مبيدات وأسمدة كيميائية.. إفراط يهدد الصحة

مراد بابعا
استعمال المبيدات والأسمدة الكيميائية في المجال الزراعي أصبح اليوم أمرا مألوفا، بل ضروريا لتقوية الإنتاج في ظل الطلب المتزايد على الغذاء في العالم.
فتزايد عدد سكان الأرض والضغط المتواصل على المساحات المزروعة دفع العلماء إلى تطوير عدد من التقنيات لزيادة الإنتاج عبر التعديل الجيني، وأيضا الاستعمال المكثف للأسمدة لتقوية التربة، والمبيدات من أجل القضاء على الطفيليات والحشرات الضارة.
ويتوقع أن يصل الطلب العالمي على الأسمدة لوحدها بحلول عام 2020 إلى 247 مليون طن، محققاً فائضا في ميزان العرض والطلب يفوق 23 مليون طن.
لكن هذا الاستعمال المتزايد -إلى حد الإفراط أحيانا- أصبح مصدر قلق عالمي بعدما أكدت أبحاثٌ استعمال أسمدة مبيدات على نطاق واسع لا يحترم المعايير الدولية، ووُجهت إلى هذه الأسمدة أصابع الاتهام بالتسبب في بعض الأمراض الخطيرة وعلى رأسها السرطان.
فلماذا تضاعف الاعتماد على المبيدات والأسمدة الكيميائية في السنوات الأخيرة، وما هي حقيقة تسبب المبيدات في بعض الأمراض، وكيف يتم تسويق المبيدات التي لا تحترم المعايير الدولية خصوصا في الدول النامية، وهل يمكن أن نضمن قوتنا اليومي دون مبيدات؟
الغذاء قد لا يكفي
الحصول على كميات كافية من الغذاء يعتبر أمرا أساسيا للحفاظ على الحياة وتمتع الجميع بصحة جيدة، وذلك عبر القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي بحلول عام 2030، وهو الهدف الذي وضعته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو).
وتشير التوقعات إلى أن الطلب العالمي على الإنتاج الزراعي سيرتفع بنسبة 15% خلال العقد القادم حسب تقرير سنوي أصدرته شهر يوليو/تموز 2019 منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة “فاو”، وهذا الطلب سيوازيه نمو الإنتاج الزراعي بوتيرة أسرع قليلا.
وفي أفق 2050 يتعين مضاعفة الإنتاج الزراعي الحالي من أجل توفير الغذاء للجميع والاستجابة للطلب وضمان استقرار الأسعار، وهذا في حد ذاته يطرح تحديا كبيرا أمام حلول تطوير الإنتاج المعتمدة حاليا.
خصوصا أن سكان الأرض –الذين يقدر عددهم بـ7 مليارات- يزدادون بـ80 مليون نسمة سنويا، مع تسجيل معدل ولادات كبير خصوصا في الدول النامية، إضافة إلى ارتفاع متوسط أمد العيش. وهذا كله سيرفع من عدد سكان الأرض إلى 9 مليارات في سنة 2050.
وهو ما يشكل تحديا ديموغرافيا، يُضاف إلى الضغط البيئي والمناخي، نتيجة التلوث وارتفاع درجات الحرارة وتراجع نسبة المساحات المزروعة، مما يجعل من البحث عن سبل تكثيف الإنتاج والقضاء على الجوع أحد أبرز الرهانات المطروحة على البشرية.

منافع قبل الأضرار
من أبرز الوسائل التي اعتمدها البشر من أجل رفع الإنتاج الزراعي -بعد التعديل الجيني- استعمال المبيدات والأسمدة الكيميائية.
وبدأ استعمال هذه “المضافات” على التربة أولا بالأسمدة الطبيعية، وخصوصا السماد العضوي الذي يتشكل أساسا من روث الحيوانات العاشبة (الحيوانات التي تتغذى على النباتات والأعشاب). ومع تطور الأبحاث توصل العلماء إلى السماد الكيميائي الذي ينقسم أساسا في المجال الزراعي إلى نوعين، الأول “نيتروجيني” والثاني “فوسفاتي”. وتعمل هذه “المضافات” على تعويض الأملاح الناقصة في التربة وجعلها أكثر خصوبة.
أما المبيدات وهي عبارة عن مواد كيميائية تم تطويرها لتلائم خصوصيات كل منطقة، فهي تساعد على القضاء على الحشرات الضارة والطفيليات التي تعوق النبات من إكمال عملية النمو بشكل سليم.
وانعكس استعمال المبيدات والأسمدة الكيميائية بشكل مبهر على الإنتاج الفلاحي، وشكلت عنصرا أساسيا في تحقيق النهضة الزراعية على مستوى العالم، إذ يؤكد المتخصصون أن 50% من الزيادة الناتجة في الإنتاج الزراعي ترجع إلى استخدام المبيدات والأسمدة الكيميائية.
لكن الإسراف الشديد في استعمال هذه المركبات الكيميائية بشكل يفوق احتياج النباتات والتربة، وأحيانا في أوقات غير مناسبة لنمو المحصول، انعكس سلبا على التوازنات الطبيعية سواء المتعلقة بالنباتات أو التنوع البيولوجي في التربة بشكل عام.

