مُروّض الأفاعي.. عندما ينتصر نجم بوليود عامر خان للمرأة الهندية
خاص-الوثائقية
أن يبدأ فيلم وثائقي بعبارة “يحتوي هذا الفيلم على مشاهد قاسية” فذلك يعني أن تكون كمُشاهد مستعدا لمزيد من الإحباط والصدمة فوق ما نعيشه من إحباط عام وفوضى واضطراب في شتى مناحي الحياة الخاصة والعامة.
وعلى الرغم مما تحويه سينما بوليود الهندية العالمية من ألوان وفرح ورقص وأبطال وبطلات يأخذونك بعيدا إلى عالم من البهجة والخيال المزركش، فإن نسبة كبيرة من أفلامها تعزّز المواقف السيئة تجاه المرأة بشكل عام، والهندية بشكل خاص، وهي التي تعاني ما تعانيه من العداء والعنف الموجّه ضدها نفسيا وجسديا، وهو ما يثير الاستياء والاستنكار بشكل كبير.
وفي هذا الفيلم التسجيلي الذي عرضته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “مروّض الأفاعي” نتعرف على الكمّ الهائل من التقارير عن حوادث الاغتصاب والعنف الجسدي ضد المرأة الهندية، وهو ما دفع بطل هذا الفيلم الممثل الهندي الشهير عامر خان للتفكير بإيجابية أكثر تجاه مجتمعه ومحاولة المساهمة في تغيير هذه الحال.
عامر خان كان مفاجأة بوليود الكبيرة عندما ظهر في فيلمه الأول “من كارثة إلى كارثة” وحقق نجاحا باهرا، وصار ذلك النّجم المعروف الذي حاز على محبة وإعجاب الجميع ومن كل الفئات العُمْرية.
الحقيقة وحدها تنتصر
غالبا ما تؤثر صداقاتنا القديمة المتميزة في حياتنا المستقبلية فيما إذا استمرت هذه الصداقة، وهذا ما حصل بالفعل مع عامر خان وصديق الدراسة المتميز سايتا جيت باتيكال الذي درس القانون وانخرط فيما بعد في العمل في القضايا الاجتماعية والحقوقية.
كان باتيكال يوجه باستمرار نظر صديقه عامر خان نحو آخر المستجدات في الهند، وما يجري في المجتمع الهندي من قضايا وحوادث اجتماعية وإنسانية تستحق الوقوف عليها كنجم وممثل مشهور.
وعلى أثر ذلك قرر عامر خان في عام 2002 أن يبدأ برنامجه التلفزيوني “الحقيقة وحدها تنتصر”، الذي يدور مضمونه حول إبراز عدد من المشاكل والقضايا الاجتماعية والإنسانية في الهند، وذلك من منطلق أن من مسؤوليات المبدع أن يضيف الجمال على المجتمع وأن ينشر قيم الخير والفضيلة بين الناس، ويقع الاختيار على التلفاز دون السينما لأن 3% فقط من الشعب الهندي يرتادون دور السينما، بينما يشاهد معظم الشعب الهندي التلفاز.
فتح سايتا باتيكال بذلك آفاقا جديدة في عالم البرامج التلفزيونية الهندية، وأصبحت تناقش مواضيع حسّاسة مثل معاداة المرأة والاعتداءات الجنسية وقلة فرص التعليم ومواضيع اجتماعية شائكة أخرى، وبهذا بدأ عامر خان وصديقه المتميز باتيكال بالخروج إلى الناس وعرض هذه الأفكار والقضايا أمام الكاميرا.
يخرج عامر خان فعلا إلى الجمهور في الحلقة الأولى من برنامجه التلفزيوني، ويُقابَل بالترحاب والتشجيع الشديدين من الجمهور الحاضر في الأستوديو وخلف الشاشات في انتظار ما سيقدمه.
يستضيف إحدى ضحايا العنف الجسدي بارفين خان، التي تحكي تجربتها الأليمة مع زوجها الذي أجبرها أكثر من مرّة على الإجهاض لأن جنينها أنثى، ثم ينتهي به الأمر إلى ضربها بوحشية تعدّت حدود الحيوانية بكثير، ويعزّز حديثها بصور مؤلمة وقاسية جدا لوجهها المحطم كليا تقريبا على الشاشة الخلفية للأستوديو.
