جامعتا أوكسفورد وهارفرد.. أيقونتا العلم والمعرفة أسسهما قِسّ وملِك

أيهما أفضل آبل أم سامسونغ، رونالدو أم ميسي، بيبسي أم كوكاكولا.. هذه المقارنة بين الثنائيات في مختلف المجالات تعكس اختلاف أذواق الناس وتوجهاتهم، وأيضا تُظهر حجم المنافسة بين طرفي المعادلة واقتراب المستوى بينهما، وتنسحب هذه المنافسة الشرسة إلى المجال العلمي والصراع الأبدي بين أعرق جامعتين في العالم، ويتعلق الأمر بجامعتي أوكسفورد البريطانية وهارفرد الأمريكية، ويكفي القول إن فلانا خريج إحدى هاتين الجامعتين ليُنظر إليه باحترام كواحد من الصفوة المحظوظة التي نالت شرف التعليم هناك.
وتشكّلت في المخيال العربي خصوصا لدى الشباب حالة من “أسطرة” الجامعتين، وهي حلم كثيرين من الراغبين في إتمام دراستهم الجامعية في العالم، ولا عجب في ذلك فالتخرج من إحداهما يقلص على صاحبه مسافات طويلة للوصول إلى أرقى المناصب في العالم. ومن أجل هذه الصورة “البراقة” تتنافس كلاهما على احتلال مقدمة الصفوف في التصنيفات العالمية لأفضل الجامعات.
صحيح أن مؤسسات أخرى دخلت على خط المنافسة، لكن يبقى الصراع الأبدي بينهما هو الأطول في التاريخ والأشهر في العالم، وللصراع مسوغاته، فهو يخفي في طياته صراعا داخل المدرسة الأنجلوسكسونية بين المنهج البريطاني التعليمي والمنهج الأمريكي، وكل طرف يريد الظهور بمظهر رائد العلم والمعرفة العالمية وأن اختياراته المنهجية هي الأصح والأكثر قدرة على إنتاج نخبة تقود العالم.
ولو كانت الظروف غير الظروف ولم يَغرق العرب والمسلمون بصفة عامة في سبات فكري وثقافي عميق استمر قرونا؛ لأصبح الحديث عن ثنائية جامعتي القرويين والزيتونة هي الأولى والأصح، باعتبارهما الأقدم حتى مقارنة بجامعة أوكسفورد التي توصف بأنها الأولى من حيث تاريخ التأسيس في العالم العربي، لكنْ الآن كل حديث عن العلم والتفوق والتميز العالمي هو قرين بجامعتي أوكسفورد وهارفرد، وذلك لأسباب عديدة سنحاول إظهار بعضها هنا.

بين غضبة الملك وطموح القس
تعتبر جامعة هارفرد مؤسسة تعليمية خاصة، تابعة لرابطة اللبلاب (Ivy League) (تضم الرابطة ثماني جامعات تعد هي الأفضل في الولايات المتحدة)، في كامبردج بولاية ماساتشوستس. وقد تم تأسيسها سنة 1636 على يد القس جون هارفرد، وكان هدفه خلق فضاء تعليمي ينافس جامعتي أوكسفورد وكامبردج، وحرص على أن يكون اختبار القبول فيها صعبا حتى يتم اختيار صفوة الصفوة القادرين على رفع مستوى الجامعة لتضاهي الجامعتين البريطانيتين.
وبالتالي ففكرة المنافسة كامنة في بذور تأسيس جامعة هارفرد، هذا دون الحديث عن البعد الديني في تأسيس هذه الجامعة في البداية حيث كان القس حريصا على الحفاظ على المذهب البروتستانتي، وكان يرى في الجامعة امتدادا لهذا المذهب.
وإذا كان تاريخ تأسيس جامعة هارفرد معلوما، فإن المؤخرين اختلفوا في تاريخ تأسيس جامعة أوكسفورد، مما يجعلها الجامعة الأنجلوسكسونية الأقدم في العالم الغربي، لكن الرواية المتفق عليها أنها بدأت تتطور سنة 1167 عندما قرر الملك هنري الثاني منع الطلبة البريطانيين من الدراسة في جامعة باريس بسبب خلاف مع فرنسا، وتدريجيا توسعت الجامعة وتعددت الاختصاصات فيها مع تركيز على الدراسات الاقتصادية.

