بديع الزمان النورسي.. كفاح البندقية والقلم ضد الغزو العلماني

أمين حبلّا
على ضفاف البوسفور، تعانقت منذ الأزل قيم وآثار وتواريخ وثورات وحراك دائم يهدأ مثل مياه البحر تارة، ويتموج كأمواجه الهادرة تارة أخرى، في ذاكرة البوسفور أعلام ومعالم كبيرة، وفي حقائب التاريخ أنباء عظيمة وسير ثائرة كآمال شعوب الخلافة العثمانية وهي تحتضر على وقع هدير قطار الحجاز، وجلجلة الاستعمار الذي بدأ يأكل أطراف الرجل المريض.
في عمق هذه الأجواء المتوهجة غضبا وتمردا وأحلاما وآلاما ولد سعيد النورسي من أبوين كرديين، وعاش مفعم الشرايين بقصة الإسلام المقصوص الجناحين، يريد من ذلك النسر الذي ولد في مكة أن يحلّق فوق ضفاف البوسفور، وأن يرتفع على المآذن كما كان، ولكن ذلك يتطلب رحلة أخرى وهي رحلة وهج الإسلام في القلوب والشغاف والمشاعر، وتلك معركة واسعة خاضها النورسي، واستطاع أن ينجز فيها ويبدع ويتألق، رغم أن طلابه وأتباعه من بعده سلكوا طرائق قِددا في فهم كلامه وتفسير مسيرته.
بداية الطريق
أشرقت شمس سعيد في قرية نورس قرب بحيرة “وان” بإقليم “بتلس”، حيث تتعانق الضفاف والقمم منذ مسيرة الدنيا الأزلية. مارس النورسي شغف الطفولة الأولى، ومثل كل الأكراد يولد الإنسان هنالك بعينين حادتين كالصقر، وينظر إلى العالم من القمم إلى السفوح نظرة تفحص وإعادة ترتيب.
في عام 1877 كان سعيد النورسي طفلا تحمله الحياة على مهد الآمال، واستمر في رحلة النضال إلى حين وفاته في مارس/آذار 1960، ولم تكن البداية في حماسها وانطلاقها مثل النهاية، فقد عاش بروح شبابية ومات مثقلا بهموم الأمل والأحلام المؤجلة، مات قاب قوسين من موطنه الأصلي بلاد الأكراد، وقضى نحبه تحت إقامة جبرية أريد منها أن تختصر حياته وتحدّ من عنفوانه.
تلقى النورسي في شبيبته معارف كثيرة من قيم وعلوم الإسلام، وأدى كثيرا من وظائفه الروحية والعلمية، ونال ذكاؤه الوهاج واندفاعه في تحصيل العلوم إعجاب أبناء زمانه وجيله، فحمل ألقابا من بينها بديع الزمان، وسعيد مشهور، وكان ذلك دلالة على تفوقه الباهر في المعارف الشرعية.
السباحة والرماية والفروسية.. المؤمن القوي
لم يهمل النورسي الإعداد البدني الذي كان يسير فيه جنبا إلى جنب مع إعداده العلمي والروحي، فمهَر في الرمي والسباحة وركوب الخيل، وتلك مهارات خالدة أوصى بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الشباب لكي يكونوا على أهبة الاستعداد الدائمة للانطلاق في خدمة الرسالة المحمدية.
وعلى عكس حياة الرفاهية التي تدفقت على العالم العربي والإسلامي مع بداية القرن العشرين، كان النورسي زاهدا متقشفا ضابطا لحياته على إيقاع بعيد عن الثراء ودلال المال والشهوة.
كان التعليم الحقل الأول للنورسي، فعمل لسنوات مدرسا في “مدين وان”، ووضع فيها اللّبنات الأولى لدعواته الإصلاحية ومدرسته الفكرية، فزرعها في قلوب ثلة من الشباب الذين حملوها لاحقا لواء خفاقا في سماء تركيا، في مواجهة تمثال أتاتورك.
بديع الزمان سعيد النورسي النورسي داعية ومجاهد كردي تركي تعرض للأذى والنفي والسجن في سبيل فكرته
الزهراء.. قبس من نور الأزهر
وضع النورسي نصب عينيه تأسيس أكاديمية إسلامية جامعة اختار لها اسم “الزهراء” وأرادها أن تكون على غرار الأزهر، غير أنها تختلف عنه بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية، وربما لا يكون من صُدف التأسيس أن النورسي قد التقى شيخ الأزهر محمد بخيت الذي لم يُخف إعجابه الشديد ببديع الزمان.
حمل النورسي مشروع الجامعة في العام 1907 إلى عاصمة الخلافة إسطنبول ودافع عنه بشدة في الصحف، لكن حلمه لم يتحقق أبدا، ولم تعمّر الفكرة طويلا، فصاحب فكرتها الذي أصبح بعد ذلك عضوا في أعلى مجلس علمي في الدولة العثمانية وهو “دار الحكمة” إلى جانب كبار العلماء والأدباء، وجد نفسه في مواجهة مهمة أخرى هي التصدي لجيش الحلفاء الذين دخلوا إسطنبول محتلين مسقطين لرمزية الخلافة ودورها، وهنا بدأ مسار آخر من مسارات بديع الزمان وهو الجهاد والسياسية والتأسيس.