صورٌ أذهلت الجمهور الحاضر حدّ الصدمة وحتى البكاء، كانت حلقة مؤثرة تلقّى على إثرها عامر خان 1.5 مليون رسالة محبة وتشجيع، حتى صار ذلك الظهور أكثر بكثير من مجرد برنامج تلفزيوني؛ صار قضية رأي عام، ما حفّز فريق البرنامج على التفكير بمنطق آخر، وتشجيع الناس على التصويت على المواضيع المطروحة والتوجّه بها نحو الدولة والجهات القانونية لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
أعداء الحقيقة
وكما هو معروف، فلكل نجاح وناجحين هنالك دائما أعداء، خصوصا إذا كان هذا النجاح يمسّهم في الصميم، فعامر خان كشخصية مشهورة ويحظى بقاعدة جماهيرية كبيرة ساهم عبر هذا البرنامج في خلق جوّ يُدين الرجال ويعزو إليهم ما نسبته 95% من جرائم العنف ضد النساء.
وهذا ما أثار حفيظة كثيرين ضده من المتنفذين والمعارضين لفكره، حتى ذهبوا إلى اتهامه بالخداع واستخدامه الغدد الدمعية كي يضفي تأثيرا بالبكاء، وأنه يستخدم برنامجه كدعاية ليحقق نجاحا تجاريا لا أكثر.
كما اتهموه أيضا بالانفصام في هويته وعدم القدرة على التفريق بين شخصيته التمثيلية والحقيقية، بل تعدّى الأمر إلى السعي إلى تشويه سمعته عبر القنوات الإلكترونية من قِبل الأقلية التي لا تريد التغيير ولا يروق لها ما يكشفه البرنامج من حقائق صادمة.
تسبب عامر خان بإزعاج كبير لجماعات الضغط القوية وأصحاب النفوذ وأثّر فيها، وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو أنه يسير في الطريق الصحيح، وهذا ما اضطره إلى أخذ احتياطاته اللازمة له ولأسرته، ورغم نصيحة أمه له بعدم الاستمرار في البرنامج تابع عامر خان السّير فيه رغم القلق والخوف العائلي العامّ تجاهه.
لقد ذهب الأمر إلى حد خروج بعض مُعارضي البرنامج بالتظاهر أمام بيته والمطالبة بإخراجه من البلاد، وظهور بعض السياسيين في قنوات تلفزيونية والإشارة إليه بشكل مباشر على أنه يدعو إلى إحداث انقسام بين الشعب وعليه مغادرة البلاد عقابا له.
أثرت هذه التفاعلات وردود الفعل وأحداث البرنامج المؤلمة والقاسية في نفسية عامر خان وأرهقته وأدخلته في موجة شديدة من الإحباط جعلته يقرّر في وقت ما التوقف عن البرنامج في منتصف الطريق وأن عليه أن يأخذ استراحة لبعض الوقت.
بوليود والمرأة
ولكن حتى نكون موضوعيّين أكثر وبعيدين عن التحيّز، فلا بدّ من طرح وجهة نظر الآخر المعارض للبرنامج التي تقول إن بوليود التي تنتج نحو ألف فيلم سنويا، ساهمت عبر أبطالها عامر خان وسلمان خان وغيرهما في تعزيز الصورة الذكورية والحَطّ من قدر المرأة التي غالبا ما تظهر في هذه الأفلام بأدوار لا تتعدى الجسد ومشاهد الرقص والاغتصاب.
ولم يكن لها دور فاعل كما كان شائعا في أفلام فترة مما بين الثمانينيات والتسعينيات، لدرجة أنه لم يكن في وُسع المشاهدين أن يَروْا المرأة شخصية مستقلة وواعية، مع أنه مع تقدّم الزمن بدأت هذه الصورة المقهورة للمرأة بالانحسار شيئا فشيئا.
وعَوْدا إلى عامر خان الذي يقول إنه بمرور الوقت والخبرة بدأ يُدرك أنه أقدمَ على أمور وأدوار لم يكن راضيا عنها، فاختار العمل في برنامجه الجديد الواقعي ليظهَرَ للجمهور بهيئته الحقيقية في الحياة.
