شيفرة البروتيوم.. هل وجد العلماء إكسير الحياة الأبدية؟

حسن العدم
يمكن التعبير عن مفهوم “البروتيوم” بأنه نظام وجود البروتينات في خلية معينة، أو في جزء منها في لحظة معينة، وتحت ظروف محددة، كما يمكن أن يمتد هذا التعبير ليشمل نظام البروتينات في جسم الكائن الحي، في بيئة معينة وتحت ظروف محددة.
وقد بثت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما مهما عن نظام “البروتيوم” تحت عنوان “شيفرة البروتيوم”، نتناول فيما يلي أهم ما استعرضه هذا الفيلم الشائق.
البروتينات.. ثورة العلم الحديث
“البروتيوم” يشتمل على الدعائم الأساسية للحياة، ويسعى العلماء في العالم لكشف أسراره، ويتوقعون بذلك القضاء على كثير من الأمراض المستعصية، وكلما زادت البحوث حول أسرار البروتين في الإنسان، زادت فرص التعرف أكثر على أسرار بعض الأمراض الرئيسية كالزهايمر والسرطان، مما يؤدي إلى زيادة حظوظنا في القضاء عليها.
إن تركيبة البروتين في الخلية لها أهمية كبيرة، وهي حيوية نشطة وتتغير باستمرار تبعا لتغير العمر والعوامل البيئية المصاحبة، على عكس الجينوم التي تعتبر وحدات مثالية لتخزين المعلومات، فاليرقة والفراشة المتخلقتان عنها لهما نفس نظام الجينوم، ولكن الذي أوجد هذا الاختلاف الكلي في الشكل هو تغير بنية “البروتيوم” فيها، وهذا ينطبق على البشر أيضا.
في قسم طب الأطفال في مركز “شاريتيه” في برلين، ترقد “جوانا” البالغة من العمر 3 سنوات، وهي مصابة بسرطان الدم أو اللوكيميا، وتخضع للعلاج الكيميائي الشاق. ثم قررت العائلة بعد نصيحة طبيبها، اتباع طريق آخر في العلاج عن طريق تحليل الجزيئات، يقول والد “جوانا”: في السابق لم نكن نعرف أين ستوصلنا هذه الرحلة، ولكن الآن أصبح كل شيء معلوما.
أما والدتها فتقول: قبل سنة تقريباً كانت الأمور سيئة للغاية، ولم يكن العلاج يعطي النتائج المرجوّة، وبعد دخولنا في عملية العلاج الأخرى، أصبح هناك تحسّن ملحوظ، مستويات الدم جيدة، وعمليات الأيض (العملية المسؤولة عن إنتاج الطّاقة في داخل خلايا الجسم) في تحسن كبير، أصبحنا نرى النور في نهاية النفق.
“أنجيليكا إيغرت” رئيسة قسم طب أورام الأطفال في مركز شارتيه، تقول عن حالة “جوانا”: العلاج الكيميائي التقليدي ليس له القدرة على التمييز بين الخلايا السرطانية الخبيثة والخلايا العادية، ولذلك فله أعراض جانبية خطيرة دائما، وعلى الرغم من أن نسبة الشفاء هي 80%، إلا أن نسبة الوفيات هي 20%، وهذه نسبة كبيرة وخطيرة، وخصوصا في فئة الأطفال، ونحن نطمح إلى نسبة شفاء تصل إلى 100%.