رياح العلمانية.. تداعي جسد الخلافة
في السنة التاسعة من القرن الماضي تمت الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني بعد مؤامرة متقنة بين القوى الغربية المناوئة للخلافة العثمانية، وجمعية الاتحاد والترقي التي رفعت شعارات برّاقة مثل الوحدة والحرية والإصلاح.
ومن تلك الشعارات انطلقت ثورة العلمانية في تركيا، وبدأ عهد الكمالية الجديد الذي جاءت معه رياح الصراع القوي بين بديع الزمان وحكام تركيا الجدد ومفكريها. لقد بدأ زمن جديد يسلخ روح الرجل المريض بعد أن قُطعت أطرافه التي انفصلت شيئا فشيئا عن الجسد المنهك.
ولمواجهة هذا المد الناسف لتاريخ وحصيلة قرون عدة من التاريخ والحضارة والاجتماع الإسلامي، أسس النورسي جمعية الاتحاد المحمدي التي حملت ذات الشعارات التي رفعها الاتحاديون، وذلك لكشف جوهر الجمعية المعادي للإسلام كما يفهمه العثمانيون قديما.
اعتقال أفراد من جماعة النور في بورصة وإسبارطة
في جبهات القتال.. الدفاع عن الرجل المريض
اعتبارا من عام 1911 انخرط النورسي -على غرار عدد من علماء عصره- في تنظيمات سرية أمر الخليفة العثماني بإنشائها للدفاع عن الخلافة في وجه الأطماع الغربية.
أخذت أولوية الخدمة والجهاد تتبلور في عقل وأعمال النورسي فالتحق -إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى- بالجيش التركي ضابطا، وذهب إلى جبهات القتال وحرّض الناس على الجهاد مُفتيا بوجوبه دفاعا عن الخلافة الإسلامية.
وكانت تلك فرصة أساسية لكي ينشر تعاليمه وآراءه الدينية في صفوف الجنود الأتراك المثخنين بجراح هزائم متعددة، أشدها فتكا كانت هزائم في الروح والعقيدة والتوجهات الفكرية الكبرى في تلك اللحظات الفارقة من تاريخ بلدهم.
وكانت الدروس والمحاضرات والمواعظ النورسية تأخذ بألباب الجنود وتعيد إليهم جزءا من هويتهم الضائعة تحت أزيز حرب مفتوحة على دولة الخلافة، لكن مقام العسكري الواعظ في الجيش التركي لم يعش طويلا، فقد انخرط في قتال جيش روسيا القيصرية على جبهة القوقاز.
تذكر بعض المصادر التي نشرت سيرة الرجل أنه كان شجاعا يحرّض جنوده على القتال ويتصدر رَكبهم إلى مواقع العدو ويرفض المكوث في الخنادق، وكان يقول دائما إنه متشوق إلى الآخرة كشوق البدوي التركي إلى إسطنبول.
قبض عليه الروس في العام 1916 ونفوه إلى جزيرة سيبيريا، وكاد يُقتل بعد أن حكمت عليه محكمة عسكرية روسية بالإعدام لرفضه تحية خال القيصر لدى تفقده الأسرى. بقي في منفاه الروسي حوالي سنة، وسرعان ما استطاع الفرار من سجنه والعودة إلى إسطنبول أثناء اضطرابات صاحبت الثورة الشيوعية 1917 عبر رحلة طويلة مرت به على ألمانيا وبولندا والنمسا، قبل أن تصافح قسماته من جديد شمس إسطنبول.

