الشباب العربي وتغيّر طرق التعبير.. تغيرت الأسماء والمطلب واحد
مراد بابعا
من المسرح والسينما إلى الموسيقى مرورا بالرياضة، تختلف طرق الشباب حول العالم في التعبير عن همومه وانشغالاته ونظرته للمستقبل. أشكال تعبيرية جديدة ظهرت، وأخذت منحى مختلفا مع التطور التكنولوجي الذي رافق تطور وسائل التواصل وانتشار الشبكات الاجتماعية.
التعبير عبر الموسيقى طغى في السنوات الأخيرة على هذه الأشكال التعبيرية، وبمشاهدة الفيلم الوثائقي “الراب العربي” الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية، نجد أن الموسيقى أصبحت ملاذا مفضلا للتعبير عن الهموم والمشاكل، وأيضا عن طموحات وتطلعات الشباب العربي.
وقد واكبت هذه الأشكال التعبيرية خروج الشباب في انتفاضات شعبية غيرت ملامح الخريطة السياسية في بلدان عدة، وما زالت دول أخرى تعاني من ضغط هذه الفئة التي أصبحت تشكل قاعدة الهرم السكاني. وبالإضافة إلى الاحتجاج في الشارع، تختلف طرق الشباب العربي في التعبير، وقد لا تلقى اهتماما كافيا من الطبقات السياسية والحكام، ولا تُؤخذ في الغالب بالجدية اللازمة.
فما هي أهم الأشكال التعبيرية لدى فئة الشباب العربي؟ وكيف تطورت في السنوات الأخيرة خصوصا في الدول العربية؟ ولماذا يصعب استيعابها من قبل الساسة والحكام؟ وهل يستطيع السياسيون تكلم لغة شباب هذا العصر؟
الموسيقى.. جسر التعبير بين الأفئدة
شكلت الموسيقى على الدوام، متنفسا للتعبير عن هموم الشعوب، ومرآة تعكس حرارة الشارع ونبض المجتمع. والعالم العربي عرف على مرّ السنوات أصواتا ومجموعات غنائية جعلت المواطن وهمومه محور أغانيها، ففي سبعينيات القرن الماضي ظهرت في المغرب مجموعة “ناس الغيوان” كما تغنى مارسيل خليفة بأشعار محمود درويش، وفي مصر صدح صوت محمد فؤاد نجم والشيخ إمام.
ومع عصر ثورات الربيع العربي، ظلت الموسيقى الملجأ الأول للشباب للتعبير عن همومه، بأشكال وألوان جديدة، فحملت المشعل فرق “الراب” وموسيقى “الأندرغراوند” وأغاني شباب “الألتراس”.
وقد عانت هذه الأشكال الموسيقية في بداياتها من نظرة المجتمع، الذي وضعها في خانة التطرف والخروج عن العادات والتقاليد الاجتماعية، خصوصا أن هذه الأنواع الجديدة جاءت من دول أجنبية وتميزت بنوع من الجرأة والتحرر في التعبير.
وتعتبر أغاني “الراب” القادمة من الولايات المتحدة، أحد أبرز طرق الشباب العربي للتعبير في وقتنا الحالي، من خلال كلمات ثورية غير معهودة توضع في قالب موسيقي سريع وصاخب. وساهمت هذه الأغاني في تشجيع الشباب على الخروج في المظاهرات وإيصال رسائل ضد الحكام والأنظمة السياسية.
وظهرت فرق عربية عديدة إلى جانب فرق “الراب” أو “الهيب هوب” تتغنى بموسيقى ” الأندرغراوند”، حاملة شعارات الثوار والمتمردين.
كما استطاعت فرق “الألتراس” أيضا تحويل ملاعب كرة القدم إلى منصات للتعبير عن الاحتجاج وإظهار الرفض للوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتمكنت مثلا أغنية “في بلادي ظلموني” التي أطلقها جمهور نادي الرجاء البيضاوي لكرة القدم أن تتجاوز حدود المغرب، لتصبح شعارا يتغنى به شباب العديد من الدول العربية للمطالبة بالديمقراطية والتنديد بالقهر والقمع.
الغرافيتي والمسرح.. ملجأ الثوار
تعتبر الكتابات على الجدران من أقدم أشكال التعبير الإنساني، وقد جسدت ذلك النقوش والرسومات في الكهوف وبعض الصخور الضخمة التي ظلت شاهدة على حضارات على مر العصور.
