرين الأول 2018 بأن “الإنجيليين باتوا يمارسون سلطة التصويت في كامل أمريكا اللاتينية، وأن قرار غواتيمالا حينها نقل سفارتها إلى القدس يعود إلى اعتناق رئيسها جيمي موراليس العقيدة الإنجيلية”.[12]

ونقلت الصحيفة عن قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية، توقّعها استمرار المد الإنجيلي في أمريكا اللاتينية بما في ذلك زحفه على البرازيل لينقلها إلى حضن اليمين الشعبوي.

والوصفة التي يستخدمها هذا التبشير تتمثل في إبدائه معارضة شديدة للإجهاض والزواج المثلي ولإضفاء الشرعية على نبتة الماريغوانا المخدرة ولكل ما يمت بصلة للفكر اليساري، “وهو ما ساعد في طرد الكثير من الحكومات اليسارية في المنطقة”.

حتى في المكسيك، وعلى الرغم من أن الرئيس “مانويل أوبرادو” محسوب على يمين الوسط، فإنه رأى أنه من الضروري إقامة تحالف مع حزب يميني صغير أسسه قس إنجيلي لضمان فوزه بالانتخابات كما يؤكد ذلك أندرو تشيسنوت الأستاذ ومدير البحوث الكاثوليكية بجامعة فرجينيا كومنولث[13].

تقرير مطوّل أعده المعهد الملكي “إلكانو” المتمتع بمصداقية كبيرة في إسبانيا، قال إن حضور الكنائس الإنجيلية في الحياة السياسية لأمريكا اللاتينية ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وتجسد ذلك أساسا في تأثير هذا الصعود على الانتخابات التي شهدتها هذه الدول في السنوات القليلة الماضية، خاصة منها البرازيل وكوستاريكا والمكسيك، “وقد ساهم تدهور السياسة في هذه البلدان في تراجع الأحزاب اليسارية والمؤسسات الديمقراطية والكنيسة الكاثوليكية. وبفضل كل هذا تمكنت الكنائس الإنجيلية من تعزيز وزن الخيارات المحافظة”.[14]

ويعود أصول هذا التوسّع المثير للكنيسة الإنجيلية حسب المعهد الملكي الإسباني؛ إلى الطفرة التي شهدتها هذه الكنائس في أمريكا الشمالية منتصف القرن الماضي داخل الكنائس البروتستانتية، “وانتهى الأمر بزرعها في أمريكا الوسطى. من جانب آخر كانت البرازيل نقطة تركيز هذا التوسع في أمريكا الجنوبية، لدرجة بات من الممكن معها العثور على قساوسة برازيليين يمارسون التبشير في أي عاصمة أمريكية لاتينية، بل وفي جميع المدن الكبرى”.[15]

الإنجيلية فرع البروتستانتية

أصل الانقسام المذهبي المسيحي يعود أساسا إلى عهد القرون الوسطى، حين عاشت أوروبا منقسمة بين أقلية مسيطرة ومالكة للثروات ومتمتعة بحماية الكنيسة الكاثوليكية، وأغلبية لا تملك وتمارس عليها الكنيسة الاستبداد الديني والإخضاع الفكري، بل وتلزمها بشراء “صكوك الغفران” التي تمكنها حسب زعمها من دخول الجنة بعد الوفاة.

تغيير هذا الوضع السياسي والاجتماعي سوف يكون مدخله دينيا، حيث دشّن الراهب الألماني “مارتن لوثر” في أكتوبر/تشرين الأول 1517 عملية التمرد على فكرة “صكوك الغفران”، والتمرد على السيطرة المالية للكنيسة الكاثوليكية، وهو تحوّل إلى عقيدة لدى أتباعه البروتستانت في حروب طويلة.[16]

اشتُق اسم الـ”بروتستاتنت” من جذر يعني الاحتجاج والرفض، حيث ظل أتباع هذا المذهب يمثلون تيار الرافضين لأفكار وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية.[17]

الكنيسة الإنجيلية ظهرت داخل العالم البروتستانتي، ذلك أن كلمة “إنجيلي” هي الترجمة العربية الشائعة لمصطلح إيفانجيليكل  (Evangelical)ويُقصد بها في الولايات المتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، أبرزها إيمانها بمفهوم “الولادة الثانية” أو ولادة الروح، ويُعتقد أنهم يشكلون نحو ربع سكان الولايات المتحدة.[18]

يعود تاريخ الإنجيليين إلى القرن الثامن عشر حين كانت أميركا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بتحولات عديدة حتى صارت مشهورة في يومنا هذا بنشاطها السياسي وانخراط كثير من أتباعها في صفوف “اليمين المسيحي”، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع إسرائيل والحركة الصهيونية.

ويؤمن كثير من الإنجيليين بأن المسيح سينزل إلى الأرض لينشئ مملكة الله التي ستستمر ألف سنة من السعادة، كما يؤمنون بأن إسرائيل هي العامل المسرّع لأحداث نهاية الزمان، ولذلك فإن دعمها يجب أن يكون من ثوابت السياسة الأمريكية، كما يشرح ذلك كتاب “الدين والسياسة في أمريكا” للمؤلف الدكتور محمد عارف زكاء الله.