الأورام السرطانية.. التحدي الأكبر للبشرية
في خضمّ التحديات التي يواجهها الأطباء والباحثون في مجال الأورام، فإن الباحث “بيرنهارد كيوستر”، من معهد “فريزنغ” بمدينة ميونيخ، استطاع تصنيف 18000 بروتينا في الجسم البشري، ويقول: البروتينات هي العوامل النشطة في النظام الحي، لأنها تؤمّن عناصر التحكم، كما أنها تؤمّن العناصر البُنيوية للخلايا والأعضاء، إلى جانب تنظيم وضبط كل عوامل الحياة السارية، وبرغم أن الجينوم بُنية مستقرة تُعد الأرشيف الفعلي لأنشطة الحياة، فإن البروتينات تبقى هي العوامل النشطة في الكائن الحي.
ويضيف “كويستر”: أصبح يُنظر إلى الأمراض كالسرطان والسكري مثلا، لا على أساس تأثيرها على الأعضاء المصابة بها، وإنما على أساس نوع من الشذوذ في العمليات الجُزيئية، أي كأنّ الصورة الأولية للأمراض المختلفة واحدة، وهي تشوهات محددة في بنية بروتينات معينة.
في معهد “ماكس بلانك” للأبحاث الكيميائية في ميونخ، يعتبر البروفيسور “ماتياس مان” واحدا من أكثر العلماء المؤثرين في علوم البروتينات، وهو يعتقد أن البروتينات هي العوامل الأكثر أهمية في الجسم، فإذا كان نظام الجينوم هو العامل الرئيسي لتخزين المعلومات، فإن نظام البروتيوم هو العامل الفعال الرئيسي في الجسم، أي أن كل النشاطات الحيوية في الجسم تتم بفعل البروتينات.
كانت المفاهيم في الماضي أن كل جين في الخلية مسؤول عن إنتاج بروتين واحد، ولكن مع تقدم العلم تبين أن الجين الواحد يكون مسؤولا عن تصنيع أكثر من بروتين واحد في الخلية، وذلك بتغيير الأوامر والتراكيب في الحمض النووي “دي إن أيه” (DNA)، وقد أمكن اليوم تصنيف أكثر من مليون بروتين معلوم في الجسم، تُعتبر مطبخ الحياة في الجسم، فهي على سبيل المثال المسؤولة عن تكوين خلايا الأورام، وبالتالي فهي التي تحدد المقاربات التي يلزم اتخاذها في توصيف علاجات هذه الأمراض.

النماذج البروتينية.. خارطة الطريق لمجابهة الأمراض
في حرم الجامعة التقنية في ميونخ، يبحث العلماء في متاهات الخريطة البيولوجية للبروتينات، عن طريقة يمكن من خلالها إنتاج أسلحة يمكن استخدامها لمقاومة بعض الأمراض الخطيرة كالسرطان؛ فهم يولّدون نماذج حاسوبية ثلاثية الأبعاد يمكنهم من خلالها التنبؤ بسلوك وبُنية البروتينات الحقيقية، ويقول “روست”: ما يتمنّاه علماء الأدوية هو بناء هيكل ثلاثي الأبعاد للبروتين يشابه ذلك البروتين المستهدف في الدواء المصنوع، هذه هي الخطوة الأولى، ولكنها قد تستغرق 10 سنوات لإنتاج هذا المجسم المماثل، من يدري؟ فبعض هذه الهياكل قد تستغرق فقط ثلاثة أشهر.
بالعودة إلى مركز “شاريتيه” للعلاج، فإن الطفلة “جوانا” تتناول دواء محددا لمهاجمة خلايا السرطان، دون الحاجة إلى العلاج الكيميائي. ويقول الطبيب المعالج إنه ما زال يجمع البراهين التي تؤيد استخدامه لهذا الدواء ليقدمها في مؤتمر قادم عن مرض السرطان، ويقول إن استجابة مجموعة من المرضى لهذا الدواء يعطي جرعة من الثقة للمضي قُدما في تقديم براهين أكثر على نجاعة هذا الدواء.
وتقول “إيغرت”: إن نسبة نجاح مثل هذه الأساليب العلاجية الحديثة لها فرصة أكبر عند الأطفال، كونهم لم يتأثروا بعد بعوامل بيئية محددة طويلة الأمد، يكون تأثيرها في مجال كبار السن أكبر، فجدران خلايا الورم تتأثر مع العمر بهذه العوامل البيئية، مما يزيد تعقيد البحث في البروتينات المستهدفة في العلاج.

