معركة “هوليود” و”نتفليكس”.. ظاهرها حب السينما وباطنها حب المال

خاص-الوثائقية

ستبقى سنة 2019 عالقة في أذهان الكثير من عشاق السينما العالمية، ومحطة فارقة في تاريخها، بالنظر لجودة الأعمال التي تم إنتاجها هذه السنة والجدل الذي أثير حولها، ولدخول السينما كصناعة في مرحلة جديدة، أو هي للحرب أقرب. مرحلة ستحدد مصير الإنتاج السينمائي في السنوات المقبلة، وتدور هذه المعركة بين شركة “نتفليكس” (Netflix) وبين شركات الإنتاج السينمائي التي تعتبر نفسها صاحبة الحق الشرعي في المنافسة على الجوائز العالمية، وتحتكرها على أفلامها دون الأفلام التي يتم إنتاجها من طرف “نتفليكس”، والمخصصة للبث عبر التطبيق في الإنترنت لا عبر قاعات السينما.

وخلال العام الحالي، احتدم هذا النقاش الذي يتداخل فيه ما هو مالي بما هو فني، خصوصا مع صدور فيلمين أسالا الكثير من الحبر، ونجحا في إثارة الإعجاب والجدل، ويتعلق الأمر بفيلم “جوكر” للمثل “خواكين فينيكس”، وفيلم “الإيرلندي”، للمخرج الأمريكي الشهير “مارتن سكورسيزي”، وفي الظروف العادية كان للعملين نفس الدور في تقديم تحف فنية ستبقى خالدة في الذاكرة السينمائية العالمية، لولا أن السياق يجعلهما في وضع تقابل ومنافسة تخفي حربا شرسة تدور رحاها بين ما يمكن أن نطلق عليه “أنصار المدرسة التقليدية”، وبين “أنصار رقمنة السينما”، وبين المعسكرين وجهات نظر فنية متباينة، دون إغفال الجانب الاقتصادي والمالي في هذه المعركة.

هذه المصالح هي التي تدفع شركة “نتفليكس” للدفاع وبشراسة عن حقها في المشاركة في جوائز الأوسكار، في مواجهة دعوات لفرض قيود على أفلام “نتفليكس” قبل المنافسة في الجائزة السينمائية الأكبر في العالم، التي تضخ من أجلها الشركة الأمريكية استثمارات غير مسبوقة في عالم الإنتاج الفني، وفي هذا المقال سنرصد أوجه هذه المنافسة، وحجم الأموال التي تم إنفاقها لاحتكار المشهد السينمائي، وكيف تحاول دور السينما والإنتاج وقف مد “نتفليكس” ورغبتها في اكتساح عالم السينما.

هل تخضع نتفليكس لشروط الأفلام المنافسة على جوائز الأوسكار

 

الأوسكار.. أفلام سينمائية لا تعرض في السينما

“نحن نحب السينما”. بهذه التغريدة ردّت شركة “نتفليكس” على موقف المخرج العالمي “ستيفن سبيلبرغ”، الساعي لفرض شروط جديدة، تخضع لها الأفلام التي تريد المنافسة على جوائز الأوسكار، وبالرغم من أن التغريدة لم تذكر المخرج بالاسم فإن مواقفه من مشاركة أفلام لم تعرض في السينما معروفة، ويرى “سبيلبرغ” الذي يُعتبر من أهم أعضاء لجنة تحكيم “الأوسكار” أن أي عمل لا يُعرض في قاعات السينما لا يمكن وصفه بالفيلم السينمائي، وسبق أن صرح أنه “بمجرد عرض الفيلم على منصة تلفزيونية أو رقمية فهذا فيلم تلفزيوني وليس سينمائي”.

وزادت مطالب المخرج الأمريكي المعروف إلحاحا، أمام إنتاج شركة “نتفليكس” لعدد من الأعمال المرشحة بقوة للمنافسة على الأوسكار، فاقترح أن يكون هناك حيز زمني بين إطلاق الفيلم وعرضه حصرا في قاعات السينما، وبين جعله متاحا في المنصات الأخرى، وألا تقل هذه المدة عن ثلاثة أشهر، وهو ما يضرب مبدأ شركات بث الأفلام وخصوصا “نتفليكس” التي تعتمد على تطبيقها في أجهزة التلفزيون والهواتف الذكية لنشر أعمالها دون أن توجهها إلى قاعات السينما.