“مبعوثون ليوم عظيم”.. في مواجهة أتاتورك
خاض النورسي حربا مفتوحة ضد مصطفى كمال أتاتورك، رغم أن أتاتورك حاول استمالته أكثر من مرة، لكن النورسي كان يحمل حربا على منظومة قِيمية بشّر بها أتاتورك ورآها الوسيلة المثلى لإقامة نموذج تركيا الجديدة على أنقاض الدولة العثمانية.
في العام 1924 ألغى مصطفي كمال أتاتورك نظام الخلافة ووضع مع رفاقه دستورا جديدا للبلاد تبنى المبادئ العلمانية، وكان قد قرر قبل ذلك بعامين (1922) إلغاء السلطنة، وفي ذلك العام استدعي النورسي إلى أنقرة، وهنالك فوجئ بأن الإلحاد قد ضرب بجذور راسخة في النظام والسياسة التركية الجديدة، كانت الحرب على الإسلام قد سارت –وفق تقديره- على قدم وساق، لقد استفزه الأمر، واغتاظ جدا عندما رأى النواب يُضربون عن الصلاة ويسايرون أتاتورك في محو معالم إسلامية واحدة بعد أخرى.
رفع النورسي الصوت عاليا ضد مجلس المبعوثين “البرلمان” وكتب إليهم رسالته الشهيرة “أيها المبعوثون إنكم مبعوثون ليوم عظيم”.

“أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”.. الحرب المفتوحة
كادت رسالة النورسي إلى البرلمان أن تزلزل أركان أتاتورك ومشروعه العلماني، فحاول أب العلمانية إغراء أب الثورة والهوية الإسلامية في تركيا المعاصرة، فأرسله واعظا ومعلما دينيا في المناطق الشرقية من تركيا بعيدا عن عاصمة الخلافة الموءودة، ولتزيين هذا المنفى منحه امتيازات تضمنت قصرا شامخا وراتبا ضخما مع امتيازات أخرى، لكن قلب النورسي كان عامرا بقيم أخرى ومُثل يعتبرها أكثر جاذبية، فرفض العرض الكمالي بكل قوة، وترك كلمته السائرة “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”.
وعندما فشلت سياسة الإغراء تجاه بديع الزمان بدأت المرحلة الأخرى وهي الحرب المفتوحة والسجون والأحكام القاسية، لأنه كان أبرز صوت مناهض للعلمانية “المتوحشة” التي فرضها كمال أتاتورك.
تعددت المنافي والسجون والمحاكمات ضد بديع الزمان، وصدرت ضده عدة أحكام بالإعدام، ولكن الخوف من رمزيته شهيدا كان يأخذ مداه في نفوس الحكام العلمانيين لتركيا الجديدة، مما يدفعهم إلى تأجيل حكم الإعدام.

إسبارطة .. الإعلان الكبير
ضاقت أرجاء تركيا الواسعة ذرعا ببديع الزمان، فغادرها إلى دمشق حيث ألقى خطبته المشهورة منتصف الأربعينيات، وهي الخطبة التي مثلت الإعلان الكبير لرؤاه التجديدية والتحررية ضد ما تعيشه الأمة من انهيار كامل على كل الأصعدة والمنصات الحضارية.
لقد حدد النورسي رؤوس رماح الأزمة التي تنهش المسلمين في اختلالات حضارية كبرى من بينها:
– الهزيمة النفسية واليأس التي أخذ بمجامع قلوب الأمة، وأراها المستقبل مسودّا لا أفق فيه لنهضة ولا عبور فيه نحو تنمية.
– انهيار المنظومة الأخلاقية وانخرام القيم الاجتماعية في مختلف أقطار العالم الإسلامي.
– الصراعات الداخلية والعداوات بين شعوب وحكام المسلمين، وانهيار الوحدة تحت سقف الاستعمار.
– الاستبداد والديكتاتورية التي يحكم بها الملوك والزعماء.
– الأنانية وتقديم المصالح الشخصية للحكام والنخب على مصالح الأمة وأهدافها الكبيرة.