مفاهيم جديدة للمرض والصحة
ويقول البروفيسور “ديفيد أيغوس” الأخصائي في مجال السرطان، وصاحب معهد في جامعة كاليفورنيا الجنوبية: “إن اكتشاف البروتينات يوفر لدينا فرصة أكبر للتعبير عن مفهوم المرض والصحة”. ففي تجربة أجريت على عدد من النساء المصابات بسرطان الثدي في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث، أعطيت لهن الجرعة العلاجية المعتادة، وفي هذه الحالة سوف يتماثلن للشفاء لفترة معينة ثم يعاود السرطان وجوده، وهكذا يعطين الجرعة الثانية.
في تلك التجربة، وبعد الجرعة الأولى أُعطي لنصف النساء دواء يعالج هشاشة العظام، وأعطي للنصف الآخر دواء وهمي ليس له أثر معين. النتيجة المدهشة كانت أن 40% من النساء اللائي أعطين دواء هشاشة العظام لم يعد السرطان للظهور لديهن. وهنا يعلق البروفيسور “إيغوس” على هذه النتيجة أنه إذا غيّرت التربة فلن تنمو البذور من جديد، فالاستراتيجية الجديدة هي مهاجمة البيئة التي تنمو فيها الخلايا الورميّة، وليس الخلايا نفسها.
“سابين غروسمان” امرأة مصابة بسرطان الرحم منذ ست سنوات، وقد عولجت في البداية بإجراء عملية جراحية لاستئصال الورم، ولكن لم تنتهِ المشكلة، بل إن ارتدادات الخلايا الورميّة ومراوغتها المستمرة للعلاج قد فاقمت الوضع لدى “سابين”، وهنا اضطر الأطباء لإعطائها جرعات من العلاج الكيميائي، واضطرت للمكوث فترات طويلة في المستشفى. تقول سابين: كان ذلك صعبا للغاية في البداية، ولكنني مع مرور الوقت تقبلته وتعايشت معه.

ذكاء خلايا السرطان.. هل يصبح الكيميائي شيئا من الماضي؟
في عيادة “بنجامين فرانكلين” حيث تتلقى “سابين” علاجها، يتحدث الطبيب المعالج عن طريقة أخرى للعلاج من خلال ما يسمى بالعلاج المستهدف، إذ يكافح هذا العلاج المستهدف خلايا الورم على المستوى الجزيئي، فالبروتينات مسؤولة عن نمو الخلايا الورميّة عن طريق إرسال إشارات نمو لهذه الخلايا، فهدفنا هو ضرب هذه الإشارات وتقليل حركة تدفقها، أو حتى إيقافها كليا.
في مركز “شاريتيه” لعلاج السرطان يجتمع العلماء من جميع التخصصات، منهم البيولوجيون والأطباء وعلماء الكمبيوتر والمعلومات في مؤتمر الأورام السريرية والجزيئية، وذلك لمناقشة استراتيجية مشتركة لضرب مكامن القوة في الخلايا الورميّة، والهدف هو بناء نماذج للبروتينات المتغيرة باستمرار. يصف الباحث “أولريش كيلهولز” هذه الاستراتيجية، ويقول إنها مَبنيّة على محاولة فهم الخلايا الورميّة وكيفية نموها وتمددها، وليس فقط ضربها والقضاء عليها كما في السابق.
فالخلايا الورميّة ذكية لدرجة أنها كانت تبني آليات جديدة ومتطورة لامتصاص العلاج الكيميائي وتعطيل كفاءته، ولذ فإن العلماء في المختبرات التابعة لمركز “شاريتيه” يُجرون تحليلا تقليديا في البداية على الأنسجة المصابة بالورم وفصل الأورام الحميدة عن الخبيثة، ثم يأتي دور التحاليل الجزيئية الجديدة التي تدرس بدقة التغيرات المحددة التي حصلت على بُنية الخلية المصابة، ثم يحصل كل ورم لمصاب على توصيف جزيئي محدد، يميزه عن التوصيف الجزيئي لمصاب آخر.