بفضل شركة “نتفليكس”خرج فيلم “الإيرلندي”

الإيرلندي.. تحف لم تكن لترى النور

هذه الشروط التي يريد “سبيلبرغ” فرضها، ينتقدها البعض ويعتبرها غير عادلة في حق شركة تظهر الكثير من السخاء في الإنفاق على الأفلام، بل إن المخرج الشهير “مارتن سكورسيزي” -الذي يعتبر قرين “سبيلبرغ” في الإبداع، وكلاهما على نفس القدر من التاريخ والمسار المظفر- أقر بفضل شركة “نتفليكس”، واعترف أنه لولاها لما خرج “الإيرلندي” الذي يعتبر من تُحف أفلام المافيا، إذ ما كان عشاق السينما يتصورون بأنهم سيشاهدون فيلما يجمع بين “روبرت دي نيرو” و”آل باتشينو”.

وصرح المخرج أنه لاحَق على مدى سنوات عددا من شركات الإنتاج التقليدية التي رفضت تحمّل نفقات إنتاج هذا العمل التي بلغت 125 مليون دولار، ووحدها شركة “نتفليكس” من رحّبت بالعمل وأنتجته.

تبرُّم قنوات الإنتاج الكلاسيكية من إنتاج أعمال ذات نفقات ضخمة، تكرر مع المخرج المكسيكي “ألفونسو كوارون” في عمله “روما” وهو الفيلم الذي خلق الكثير من الجدل بعد أن فرض نفسه على الكثير من الجوائز العالمية وراجت أخبار بأن حملة ترويج غير مسبوقة رافقت الفيلم الذي تم تصويره بتقنية الأبيض والأسود، بلغت قيمتها 20 مليون دولار، وهو ما دفع بهذا الفيلم للفوز بثلاثة جوائز أوسكار، ومع ذلك فقد فجّر هذا الفيلم جدلا واسعا، حول أحقيته بالفوز بما هو أكثر.

فيلم “روما” فاز بثلاث جوائز عدا الأوسكار

 

فيلم “روما”.. بأي ذنب قُتلَت؟

عندما كانت الممثلة الأمريكية الشهيرة “جوليا روبرتس”، تفتح ظرف لقب أفضل فيلم في مسابقة الأوسكار لسنة 2019 كان الجميع يتوقعون أن تعلن عن اسم فيلم “روما” الذي فاز في نفس الليلة بثلاث جوائز، خصوصا وأن نفس الفيلم فاز بجائزتي “غولدن غلوب” وأربع جوائز في مسابقة الأكاديمية البريطانية “بافتا” (BAFTA)، لكن المفاجأة حصلت عندما تم إعلان أن الفيلم الفائز هو “الكتاب الأخضر”.

فتح هذا القرار الكثير من الجدل، بل إن المخرج والمنتج الأمريكي الشهير “سبايك لي”، اعتبر أن القرار خطأ من لجنة التحكيم. أما صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” فوصفت التتويج بكونه الأسوأ منذ عقود. وتناسلت الكثير من الأسئلة والإشاعات حول سبب حرمان فيلم “روما” من جائزة أفضل فيلم في الأوسكار، وتساءل الكثيرون عن ما إذا كان للأمر علاقة بالجهة المنتجة، أي “نتفليكس”.

 

“وحوش بلا وطن”.. عنصرية سينمائية في أمريكا

التساؤلات حول حرمان فيلم “روما” من جائزة أفضل فيلم في الأوسكار تغذيها تجربة سابقة لشركة “نتفليكس” في المشاركة في جوائز الأوسكار، ففي سنة 2015 مثّل فيلم “وحوش بلا وطن” (Beasts of No Nation) الشركة في المسابقة، وكان موضوع الفيلم عن الحرب، وكلفة إنتاجه 12 مليون دولار، ورغبة منها في إظهار حسن نيتها، التزمت الشركة بالمعايير من خلال عرض الفيلم في عدد من قاعات السينما.

وعلى الرغم من فوز الفيلم بعدد من الجوائز في مسابقة الأكاديمية البريطانية للفنون وفي “الغولدن غلوب”، فإنه لم يظفر بأي جائزة في الأوسكار، مما شكل إحباطا للمنتجين.

ومن بين أسباب عدم فوز الفيلم أنه لم يعرض في قاعات سينما معروفة في الولايات المتحدة، وهذا راجع إلى قرار أكبر أربع دور عرض سينمائي في الولايات المتحدة، مقاطعة الفيلم وعدم عرضه، ويتعلق الأمر بكل من السينيمات “كارمايك” و”سينمارك” و”ريغال” و”إيه أم سي”، وكان موقف هذه المؤسسات بسبب استشعارهم بأن منصة “نتفليكس” قادمة بقوة، وتشكل منافسا حقيقيا لهم، فلا يمكن أن يفتحوا لها الأبواب.