إسبارطة المباركة.. المنفى الأخير
ومع انتشار الصحوة النورسية وتوسع مداها في مختلف الأقطار التركية لم يكن هنالك بديل بالنسبة للكمالية غير النفي القسري، وفرض الإقامة الجبرية على النورسي في منطقة “إسبارطة”، وهي المدينة التي وصفها في بعض مراسلاته بأنها مباركة حتى بترابها وأحجارها، وأنها كانت أقوى ركيزة لإدامة حياته المعنوية التي تحققت بظهور رسائل النور وانتشارها.
أقام النورسي في إسبارطة سنين عددا، قبل أن يغادرها غاضبا ومتحديا حظر التنقل، متجها إلى مدينة “أورفة” التي توفي فيها في 23 مارس/آذار 1960 بعد يومين من وصوله إليها، ودفن فيها، لكن السلطات العسكرية المنبثقة عن انقلاب مايو/أيار 1960 نقلت رفاته إلى جهة مجهولة.
وبوفاته، كُفّن الجسد النحيل في ثياب بيضاء وأُسلم إلى مرقده الأخير، أما الثورة والفكرة فانطلقتا كأجنحة الروح في فضاءات فكرية وصوفية واسعة المدى بعد أن ضمن له الموت في سبيلهما عمرا مديدا لا يزال يجدد فقراته ومراحله كل حين.
إلى اليوم يجد أتباع النورسي في رسائل النور جاذبية تحرك مشاعرهم
جماعة النور.. ملامح الإرث النورسي
أسس النورسي حركته التي حملت لقب “جماعة النور” على أسس كبيرة منبثقة من العلاقة بالإسلام، منها على سبيل المثال:
– إيقاظ الروح الإسلامية في الشعب التركي من جديد، والعمل على بناء جذري ينطلق من الأسفل إلى الأعلى ومن التربية إلى الانتشار.
– تخلى النورسي وأتباعه عن السياسة ورأوها قرينة “للشيطان الرجيم”، وقد ظل هذا التوجه حاكما لكثير من آراء أتباعه قبل أن يتم تحويره مع جماعة الخدمة التي يمثلها “فتح الله غولن” الذي يقدم نفسه بأنه جزء من تراث النورسي، رغم تباين المجالات والمسارات بين الرجلين.
– لا يعرف للنورسية فكر خارج ما كتبه الشيخ النورسي، وتنال كتبه القداسة التامة بالنسبة لأنصاره الذين ينظر كثير منهم إليها باعتبارها مصدرا ثالثا للتشريع والقيم الإسلامية بعد القرآن الكريم والحديث الشريف.
– للنورسية شغف بالخدمة وشغف بالزهد والتربية، وتتضمن الخدمة النورسية نسخ وحفظ كتب الشيخ النورسي ومراجعتها حرفيا ضمن طقوس متنوعة تنتشر في أقطار واسعة من العالم الإسلامي، وقد يصل هذا الزهد إلى مرحلة من الانعزالية في بعض الأحيان، عندما يحوّل الصوفي النورسي حياته كلها إلى وقف تام على خدمة المذهب النورسي.
– ترك النورسي أكثر من 130 رسالة وكتابا تحولت إلى أيقونات دينية وروحية في فكر النورسيين وأخذت مكانها في دوائر النشر والترجمة، ومن أشهر هذه الكتب والمؤلفات “سلسلة رسائل النور” التي انتشرت باللغة التركية قبل أن تنتقل إلى عدة ألسنة عالمية من بينها اللغة العربية.
ومن بين كتبه ورسائله التي ترجمت إلى اللغة العربية: رسائل النور، المثنوي العربي النوري، إشارات الإعجاز في مظّان الإيجاز، الكلمات، اللمعات، الشعاعات، المكتوبات، المحاكمات، سيرة ذاتية، قطوف من أزاهير النور، الآية الكبرى، الملاحق، صيقل الإسلام.

الذكرى الـ60.. النورسية وأخواتها
يصادف العام الحالي 2020 انصرام 60 سنة على وفاة النورسي، ولا تزال رسائل النور على مر السنين تشع في قلوب أتباعه الذين باتوا -ربما- أكبر قوة دينية في تركيا رغم ما أصابهم من التشتت الفكري وتعدد الرايات والمذاهب، ومع كثرة المنتمين إلى النورسي والملتحفين بذكراه، يبقى خُلّص تلامذته المسنّون ينفون العلاقة بين فكره وفكر “النورسي” الآخر فتح الله غولن الذي يمثل منذ سنوات رأس حربة واسعة ضد نظام “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا.
ووفق هؤلاء فإن موارد التربية بين الطرفين مختلفة، فالنورسي بديع الزمان العالم الزاهد ليس مثلا أعلى بالنسبة لغولن الذي يصفه خصومه بـ”الثري المترف الذي يدير مملكة مالية من أوسع إمبراطوريات الثراء المتستر خلف الدين”، كما أن استعاذة بديع الزمان من السياسة تحولت مع غولن حتى دخل عميقا في دهاليزها فجعلت خصومه يصفون ذلك بـ”المؤامرة والانقلابات والانخراط في واحدة من أقوى وأشد الأنظمة السرية”.
وكما كان النورسي في حياته قلما وصوتا صادحا في مواجهة كمال أتاتورك، فإنه ما يزال أيضا في حقائب التاريخ ذكرى متوقدة تقضّ مضاجع العلمانية في تركيا.