“سوزيت جوردان” ضحية من ضحايا الاغتصاب الجماعي، استضافها عامر خان في برنامجه، وقد اختارت أن تخرج إلى الجمهور من خلال برنامجه لتدافع عن حقّها بقوة وصراحة ودون خجل، ولتكون دافعا لضحايا كثيرات مثلها ليَظهرْنَ بشجاعتها وقوّتها في المطالبة بحقوقهنّ دون أن يستدعي ذلك الشعور بالخجل والعار.
قوبل موقفها بالوقوف والتصفيق الحار والتشجيع من الجمهور الحاضر في الأستوديو وعلى رأسهم عامر خان الذي سار مع فريقه في البرنامج يعرضُ هذه القضايا على الحكومة، وابتكر فكرة المركز الشامل لمواجهة أزمات الاغتصاب الذي لقيَ دعما من وزيرة رعاية المرأة والطفل وقتها مانيكا غاندي التي أمَرَت مساعديها بمشاهدة هذه الحلقات، واعتُبر ذلك إنجازا كبيرا، وقد استجابت الدولة لبعض هذه القضايا وحاولت حلّها بسبب هذا البرنامج.
نجاح يقابله خوف
على الرغم من هذه الجهود الكبيرة في البرنامج، فإن بعض الناشطين الحقوقيّين يؤكدون أن هذه النتائج الإيجابية لم تنعكس على واقع المرأة الهندية؛ فالخوف والقلق مستمر.
امتدّ تأثير برنامج عامر خان عبر التلفاز إلى حدود الأحياء الفقيرة التي تعاني كثيرا من عمليات اغتصاب الفتيات الصغيرات والعنف ضد المرأة، وبدَت متابعته واضحة في تلك المجتمعات.
يتابع عامر خان نجاحاته في البرنامج عندما يقابل بطلتين أختيْن في المصارعة النسائية حازتا ميداليات ذهبية هما “جيتا وبابيتا كوماري” وحازتا على دعم كبير من أبيهما حتى وصلتا إلى هذه المرحلة من النجاح العالمي الباهر، وذلك كنوع من أنواع إثبات أن المرأة الهندية قادرة على أن تحقّق النجاحات.
واستوحي عامر خان فكرة فيلمه الجديد “دانغال” من مقابلته الأختين كوماري بعد انقطاع سنتين عن بوليود، محاولا بذلك توصيل رسالة بضرورة تمكين الفتيات الهنديات وأدائهنّ بنفس القدْر من تمكين أداء الرجال، وتغيير نمط تفكير المجتمع.
لقد كانت الأختان كوماري مصدر إلهام لعامر خان وفريق الفيلم، فعلى الجميع أن يفهم أن كل الناس سواسية، وينبغي معاملتهم بنفس القدْر من الاحترام والحُبّ.
عادة في الأفلام يُقلّد الناس الأبطال في حركاتهم وسكَناتهم وكل شيء، وبالتالي فربما يسعى من يشاهد فيلم دانغال وبطلتيه المصارعتين لتشجيع بناته على القيام بأعمال شبيهة، كما قام عامر خان البطل بدعمهما في الفيلم، وعُرض فيلم دانغال في ديسمبر/كانون الأول 2016، ولا يزال أكثر أفلام بوليود تحقيقا للأرباح على الإطلاق.
أوقد شمعة
لا يمكن لفرد أن يُغيّر مجتمعا كاملا، لكن يمكنه تقديم الأفكار التي يعتمد نجاحها على الناس والحكومة والمسؤولين السياسيين وغيرهم من أصحاب السُلطة الذي ينبغي عليهم جميعا أن يأخذوا الاتجاه نفسه.
يتساءل عامر خان في النهاية إذا ما كان قد أحدث تغييرا فعليا، فالتغيير كلمة كبيرة. لقد حاول أن يُحدث تغييرا في نظرة الناس إلى الأمور ومشاعرهم تجاهها من دون نصوص قانونية، بل بشعور شخصي من الداخل؛ فهو يريدُ من الأب تغيير نظرته إلى ابنته الأنثى، يريده أن يتطلع لأن يكون عنده بنت، يريده أن يشعر من الداخل وبشتى الطرق أنه يحبّ ابنته حقا وأنه يتطلع بشوق كبير ليكون مولوده القادم أنثى.
“علينا أن نعمل على مستويات مختلفة في طريقة تنشئة أولادنا وفي أنواع التأثيرات عليهم، وفي الكتابة الإبداعية التي نجعلهم يمارسونها والقصص التي نرويها لهم”.