أسرار تحطم الطائرات.. الرهان الخاسر على الذكاء الاصطناعي

ألغاز تلف عالم الطيران على مدى عقود من الزمن، وتؤدي إلى سقوط الكثير من الطائرات حاملة معها إلى القاع الكثير من الأرواح دون أن يعرف المختصون والمحققون وشركات التصنيع سبب سقوطها ولا كيف عاش ركابها لحظاتهم الأخيرة وهم يرون الموت ينتظرهم على القاع مستفيدا من جاذبية الأرض، تلك الأم الدافئة التي يطمحون بالعودة إليها.

تعرض الجزيرة الوثائقية سلسلة من أربع حلقات بعنوان “أسرار تحطم الطائرات” تحقق في أسباب تحطم هذه الطائرات وتستعرض نتائج تلك التحقيقات التي قام بها مختصون في الكوارث الطبيعية والصناعية.

وفي الحلقة الثالثة تكشف التحقيقات السر وراء تحطم بعض الطائرات بسبب خلل فني في أجهزة التحكم أو الكمبيوترات أو الأجهزة الإلكترونية.

 

حسن العدم

“أيها السيدات والسادة: أنتم الآن على متن طائرة ايرباص 380، أكبر آلة تطير في السماء، 500 طن من الآلات والحساسات وأجهزة التحكم، 525 مقعداً على طابقين، وأربعة محركات نفاثة ضخمة، أحدث تكنولوجيا، نتاج 100 عام من الطيران، الطائرة الذكية الأولى في العالم التي يمكنها أن تطير بدون تدخل بشري، ورغم حجمها الهائل فإنها تحتاج إلى ثلاثة طيارين فقط لمراقبة الأحداث في قمرة القيادة، حيث يتولى الحاسوب الخارق في الطائرة أمر القيادة”، كانت هذه مقدمة مهمة من الطيار رتشارد كربنغي، قائد رحلة كانتاس رقم 32، والمتجهة من مطار شانغي في سنغافورة إلى مطار سيدني في أستراليا.

 

 

إيرباص 380.. السوبر جامبو، واسطة عِقد الإبداع البشري

الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً من يوم 4/11/2010، بينما كانت روزماري وزوجها لاري هيغارتي يأخذان مقعديهما في الطائرة الفارهة، للعودة إلى بيت العائلة في سيدني بعد قضاء إجازة في ايرلندا، كانت على يمينهما تجلس فتاة شابة معها طفلتها الجميلة، التي بدأت تلاعب روزماري وتضاحكها. أما باقي ركاب الطائرة البالغ عددهم 469 مسافراً، فهم مشغولون بترتيب أمتعتهم في أدراج الطائرة الفسيحة، وأخذ مقاعدهم.

في قمرة القيادة كان هنالك ضيفان فوق العادة: هاري روبين، وديف إيفانس، وهما طياران خبيران مهمتهما في هذه الرحلة تقييم ومراجعة أداء الطاقم. وكان مساعد الطيار مات هيكس يضبط أجهزة التحكم، أما المساعد الثاني مارك جونسون فهو يراقب القراءات والعدادات، فيما تتهادى الطائرة الضخمة على أرضية المدرج، في تحضيرٍ لإقلاع هادئ، ثم تحليق على ارتفاع 7000 قدم خلال خمس دقائق.

إيرباص 380 المتجهة نحو سيدني تهوي باتجاه البحر

 

الكمال لله.. آفة المخلوقات النقصان

ثم فجأة، دوّى صوت انفجار مزدوج في المحرك الداخلي، وكان أول رد فعل طبيعي لريتشارد هو تقليل الطاقة، لحفظ توازن الطائرة، ولخفض قوة الدفع على المحركات، وجعل كل ردود الأفعال في الأنظمة أقل حدة.

حالة من الارتباك المتوقع تسود قمرة القيادة، بينما يخبرهم الحاسب الآلي أن المحرك الثاني مشتعل، فيبادر المساعد الأول إلى تشغيل نظام إطفاء الحريق، ولكن الاستجابة سلبية، نظام الحريق لا يعمل.