كمٌّ ينافس الجودة
الطلب المتزايد على الغذاء يجعل التفكير يتجه أولا نحو ضمان الكميات الكافية على حساب الجودة أو الطعم، فالقضاء على الحشرات والنباتات الضارة وتقوية التربة بالأسمدة ساهم في تحسين كميات الإنتاج وجودة المزروعات من حيث شكلها الخارجي الذي يغري بالشراء، ويقدم انطباعا إيجابيا على جودتها ونضجها.
لكن الحقيقة أن هذا الشكل المغري يخفي وراءه عددا من الأخطار المرتبطة بالقيمة الغذائية ووجود مواد مضرة ومؤثرة سلبا على صحة الإنسان وتوازنه البيولوجي، إضافة إلى تأثير هذه الأسمدة والمبيدات على البيئة المحيطة، وتلويث إمدادات المياه.
ويعتمد حاليا نصف سكان الأرض على الأقل في غذائهم على محاصيل تم إنتاجها باستخدام الأسمدة الكيميائية، لاسيما الأسمدة النيتروجينية (الأزوتية). كما أن الأنشطة البشرية تنتج سنويا نحو 120 مليون طن من مركّبات النيتروجين التفاعلي، وحوالي ثلثي هذه الكمية تؤدي إلى تلوث الهواء والماء والتربة.
وفي الصين التي تعتبر أحد أكبر المستهلكين في العالم للمبيدات الحشرية، أظهر بحث أجرته الحكومة الصينية سنة 2014 أن أكثر من 19% من عينات التربة المأخوذة من الأراضي الزراعية تحتوي على مستويات مفرطة من المخلفات الكيميائية، كما أن نحو 75% من حقول الأرز مثلا في مقاطعة “هونان” الصينية باتت ملوثة نتيجة هذه المبيدات.

أضرار على صحة الإنسان
رغم كل الاتهامات بتسببها في أمراض ومضاعفات خطيرة على صحة الإنسان، فإن الأبحاث العلمية والدراسات لم تؤكد بصفة قاطعة علاقة مباشرة بين استهلاك المزروعات التي تم رشها بالمبيدات، وازدياد الإصابة بأمراض قاتلة في السنوات الأخيرة وعلى رأسها السرطان.
وفي المقابل فإن المزارعين الذين يتعرضون لكميات عالية من المبيدات، معرضون أكثر للإصابة بأنواع من السرطان مثل الأورام اللمفاوية وسرطان الجلد والدماغ والبروستات مقارنة بالأشخاص العاديين.
وقالت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان إن دراسات موسعة خاصة بالأوبئة، والتعرض للكيميائيات في قطاع الزراعة بالولايات المتحدة وكندا، أوضحت زيادة بنسبة 60% فيما يتعلق بمخاطر الإصابة بسرطان الغدد اللمفاوية لبعض أولئك الذين يتعرضون لبعض أنواع المبيدات.
وقبل أكثر من عشرين سنة كانت الولايات المتحدة أطلقت دراسة واسعة شملت 89 ألف شخص، من بينهم منتجون فلاحون وعائلاتهم وعاملون في قطاع المبيدات، وذلك لمعرفة عوامل الأخطار على الصحة.
وأكدت هذه الدراسة وجود علاقة بين استعمال هذه المواد الكيميائية وبعض الأمراض، من بينها مرض الرعاش (الباركنسون). وفي سنة 2012 تم تصنيف مرض “الباركنسون” في فرنسا كمرض مهني لدى الفلاحين، أي مرتبط بنوع المهنة والعمل.