أيهما أغلى؟
هناك العديد من التمايز بين الجامعتين على مستوى المنهج التعليمي، وهو ما ينعكس حتى على تكاليف الدراسة فيهما، ويجعل النظام التعليمي البريطاني من أوكسفورد أفضل خيار بالنسبة للراغبين في دراسة السلك الجامعي الأول، وذلك لأن الجامعة البريطانية تركز بشكل أكبر على المناهج التعليمية في السنوات الجامعية الأولى، وذلك عكس جامعة هارفرد التي تركز بشكل أكبر على البحث العلمي والمشاريع البحثية، وهو ما يتسق مع النظام التعليمي الأمريكي.
ومن الانتقادات التي توجه إلى الجامعتين معا أن تكاليف الدراسة فيهما تُعتبر الأغلى في العالم، وهناك من يقول إن الأمر مقصود، وذلك لجعل الجامعتين حكرا على طبقة بعينها، بينما يرد المدافعون عن الجامعتين بأنهما يقدمان أجود مضمون علمي في العالم، وردا على مثل هذه الانتقادات فتحت المؤسستان منحا للمتفوقين عبر العالم حتى لا يتم وسمهما بجامعات الأغنياء. وعموما فإن معدل كلفة الدراسة في الجامعتين يصل في بعض التخصصات إلى 20 ألف دولار سنويا، وتبقى جامعة أوكسفورد أغلى من هارفرد رغم أن الأولى تعتبر جامعة عمومية وليست خاصة.
تعتبر جامعة أوكسفورد الحل الأفضل بالنسبة للطلبة الراغبين في دراسة الاقتصاد، فمنها خرجت أكبر النظريات الاقتصادية، فضلا عن وجودها قرب المركز المالي الأكبر في العالم، والقصد مركز لندن المالي. وتعرِض الجامعة على الطلبة برنامجا معمقا في النظريات الاقتصادية، أي أنها توفر لهم القاعدة النظرية في الاقتصاد قبل التطبيق في السلك الثالث.
أما في جامعة هارفرد فالأمر مختلف جدا، حيث يمكن للطلبة تغيير التخصص بحرية وسهولة، ويكمن الخلاف الأكبر بين الجامعتين في اختيار التخصص لأن أغلب الدروس في جامعة أوكسفورد تتم عن طريق مشاريع يقودها الأستاذ أسبوعيا في قاعات مستقلة، تليها ندوات ومحاضرات في المختبرات التي يتم تنظيمها في مختلف كليات الجامعة. أما في هارفرد فإن بنية التعليم تقوم على التركيز على السلك العالي وتترك حرية أكبر للطالب فيما دونه من مسالك، وتتوفر الجامعة على 11 وحدة علمية تضم مختلف التخصصات.

سر شهرة أوكسفورد
تُجمع أغلب التقييمات العالمية المرتبطة بالتعليم العالي على أن جامعة أوكسفورد هي الأفضل في العالم، ولكن ما سر الشهرة الجارفة لهذه الجامعة، وكيف تمكنت من تحقيق كل هذا المجد دون غيرها من الجامعات البريطانية؟
الجواب على هذا السؤال يحتمل وجهين، الأول هو أنها صاحبة السبق في التأسيس، وحرص القائمين عليها على جذب أفضل الطلبة والأساتذة. لكن هناك رواية يتناقلها البريطانيون وفيها بعض الإيمان بنظرية المؤامرة، يقول أصحاب هذه النظرية “إنه لم يتم تأسيس أي جامعة بعد أوكسفورد إلا بعد اندلاع مظاهرات في البلاد، فاضطر القائمون على الجامعة إلى الانتقال وتأسيس جامعة كامبردج، وبعد تأسيس الأخيرة لم يتم إطلاق أي جامعة أخرى إلى حدود سنة 1832، فما السبب في بقاء البلاد بجامعتين فقط لمدة ستة قرون تقريبا؟
هنا يقول البعض إن السبب يكمن في الرغبة في حفاظ الجامعتين على الاحتكار والتميز في البلاد، وبأن أي منافسة يمكن أن تؤثر على أداء أوكسفورد وكامبردج ويشوش على صورتهما باعتبارهما قبلة النخبة البريطانية والعالمية.
ومع أن أصحاب هذه الراوية لا يقدمون دليلا على ذلك فإنه في المقابل ليس هناك أي تفسير لعدم تشييد أي جامعات أخرى لنحو 600 سنة، وبصفة عامة فمن المؤكد أن جامعة أكسفورد استفادت من هذا الاحتكار لتقوية نفسها ونفوذها وعدد الحالمين بالانضمام إليها.