المحرك رقم 2 يتعطل الآن تماماً عن العمل، وهذه مشكلة كبيرة، ولكنها لا تتسبب بوقوع كارثة، فمن شأن بقية المحركات أن تقوم بالمهمة، وإبقاء الطائرة في وضع تحليق آمن، وفق خوارزمية ملقمة مسبقاً لحاسوب الطائرة.

لكن الأحداث التي تلت هذا التعطل كانت دراماتيكية وسريعة للغاية، فسِجِلُّ الأعطال لدى الحاسوب يشير إلى تعطل السدفات والجنيحات اليسرى تماماً، بل إنه في دقيقة واحدة فقط أعطى الحاسوب خمسين رسالة من الأخطاء والإنذارات، نظام الوقود، نظام التحكم، النظام الهيدروليكي، نظام التكييف… وغيرها كثير.

وأكثر من ذلك الآن، فالحاسوب يشير إلى أن المحرك الأول أيضاً في حالة تدهور، ثم تلاه المحرك الرابع. والواقع أن نظام الحاسوب غبي وأعمى مهما كانت درجة تعقيده وبرمجته، فكونه رأى عطلاً كبيراً يحدث، فإنه بما لديه من البرامج والخوارزميات وأدوات المنطق الآلي يرى أن بقية الأجهزة والأنظمة قد تعطلت بالتتابع، وليس بالضرورة أن يكون ذلك قد حدث بالفعل، ولكن عدم وصول إشارات هذه الأنظمة إلى الحاسب بفعل العطل الأول، يجعله يظن أنها تعطلت.

طائرة إيرباص 320 التابعه للخطوط النيوزلندية

 

من 320 إلى 380.. توريث جينات النقص

هذا السيناريو شبيه إلى حد ما بحادث حصل لطائرة إيرباص 320 تابعه للخطوط النيوزلندية، كانت مؤجرة لشركة طيران ألمانية، وحتى يتم إعادة تسليمها للشركة المالكة، خرجت في رحلة اختبار قصيرة فوق الساحل الجنوبي لفرنسا، وكانت المهمة: فحص نظام الحماية من التباطؤ.

الأصل في الطائرة أنها مصممة لكي لا تتباطأ أبداً، فعندما تتباطأ السرعة نتيجة مؤثرات خارجية، كعاصفة مثلاً، فإن الحاسوب يقوم بخفض مقدمة الطائرة للأسفل وإرسال قوة دفع زائدة للمحركات حتى ترتفع السرعة وتتجاوز العاصفة، ما قام به فريق الاختبار هو التمثيل بأن الطائرة تتباطأ، وذلك برفع مقدمتها للأعلى، ما يعني مزيداً من مقاومة الهواء، وبالتالي التباطؤ، ولكن هذا الاختبار يجب أن يتم على ارتفاعات شاهقة، 14000 قدم مثلاً، غير أن الفريق قام به على ارتفاع 4000 قدم فقط فوق سطح البحر.

الطائرة تتباطأ والفريق ما زال ينتظر الحاسوب ليفعّل برنامج الحماية من التباطؤ ويقوم برفع السرعة، ولكن الحاسوب لا يفعل، السرعة تخف أكثر وأكثر، وجهاز الإنذار الرئيسي يطلق صافرة الخطر الأقصى، الآن يحاول الفريق خفض مقدمة الطائرة، وزيادة السرعة يدوياً، ولكن الطائرة تتأرجح في الهواء، ينجح الفريق نسبياً في خفض المقدمة قليلاً، ولكن الطائرة لا تستجيب بالقدر الكافي، ثم تعود مقدمة الطائرة للارتفاع بزاوية مخيفة للغاية، وفي النهاية تنقلب وتسقط في البحر متسببة في مقتل جميع من عليها؛ طاقم القيادة وفريق الاختبارات.

لم يستطع حاسوب الطائرة بعد انفجار المحرك من تفعيل برنامج الحماية من التباطؤ فانخفضت السرعة بشكل كبير جدا

 

فرق التحقيق.. حين لا تنفع الحكمة

فريق تحقيق فرنسي يتولى الأمر، وفوراً كانت الملاحظة الأولى: اثنين من مستشعرات زاوية ارتفاع المقدمة الثلاثة قد تعطلا بعد 20 دقيقة من الطيران، وصارت الإشارة الثابتة المرسلة من هذين المستشعرين تخبر الحاسوب أن الطائرة تسير بشكلٍ مستوٍ، على غير الحقيقة.