ولعل إصرار عدد من أعضاء لجنة الأوسكار على شرط عرض أي فيلم يشارك في المسابقة في قاعات السينما حصريا قبل بثه في الإنترنت، بات يشكل الحاجز الوحيد الذي قد يقف أمام الاكتساح الهائل لأفلام “نتفليكس” لكل الجوائز العالمية.

 

قاعات السينما توصد أبوابها أمام “نتفليكس”

بلغ غضب دور السينما وشركات الإنتاج السينمائي مبلغه، وعبر عن نفسه من خلال رسالة مفتوحة وجهتها الكونفدرالية الدولية للسينما والفن إلى إدارة مهرجان برلين، تعاتبها على قرارها اختيار فيلم “إليسا ومارسيلا” الذي أنتجته “نتفليكس”، وقالت الكونفدرالية في رسالتها إن “هذه المنصة تُعرّض قاعات السينما للخطر وتهدد وجودها باعتبارها مكانا للثقافة والتنوع”.

نفس الانتقاد عبّر عنه “تيم ريتشاردس” المدير العام لشركة “VUE” العالمية الرائدة في قاعات السينما، فقد صرح بأن “الفيلم يتم تعريفه بأنه عمل يتم عرضه في القاعات، أما نتفليكس وغيرها من المنصات فيمكن أن نضعها في خانة الترفيه وليس السينما”.

 

مهرجان “كان” السينمائي.. الحل الوسط

أمام الضغط المتزايد التي تفرضه قاعات السينما في هوليوود، والتي ما زالت تتحكم في الكثير من خيوط اللعبة، فقد توصلت إدارة مهرجان “كان” إلى حل قد يرضي جميع الأطراف، وذلك عندما أعلن “تيري فريمو” وهو مدير المهرجان، أنه سيشترط على “نتفليكس” أن تعرض عملها حصرا في قاعات السينما الفرنسية، في حال فوزه بالسعفة الذهبية، وعدم بثه على منصتها لمدة زمنية معينة ما زالت محط تفاوض بين الطرفين.

ويبدو أن المنافسة بين قاعات السينما وشركة “نتفليكس”، لن تنتهي قريبا خصوصا بعد أن أحيا فيلم “جوكر” الآمال بأن يوقف زحف الشركة في جوائز الأوسكار، وأمام الهجوم الذي أطلقه رئيس جمعية قاعات السينما في الولايات المتحدة على من يتعاون مع الشركة من الفنانين واعتبر أنهم يبيعون الفن وأرواحهم للشركة على حساب السينما.

 

 

نتفليكس تفتح خزائنها.. من يستطيع المنافسة؟

دخلت الشركة الأمريكية سنة 2019 بهدف معلن، وهو أن تكتسح إنتاج الأفلام، وأن تتصدر أفلامها عرش الإيرادات وعدد المشاهدات وأن تحتكر منصات التتويج، ومن أجل ذلك أعلنت أنها ستقوم بإنتاج أزيد من 700 عمل، منها 80 فيلما طويلا موجهة للعالم، وأخرى موجهة لدول بعينها، وخصصت لهذا الهدف استثمارا عملاقا وغير مسبوق في تاريخ إنتاج الأفلام، يفوق 8 مليارات دولار.

قد يظهر أن الشركة الأمريكية باتت في وضع مريح بدون منافسة، وهو طرح قد يكون صحيحا ولكنه لن يدوم طويلا بسبب دخول أكثر من مؤسسة على الخط، ولعل أهمها مجموعة “ديزني” التي قررت إطلاق منصتها للأفلام في الولايات المتحدة وكندا، على أن تكون متوفرة في أوروبا في سنة 2020.

ولا تخفي شركة “ديزني” هدفها في اختطاف الصدارة من “نتفليكس”، وأقدمت على استثمار ضخم بشراء عملاق الإنتاج السينمائي “21 سنتشوري فوكس” ( Century Fox21) في صفقة من أكبر الصفقات في تاريخ السينما بلغت 71 مليار دولار.