أوكسفورد.. مصنع رؤساء الوزراء
بلغ عدد الطلبة الذين درسوا في جامعة أوكسفورد منذ تأسيسها 250 ألف طالب، ويمكن القول إن الآلاف منهم تقلدوا مناصب مرموقة في دولهم وفي العالم، ونكتفي بالحديث عن المناصب البارزة وهي رئاسة البلاد. وهناك الحاصلون من خريجي هذه الجامعة على جوائز نوبل، وتفخر الجامعة بأنه تخرج منها 120 بطلا أولمبيا و26 حاملا لجائزة نوبل وأكثر من ثلاثين قائدا عبر العالم من بينهم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والزعيم الهندي أنديرا غاندي، فضلا عن كون الجامعة تعتبر مصنعا لرؤساء وزراء بريطانيا، ويعتبر رئيس وزراء بريطانيا الحالي بوريس جونسون رئيس الوزراء رقم 28 الذي تخرج من الجامعة.
ولأن المنافسة محتدمة مع جامعة هارفرد في ربط الاتصال بالحاصلين على جوائز نوبل، فإن المؤسسة البريطانية لها ارتباط وشراكة مع 11 من حاملي جائزة نوبل في الكيمياء، و16 في مجال الطب، ومن أهم العلماء الذين حاضروا في الجامعة ستيفن هاوكن وريتشارد داونكنز وتيم بيرنرز لي بالإضافة إلى العديد من المؤلفين الحائزين على جوائز أوسكار ومن بينهم فيليب بولمان.
وتَعتبر جامعة أوكسفورد نفسها جامعة عالمية، وتعتبر هذا الأمر نقطة قوة مقارنة مع جامعة هارفرد التي يأتيها أغلب الطلبة الأجانب من أمريكا اللاتينية، وتشير إحصائيات جامعة أوكسفورد إلى أن 40% من طلابها أجانب، وبأنها استضافت على امتداد تاريخها طلبة من كل أنحاء العالم.

هارفرد.. منزل حاملي نوبل
يمكن القول إن الكفة تميل لصالح جامعة هارفرد فيما يتعلق بعدد الحائزين على جائزة نوبل، وذلك لأن رابطة اللبلاب -التي تعد هارفرد عصبها الحيوي- تفخر بانتساب 45 من حاملي جوائز نوبل لها، إضافة لـ30 من قادة الدول و48 من الحاصلين على جائزة بولتزر التي تعتبر النسخة الأمريكية لجائزة نوبل.
وتفيد أرقام الجامعة أنه مر منها 323 ألف طالب منذ تأسيسها من بينهم 271 ألف طالب أمريكي و52 ألف طالب أجنبي من 201 دولة في العالم. كما أن الجامعة منحت الدكتوراه الفخرية لـ13 من الرؤساء الأمريكيين، وفي هذه النقطة تتفوق جامعة أوكسفورد -التي تعتبر الممر الرئيسي لجل رؤساء وزراء البلاد- عكس هارفرد التي لا يتوفر في سجلها عدد كبير من الرؤساء الذي درسوا فيها، ولهذا تلجأ لمنح الدكتوراه الفخرية لعدد منهم ومن تراه مناسبا لحملها.

أيهما أفضل؟
لعل السؤال أعلاه سيبقى دائما موضوع انقسام واختلاف في الآراء، لكن بالاحتكام لمؤشر ترتيب الجامعات “التصنيف العالمي للجامعات” (The World university rankings) الصادر عن المجلة البريطانية “تايمز” والذي يعتبر من أشهر المؤشرات في العالم، فإن الكفة ترجح لصالح جامعة أوكسفورد، فالأخيرة احتلت خلال السنوات الأخيرة المرتبة الأولى على الصعيد العالمي، بينما تأرجح ترتيبها خلال السنوات العشر الأخيرة بين المركز الثاني والرابع والسادس وهذا أسوأ تصنيف لها في العقد الأخير.
أما جامعة هارفرد فاحتلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة المرتبة السادسة حسب نفس المؤشر وكانت سنة 2011 هي السنة الوحيدة التي احتلت فيها الجامعة الأمريكية المرتبة الأولى.
ويُظهر المؤشر كيف أن الجامعتين تحافظان على سمعةٍ أكثر من جيدة في العالم، فخلال استطلاعه لصورة الجامعتين يُظهر المؤشر أن لديهما سمعة ممتازة وبعلامة تصل إلى 100%، ولم يتم تسجيل آراء سلبية عنهما. وهذا ليس من فراغ، فهو يؤكد الجهد التسويقي الذي يقوم به القائمون على المؤسستين للحفاظ عليها كأيقونتين للعلم في العالم.