لو كانت المجسات تعمل بشكل جيد لعرف الحاسوب أن الطائرة تتباطأ، ساعتها كان يمكن أن يرسل إشارات خفض المقدمة وزيادة السرعة، ولكن الإشارة الخاطئة الآتية من المجسين جعلت الحاسوب يظن أن الطائرة في الوضع المستوي، ولا حاجة لأي إجراء جديد، وعندما وصلت إلى الحاسوب إشارات التحذير القوية، فقد أصابه ما يشبه الاضطراب أو الصداع الشديد، كونه يتلقى إشارات متضاربة، وبالتالي فإنه استسلم تماماً وأعطى القيادة للقبطان، إلا أنه كان يعطي إشارات خاطئة لدفة التوازن في الذيل، وهو ما زاد الأمر تعقيداً.

النتيجة في كلا الحادثين حتى الآن: أن نظام الحاسوب عندما تأتيه إشارات خاطئة من نظام ما، فإنه يبني سلسلة أحداث متتابعة، ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، طبقاً للإشارات التي جاءته.

بالعودة إلى طائرة كانتاس فوق سينغافورة، فقد أدرك الطاقم بعد سيل جارف من رسائل التحذيرات التي يرسلها الحاسوب، أن هذا العقل الآلي يعيش حالة من الاضطراب نتيجة إشارات خاطئة وصلته.

وجود الطيارَيْن المخضرميْن روبين وإيفانس أحدث الفارق، وكان الخيار الأمثل هو العودة للهبوط في مطار شانغي، ولكن حتى هذا الخيار ينطوي على مخاطرة كبيرة، فالطائرة مصابة بعطل جوهري جسيم، ثم إن بها وزناً زائداً هائلاً كونها ما زالت معبأة بالوقود. والتحدي الثاني كان الخشية من تجاوز حدود المدرج، لأن الحاسب الآلي مضطرب ولا يستطيع أن يقدم خطة صحيحة للهبوط، والحل هو إعداد خطة طوارئ يدوية.

في دقيقة واحدة فقط بعد انفجار المحرك، أعطى الحاسوب خمسين رسالة من الأخطاء والإنذارات

 

حاسوب مجرد من العاطفة.. كيف يحمي براءة الأطفال؟!

لندع الفريق يجهز خطته للهبوط، ولنذهب سوية إلى دنفر في كولورادو، حيث تتجهز طائرة دي سي 10 للإقلاع، في رحلة خطوط شركة يونايتد رقم 232 والمتجهة إلى شيكاغو، وعلى متنها 285 راكباً، بينهم 52 طفلاً.

كان إقلاعاً هادئاً وعادياً، لا شيء يكاد يذكر في الرحلة، غير مناوشات الأطفال ومشاغباتهم، ولم يقطع صمت الجميع إلا صوت انفجار ضخم قام من الخلف، لقد انفجر المحرك المركب على الذيل فجأة، وعلى الفور جاء صوت القبطان عبر مكبرات الصوت: “فقدنا أحد المحركات، ولكن لا بأس، فما زال لدينا محركان، سيكون كل شيء على ما يرام”.

رسائل التطمينات التي أطلقها القبطان ليس بالضرورة أن تكون دقيقة، فالطائرة تنحرف إلى اليمين بشكل مخيف، وعبثاً يحاول الطيارون إعادتها إلى الإتجاه الصحيح، يبدو أن الأمر لا يتعلق بفقدان محرك فقط، بل إن انفجار المحرك قام بقطع كل الوصلات الهيدروليكية، التي بواسطتها يمكن التحكم بالطائرة، كانت الوصلات في زعنفة الذيل، وقد ارتطمت بها الأجزاء المتطايرة من المحرك المنفجر وقطعتها جميعها.

لم يبق أمام فريق الطيران غير التحكم بقوة الدفع والوقود لكل من المحركين المتبقيين أسفل الأجنحة، فصاروا يناوبون بين فتح وإغلاق خوانق المحركين للاحتفاظ بتوازن الطائرة، ولكن أيديهم لا تكفي للتحكم بمجموع الخوانق، بل إنهم يحتاجون إلى مزيد من الأيدي، وكم كانوا محظوظين عندما وجدوا أن أحد الركاب هو مدرب لقيادة طائرة دي سي 10، وبذلك استطاعوا الحفاظ على التوازن.