 

 

“ديزني”.. العلامة التجارية الأكبر

لن تجد شركة “ديزني” مشكلة في الإنفاق وبسخاء على الأفلام، معتمدة في ذلك على علامتها التجارية التي تعتبر أشهر علامة في مجال الإنتاج السمعي البصري والأقوى في العالم، وتتوفر الشركة على عدد من الأعمال الشهيرة، كما هو الحال بالنسبة لسلسلة “حرب النجوم” التي تعتبر من أكثر الأعمال تحقيقا للإيرادات في التاريخ، وتبلغ كلفة إنتاجها 15 مليون دولار لكل موسم، إضافة لعدد من أفلام الأبطال الخارقين ومن بينها “آيرون مان” (Iron man) وغيره من الأفلام التي تحقق نجاحا كبيرا، وهناك عمل “أفنجرز” (Avengers) الذي حقق أكبر قدر من المداخيل في تاريخ السينما العالمية.

وبالتالي تدخل “ديزني” هذه المعركة ضد “نتفليكس” ولها الكثير من الأسلحة التي تمكنها من المنافسة، ويظهر أن المستفيد الأول من هذه المعركة هم الممثلون، وخصوصا المشاهير منهم، فقد وجدوا أنفسهم أمام تقاطر عروض الاحتكار من طرف الشركتين بمبالغ خيالية.

مؤسسا نتفليسكس مارك راندوف وريد هاستينغر

 

القتال على جميع الجبهات.. إنه المال

تنزل شركة “نتفليكس” بكل ثقلها في كل المعارك التي تخوضها سواء ضد شركات قاعات السينما، أو مؤسسات الإنتاج في هوليوود، أو في صراعها للفوز بجوائز الأوسكار، وضد منافسيها من شركات البث على الإنترنت، معتمدة في ذلك على إمكانيات مالية هائلة. ففي سنة 2018 حققت الشركة مداخيل بقيمة 15 مليار دولار، وأصبحت متوفرة لـ140 مليون مشترك من بينهم 59 مليون في الولايات المتحدة وحدها.

هذا الكم من الأرباح الخيالية هو ما يحفزها على المضي قُدما في الاستثمار، ولكسر احتكار أربع شركات لقاعات السينما، فقد باتت الشركة قاب قوسين أو أدنى من شراء “المسرح المصري” في الولايات المتحدة وهو من أشهر قاعات العرض في العالم وله تاريخ ممتد لقرن من الزمان، مما سيوفر للشركات منصة شرعية فنية لعرض أعمالها التي تراهن على فوزها في الأوسكار.

كما نجحت الشركة وبفضل استثمارها الكبير في تطوير الأفلام وتقنيات التصوير، والدفع من قيمة الإنتاج، في نيل عضوية “جمعية الأفلام الأمريكية” (Motion Picture Association of America)، التي تعتبر من أكبر تجمعات صانعي الصورة في العالم. وبرر رئيس الجمعية الموافقة على عضوية الشركة المغضوب عليها من شركات الإنتاج التقليدية لقدرتها الكبيرة على تطوير صناعة السينما، في إشارة لما يتوفر لديها من إمكانيات مالية.

تتزايد أعداد المشاركين في نتفليكس عاما بعد عام

 

احتكار الممثلين.. الرقم الأعلى في التاريخ

لعلم “نتفليكس” أنها تواجه منافسة شرسة في إغراء النجوم وبعضهم خائف من إخافة عمالقة هوليوود، فقد تعاقدت “نتفليكس” مع “سكوت ستوبر” نائب رئيس شركة الإنتاج “يونفرسال” المعروف بعلاقاته القوية مع جل نجوم السينما العالمية، وبالفعل فقد نجح في إقناع عدد من النجوم بالتوقيع مع الشركة كما هو الحال مع الممثلة الأمريكية “سكارليت جوهانسون” التي تعتبر صاحبة أعلى أجر بين الممثلات في العالم، إضافة لنجوم آخرين، وخصصت الشركة لجذب النجوم مبلغ 222 مليون دولار لإنتاج بعض الأفلام، وهو رقم لم يسبق لأي شركة إنتاج أن حققته.

يبدو أن الصراع بين “نتفليكس” وبقية المتدخلين في صناعة السينما صراع تجاري، وكل طرف يخشى من خسارة موقعه ومداخيله، ووحده المال هو من سيحسم هذه المعركة. في المقابل ترى بعض التحليلات أن المستفيد من هذه المنافسة هو المُشاهد الذي سيجد نفسه أمام الكثير من الأعمال الفنية التي كانت في السابق حكرا على المسابقات العالمية أو دور السينما العالمية، واليوم بات الجميع يتنافس على جذب المشاهد.


إعلان