إسرائيل في قلب الانقسام المسيحي

هناك اختلافات كثيرة بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، أحدها يتعلّق مباشرة بإسرائيل وبالصهيونية حيث تعتبر البروتستانتية أقرب إليها، بينما تعتبر الكاثوليكية تاريخية رافضة لهذه الفكرة القائمة على احتلال أرض فلسطين واستيطانها.

بعض المصادر التاريخية تؤكد على العلاقة العضوية بين الاثنتين رغم إصرار مصادر أخرى على أن الصهيونية المسيحية سبقت التيار البروتستانتي بقرون وتربطها بحملة تنصير اليهود في الأندلس.[19]

كان رد فعل الكنيسة الكاثوليكية قاسيا بعد توجيه لوثر رسالة إلى البابا يدعوه فيها إلى الكف عن استخدام الكنيسة للحصول على مصالح شخصية، فطرد من الديانة المسيحية واتهم بالهرطقة التي كانت حينها تعني عقوبة الحرق، فلجأ لوثر إلى العمل السري وقام باستمالة بعض اليهود الذين كان لهم نفوذ كبير في المجتمع عن طريق التأكيد على أن مذهبه الجديد يعيد الاعتبار لليهود الذين كانوا يعانون من ازدراء الكنيسة الكاثوليكية، ومن ثم بدأ الارتباط بين البروتستانتية والديانة اليهودية.[20]

يقوم ما يعرف بالمسيحية اليهودية على تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على الطقوس الكاثوليكية بالإضافة إلى دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله.

وأصبح الخلاف الرئيسي بين الكاثوليك والبروتستانت يتمحور حول الموقف من اليهود، حيث جاءت حركة لوثر لتبرئهم من تهمة قتل المسيح، وهو ما شكل انقلابا حقيقيا داخل المسيحية.[21]

تجسّد الصهيونية المسيحية الدعم المسيحي للفكرة الصهيونية، وهي حركة مسيحية قومية تقول عن نفسها إنها تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض المقدسة.

والصهيونية اختصارا هي أيدولوجية تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين بوصفها أرض الميعاد لليهود. وصهيون هو اسم جبل في القدس، وتقول بعض المصادر إنه اسم من أسماء القدس.[22]

المصادر:

[1] https://www.thedailybeast.com/why-evangelicals-love-israel?ref=wrap?ref=wrap
[2] https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/latin-america-stop-standing-palestine-180605135948649.html

[3] https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/latin-america-stop-standing-palestine-180605135948649.html

[4] https://www.mei.edu/publications/israeli-palestinian-battle-latin-america

[5] https://al-shabaka.org/briefs/latin-americas-turn-to-the-right-implications-for-palestine/

[6] https://al-shabaka.org/briefs/latin-americas-turn-to-the-right-implications-for-palestine/
[7] https://al-shabaka.org/briefs/latin-americas-turn-to-the-right-implications-for-palestine/
[8] https://www.nytimes.com/2018/01/17/opinion/evangelicals-politics-latin-america.html

[9] https://www.nytimes.com/2018/01/17/opinion/evangelicals-politics-latin-america.html

[10] https://oxfordre.com/latinamericanhistory/view/10.1093/acrefore/9780199366439.001.0001/acrefore-9780199366439-e-53

[11] https://oxfordre.com/latinamericanhistory/view/10.1093/acrefore/9780199366439.001.0001/acrefore-9780199366439-e-53

[12] https://www.timesofisrael.com/evangelicals-wield-voting-power-across-latin-america-including-brazil/

[13] https://www.timesofisrael.com/evangelicals-wield-voting-power-across-latin-america-including-brazil/
[14] http://www.realinstitutoelcano.org/wps/portal/rielcano_es/contenido?WCM_GLOBAL_CONTEXT=/elcano/elcano_es/zonas_es/ari127-2018-malamud-expansion-politica-iglesias-evangelicas-america-latina
[15] http://www.realinstitutoelcano.org/wps/portal/rielcano_es/contenido?WCM_GLOBAL_CONTEXT=/elcano/elcano_es/zonas_es/ari127-2018-malamud-expansion-politica-iglesias-evangelicas-america-latina
[16] https://www.sasapost.com/religious-wars-in-europe/

[17] https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/31aad23d-de78-4ab9-8d5f-df10478d69e2
[18] https://www.aljazeera.net/news/politics/2018/12/7/%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84
[19] https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/31aad23d-de78-4ab9-8d5f-df10478d69e2
[20] https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/31aad23d-de78-4ab9-8d5f-df10478d69e2
[21] https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/31aad23d-de78-4ab9-8d5f-df10478d69e2
[22] https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/31aad23d-de78-4ab9-8d5f-df10478d69e2


إعلان