القرار الآن هو الهبوط، وهم الآن فوق ولاية أيوا، وأقرب مطار لهم هو مطار مدينة سيوكس، “لا بأس، بها مدرج طويل، الآن المطلوب هو تخفيض الارتفاع الهائل وقدره 37000 قدم في الفترة الوجيزة القادمة” يقول القبطان الرئيسي، بينما أتبع ذلك بالتحدث إلى الركاب من خلال الميكروفون: “رسالة تحذير للركاب: مضطرون للهبوط الآن، سيكون هبوطاً قاسياً، كونوا حذرين، وعليكم بالهدوء”.

كانت الطائرة تهبط بسرعة، ولم يكن بمقدور الطاقم التحكم الكامل في سرعتها أو اتجاهها، وعندما تم تحديد المدرج للهبوط، وعلى ارتفاع بضع مئات من الأقدام، انحرفت الطائرة يميناً، وابتعدت عن المدرج، وارتطمت بالأرض ارتطاماً قوياً، وزحفت طويلاً في أحد الحقول قرب المطار، ولقي 111 شخصاً مصرعهم من أصل 296 كانوا على متن الطائرة، ونجا الطيارون الأربعة الذين كانوا في قمرة القيادة، وأثبتوا بشجاعتهم وتصميمهم أنهم يمكن أن يهبطوا بالطائرة بواسطه التحكم بالخوانق فقط، وأن ينقذوا 195 شخصاً من الموت المحقق.

بسبب انفجار المحرك الداخلي اخترقت الشظايا الجناح وتقطعت كثير من الوصلات الكهربائية والهيدروليكية

 

الرهان على الذكاء الاصطناعي.. ليس دائماً

ما حدث في الإيرباص 380 فوق سينغافورة، مشابهٌ كثيراً لما حدث مع الدي سي 10، فانفجار المحرك الداخلي جعل شظاياه تخترق الجناح وتقطع كثيراً من الوصلات الكهربائية والهيدروليكية، وهذا ما اثر على عمل الحاسوب، أما الأمر الخطير الثاني فهو تدمير سدفات الجناح الأيسر، ما جعل التحكم بسرعة الهواء المتدفق أمراً في غاية الصعوبة.

لجأ الطاقم إلى نفس الحيلة التي استخدمها طيارو شركة يونايتد، الخوانق، وصاروا يوزعون قوة الدفع على المحركات الثلاثة المتبقية للحفاظ على التوازن. وكان التحكم بالسرعة أمراً دقيقاً وحيوياً للغاية، فعقدة زائدة من شأنها أن تقذف بالطائرة إلى ما بعد المدرج، وعقدة ناقصة كان من شأنها أن تجعل الطائرة تهوي سقوطاً قبل وصول المدرج.

هبطت الطائرة بشكل مقبول على المدرج، ولكن سرعتها كانت ما زالت عالية جداً، وانحرفت قليلاً إلى اليمين، الطاقم يستخدمون كل قوتهم لتخفيف السرعة بواسطة المكابح التقليدية، وذلك بعد تعطل المكابح الأوتوماتيكية، ثم توقفت الطائرة أخيراً، على بعد 100 متر فقط من نهاية المدرج. تصفيق حاد من الركاب، لا أحد يصدق أنهم نجوا من موت محقق وكارثة أكيدة، ولكن الله سلَّم،

بعد تحقيق دقيق وشامل، تبين أن السبب الأساسي لكل الحادث هو أنبوب زيت به شق دقيق للغاية، كان يتسرب منه الزيت، فاشتعل الزيت وأحدث تفجيراً في أسطوانة توربينة المحرك، مما أحدث انفجاراً هائلاً في كامل المحرك.

وكان الدرس المستفاد من هذه الحادثة وما سبقها، هو أنه عندما بفشل التحكم الآلي في قيادة الطائرة، فالمراهنة تكون فقط على مهارة الطاقم ورباطة جأشهم، كما أثبتت هذه الحوادث وغيرها محدودية الاعتماد على الذكاء الصناعي، والتحكم الأوتوماتيكي في كل الظروف، وأن اليد البشرية في كل الأحوال هي اليد الطولى.

 


إعلان