وغالبا ما يلجأ الشباب من أجل التعبير عن همومه إلى الكتابة على الجدران، وتدريجيا تحولت هذه الكتابات إلى فن قائم بذاته يسمى “الغرافيتي”. وارتبط هذا الفن أساسا بالاحتجاجات والتمرد والمقاومة، وظهوره كان أساسا في الولايات المتحدة في نهاية الستينيات، حين غزت كتابات مجموعات “الهيب هوب” الموسيقية جدران المباني والجسور وعربات القطارات. واعتبر في بداية الأمر تخريبا للواجهات وحاربته السلطات، قبل أن يتم تدريجيا تقبله وتخصيص مساحات له في بعض الأحياء، وصولا إلى الاحتفاء به في معارض خاصة، ويصبح فنا مجسدا وناقلا لنبض الشارع.
وقد رافق فن “الغرافيتي” انتفاضات الشارع العربي منذ الثورة الفلسطينية لرفض الاحتلال الإسرائيلي، إلى موجات الربيع العربي، مرورا بعدد من الحروب الأهلية كالتي عاشها لبنان والجزائر.
أما المسرح “أبو الفنون” فله أيضا نصيب في مواكبة احتجاجات الشباب حول العالم، عبر عروض جريئة غير خاضعة للرقابة كما في السينما والتلفزيون، وشكل فرصة لإبراز إبداعات الشباب العربي في زمن شكل فيه “الهجران” العنوان الأبرز لمعاناة الفرق المسرحية.
واستطاعت مجموعة من العروض أن تحقق إقبالا كبيرا، وأن تستقطب شبابا باحثا عن تجسيد واقعه المعاش والحديث بلسانه البسيط عن همومه اليومية. وخلال ثورات الربيع العربي، لاقت عروض لكُتاب ومخرجين شباب في أكثر من بلد عربي شعبية واسعة، نذكر منها مسرحية “زنقة زنقة” للمخرج اللبناني قاسم إسطنبولي، و”وسّع الطريق” لفرقة “دراما تياترو” في مصر، ومسرحية “الثورة غدا تؤجّل إلى البارحة” للسوريين التوأم أحمد ومحمد ملص.
دالي والكنداكة.. ثورات برائحة التاريخ
تميزت سنة 2019 التي ودعناها، باندلاع تظاهرات في دول عربية كلبنان والعراق والسودان والجزائر، وأيضا في مدن وعواصم عالمية كباريس وبرشلونة وهونغ كونغ وكراكاس، وشكلت هذه المظاهرات فضاء لإبداع الشباب في طرق الاحتجاج.
وشكل قناع “وجه دالي” المرتبط بالرسام الاسباني “سالفادور دالي”، أحد رموز الرفض التام للسياسات الحكومية، ووضعه المتظاهرون على وجهوهم في مناطق مختلفة حول العالم، متأثرين باستخدام هذا القناع في السلسلة الاسبانية الشهيرة “لا كاسا دي بابيل”، التي جسدت قصتها الثورة على سلطة المصارف في إسبانيا.
وفي لبنان، تحولت المظاهرات في العديد من الساحات إلى ما يشبه عروضا فنية، امتزجت فيها الأغاني الوطنية بعروض رقصة “الدبكة” الشهيرة، معتبرين ذلك مميزا لثورتهم، وتعبيرا خاصا منهم عن رفضهم للوضع الاجتماعي والاقتصادي.
وخلال ثورة شباب السودان التي أسقطت نظام عمر البشير بعد ثلاثين سنة من الحكم، برز مصطلح “كنداكة”، الذي كان يطلق على الملكات التي حكمت السودان قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، واستعمل في خلال الثورة السودانية للإشارة إلى صمود المرأة وقدرتها على المواجهة وتحقيق الانتصار.
وعرفت فرنسا أيضا خلال تظاهرات “السترات الصفراء” بروز احتجاجات غير مسبوقة من خلال ارتداء هذه السترات لجذب الانتباه لمطالبهم، خصوصا أن هذه السترات الصفراء كانت متاحة بشكل كبير، لأن القانون الفرنسي ألزم جميع السائقين منذ 2008 بأن تكون لديهم سترات عالية الوضوح في سياراتهم أثناء القيادة لاستعمالها أثناء الطوارئ.
وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الحديثة، في حشد المتظاهرين بسرعة وتنسيق الشعارات والمطالب، وذهب المتظاهرون في “هونغ كونغ” مثلا أبعد من ذلك، مبتكرين تطبيقا هاتفيا يدل المتظاهرين على أماكن وجود الشرطة، ويساعدهم على تحديد الشوارع التي أغلقتها السلطات بدقة عالية.
الإعلام البديل.. منبر من لا منبر له
وُصفت مواقع التواصل الاجتماعي بوقود الحركات الاحتجاجية حول العالم، فهي التي ساعدت الشباب في التعبير عن رأيه، ومنحته الفرصة في المشاركة والوعي السياسي والثقافي دون حواجز أو رقابة.
وبلغة الأرقام فإن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر الأول والأساس للأخبار لدى الشباب العربي خلال السنوات الخمس الأخيرة، ويستقي 50% منهم أخبارهم اليومية من “فيسبوك” بحسب استطلاع لرأي الشباب العربي، أنجزته العام الماضي شركة الاستشارات والعلاقات العامة في منطقة الشرق الأوسط “أصداء بي سي دبليو”، وكشف أيضا أن 90% منهم يستعملون يوميا مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذا الفضاء احتضن أغلب دعوات الخروج إلى الشارع التي أطلقها نشطاء الحركات الاحتجاجية منذ ثورات الربيع العربي في 2011، وساهم بالأساس في الكشف عن الحقائق التي يحاول الحكام والسياسيون إخفاءها، ثم الإمداد بالمعلومات والتعريف بأماكن التظاهر.
ومع مرور الوقت، تحولت الدعوات الافتراضية إلى واقع، وانهارت أنظمة واندلعت ثورات، وأصبح القادة والسياسيون يدركون الدور الكبير لهذه الشبكات الاجتماعية في تمرير الأفكار والتأثير المباشر والسريع على آراء الشباب، بعدما كان التخوف المستمر وغير المبرر، هو السائد تجاه هذه الوسيلة واستخداماتها.
ودفع هذا الوعي الجديد بفئة كانت في السابق تستهين بقوة الشبكات الاجتماعية إلى اقتحام هذا الفضاء، في محاولة منها لتحسين صورتها أو استقطاب الشباب إلى صفوفها، أو الحصول على معطيات ومعلومات لا توجد في سجلات الدوائر الأمنية والإدارية.
وشكلت فضيحة “كامبريدج أنالاتيكا” في الولايات المتحدة، إحدى أكبر القضايا التي كشفت الاستغلال الجشع للسياسيين لوسائل التواصل الاجتماعي، عندما وجد الملايين من أصحاب الحسابات على موقع “فيسبوك” بياناتهم الشخصية عرضة للبيع والشراء، دعما لمرشح الرئاسة الأمريكية حينها “دونالد ترمب.”
الشباب العربي.. قاعدة الهرم السكاني الملتهبة
يعود سبب الفوَران الذي تعيشه بعض دول العالم -خصوصا الدول العربية- إلى فشل السياسات والاستراتيجيات الموجهة للشباب، وعجز الحكومات عن مجاراة الطموحات الجامحة لهذه الفئة التي أصبحت تشكل قاعدة الهرم السكاني.
فالشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 يمثلون قرابة ثلث سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفق تقرير “الباروميتر العربي”، وهذا ما يشكل ضغطا على الدول لإيجاد فرص العمل لهذه الفئة النشيطة التي تعاني من آفة البطالة.
ويعاني 30% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 24 عاما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من البطالة بحسب “أصداء بي سي دبليو”، وهي أعلى نسبة في العالم. كما أبدى 89% من الشباب العربي قلقهم من ارتفاع مستويات البطالة في بلدانهم في السنوات المقبلة.
وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن الشباب في الدول العربية ليس متفائلا بالمستقبل، وطرق تعبيره عن ذلك قد تزداد حدة وتطرفا، إذا لم يتم احتضانه والتجاوب معه من طرف الحكومات والسياسيين، وبالتالي تفادي انفجار “بركان غضب” الشباب العربي الذي حذرت منه العديد من التقارير الدولية، حتى في الدول التي عرفت احتجاجات في السابق وهدأت بشكل أو بآخر.