غش يعقّد الوضع
تعاني الدول العربية وبعض دول آسيا وأفريقيا من ظاهرة خطيرة تزيد من أضرار المركبات الكيميائية، إذ يلجأ بعض التجار إلى بيع مخصّبات ومبيدات محظورة ومنتهية الصلاحية، وغالبا ما تأتي من السوق السوداء، مقترحين أسعارا منخفضة تغري بالشراء، ومستغلين أمّيّة العديد من الفلاحين وعدم اهتمامهم بقراءة البيانات المدونة على المنتجات.
وفي مصر مثلا، يتحدث العديد من الفلاحين عن تلف 60% من محاصيلهم في بعض المناطق بسبب استعمال مبيدات وأسمدة غير صالحة للزراعة. كما كشف أمين عام نقابة الفلاحين الزراعيين في مصر في تصريحات لوسائل إعلام محلية العام الماضي، أن المصريين تناولوا خلال العشرين سنة الأخيرة غذاء غير صحي بسبب احتوائه على 374 مبيدا محظورا دوليا.
وفي اليمن أيضا ارتفعت عمليات تهريب الأسمدة والمبيدات الزراعية المحظورة في ظل غياب كامل للرقابة من قبل الجهات المعنية منذ تصاعد الحرب في مارس/آذار عام 2015. وهناك من يتحدث عن وجود أكثر من ألف نوع واسم تجاري للمبيدات في الأسواق اليمنية يمنع بيعها في كثير من الدول، لأنها تؤدي إلى أضرار كثيرة على المدى الطويل.

تراجع الكفاءة.. تدمير التربة
حماس المزارعين لرفع كميات محاصيلهم، جعلهم مع مرور الوقت يفرطون في استخدام الأسمدة التي أصبحت تدمر التربة بدلا من جعلها أكثر خصوبة.
ومع مرور الوقت تراجع مردود الأسمدة على النباتات، وانتقلت مثلا كفاءة استخدام الأسمدة النيتروجينية عالميا من 50% سنة 1961 إلى نحو 42% حالياً.
وظلت الشركات العملاقة المنتجة لهذه المواد الكيميائية -خصوصا في الدول الصناعية الكبرى- تشجع الاستعمال المكثف لمنتجاتها بهدف مراكمة أرباح إضافية، فطغى الإسراف والتبذير والعشوائية -أحيانا- في رش المبيدات واستعمال الأسمدة التي أضرت كثيرا بالتربة في بعض المناطق.
وفي المقابل كشفت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” أن مساحة الأراضي المزروعة على مستوى العالم، تصل إلى مليار و870 مليون هكتار، وهو ما يعني أن هكتارا واحدا يغذي أربعة أفراد في المتوسط.
وهذا يؤكد أن الإشكالية تكمن في التوزيع العادل للأراضي، وليس في الضغط على بعض المساحات كي تنتج أكثر. وهذا ما جعل العديد من الباحثين يطالبون بالتخلي عن استعمال المضافات الكيميائية، وفتح الطريق أمام استعمال تقنيات أكثر حماية للبيئة، ولصحة الإنسان والحيوان والتربة.

الزراعات البيولوجية.. الحل الصعب
لا يمكن الحديث عن زراعات بيولوجية في وجود مواد كيميائية أو مبيدات صناعية، لهذا يلجأ المزارعون إلى تطوير تقنيات قديمة وجعلها أكثر فعالية، وهو ما يطلق عليه المكافحة الحيوية أو “البيولوجية” من أجل ضمان إنتاج متوازن بعيدا عن الأضرار التي تتسبب بها المضافات الصناعية.
وتعتمد تقنية المكافحة الحيوية أو “البيولوجية” على اللجوء إلى الوسائل الموجودة في الطبيعة لمحاربة النباتات والحشرات الضارة، وذلك عن طريق الاستعانة بحشرات “نافعة” قادرة على حماية المحاصيل الزراعية وخاصة الخضراوات.
كما يلجأ المزارعون البيولوجيون من أجل تخصيب التربة إلى استعمال الوسائل التقليدية المتأتية من الطبيعة كروث الحيوانات العاشبة، والتي تبقى نتائجها على التربة ضعيفة مقارنة بالأسمدة الصناعية، مما ينعكس في الأخير على المحصول النهائي.
وبالنظر إلى الطلب المتزايد على الغذاء في العالم، فإن التحول نحو هذه الطريقة يبقى أمرا بعيد المنال في الظروف الحالية، والتي تزيدها صعوبة التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية.
ووفق “معهد أبحاث الزراعة العضوية” في سويسرا فإن مساحة الأراضي الزراعية التي تُزرع بأساليب حيوية لا تتجاوز نسبة 1% من إجمالي المساحة المزروعة حول العالم.
وفي المقابل فإن العالم مطالب برفع المساحات المزروعة بـ81% على الأقل مقارنة بالمساحات الحالية إذا أراد التحول إلى الزراعة العضوية تماما بحلول عام 2050.