“يوني بروت”.. بنك معلوماتي لبروتينات الكائنات الحية
هذا الكم الهائل من المعلومات عن كل ورم، وفي كل عضو مختلف لكل مصاب، يتيح تشخيصا أفضل، وبالتالي وصف علاج أنجع لكل حالة، ولكنه أفرز الحاجة الماسة لوجود حاسبات عملاقة فائقة القدرات على التخزين والتحليل، وكذلك الحاجة الماسة لخبراء المعلوماتية الحيوية، وكان الحل الأسرع في سويسرا، حيث يوجد أكبر بنك معلوماتي “يوني بروت”، يضم نماذج آلاف البروتينات للكائنات الحية، بالإضافة إلى وظائفها الحيوية.
وفي الصين التي يبلغ عدد سكانها ما يقارب مليارا ونصف مليار إنسان، وبحسب مقارنة نسبية مع سكان بلدان أخرى، فإنه يفترض أن يكون فيها (أي الصين) حوالي 30 مليون إصابة بالأمراض السرطانية، ولهذا فقد استثمرت مليارين ونصف مليار من الدولارات في بناء مجمع علمي جديد.
يقول جون كين، وهو عالم في مركز أبحاث البروتيوم في بكين: في هذا المجمع خصصنا الطابق الأول بالكامل لمطياف الكتلة، بينما تم تخصيص الطابقين الثاني والثالث لعلم الأحياء الرطبة وعلم أحياء الخلية، في حين يحتوي الطابق الرابع بالكامل على الحاسوب الخارق، ونظم المعلوماتية الحيوية.

مطياف الكتلة.. قفزة نوعية هائلة
في معهد ماكس بلانك في برلين، يقوم “هانز ريليش” ببحثه عن السمات المطابقة الجزيئية لكل ورم، وإعداد نماذج حاسوبية لهذه الجزيئات، ومن ثم يكون بالإمكان تجريب عدد كبير من الأدوية والتراكيب العلاجية على هذه النماذج، ثم اختيار الأنجع منها وتجريبه على المريض، ففي هذه التجربة يمكن تجريب عشرات الآلاف من الأدوية، والتي بالطبع لا يمكن تجريبها كلها على المريض نفسه.
“ماتياس مان” -وهو رائد في التعرف على نظام البروتيوم- استخدم مطياف الكتلة لقياس كتلة البروتينات المختلفة، فكانت قفزة نوعية هائلة لوضع توصيف دقيق لأكثر من عشرة آلاف بروتين، وصارت تستخدم كموسوعة مرجعية يستخدمها العلماء في كل أنحاء العالم. أما قبل هذه التقنية، فقد كان من المتعذر التعرف على أكثر من آحاد منها، نتيجة لخمول البروتينات وبطء حركتها.
يضاف هذا إلى ما اكتشفه “كيوستر” وفريقه الذين استطاعوا التعرف على 18000 بروتين، وهم يعملون الآن على وضع خارطة “البروتيوم”، التي تبين أماكن وجود كل بروتين في الأعضاء المختلفة للجسم، وعددها في كل عضو، وتوصيف نشاطاتها الحيوية الدقيقة.

أطلس الخلايا.. وداعاً للزهايمر
أصبح لدى العلماء على مستوى العالم تصور مفاده أن دراسة أنظمة البرتيومات مهمة للغاية في رسم خريطة لجميع الأمراض التي تصيب الأعضاء البشرية وطرق علاجها. وفي أدنبره بأسكتلندا، يعكف العلماء على دراسة “البروتيوم” من أجل مواجهة المشاكل التي تصيب الدماغ البشري بشكل خاص، فقد أمكن توصيف 130 مرضا تصيب الدماغ نتيجة دراسة مستفيضة لسلوك البروتينات المختلفة الموجودة في نقاط الاشتباك العصبية.
يقول”جورج تشيرش” عالم الجينات بجامعة هارفارد الذي قام بتطوير علم الأحياء الصناعية: نحن بصدد إعداد أطلس للأنواع المختلفة من الخلايا في الجسم، يُحدّد مكانها، ويُحدد طريقة ارتباطها ببعضها، وهذا ليس فقط خريطة طريق بقدر ما هو كتاب وصفات لصناعة كل خلية في أي عضو بحسب الطلب، ويمكن تصنيع البروتينات في المختبر، وتسليمها للشخص أو تصنيعها داخل الجسم البشري ذاته.

تكنولوجيا النانو.. المعايير الدينية والأخلاقية
بعد كل ما ذكرنا من الجموح العلمي والتطور في تتبع الخلايا، يأتي دور المؤسسات الدينية والأخلاقية، هل نحن بحاجة لكل هذا؟
إن تكنولوجيا النانو تتيح الآن تسيير آلات دقيقة عبر شراييننا ومن خلال دمنا، تخبرنا عن حالتنا الصحية لحظة بلحظة، عن منسوب الكوليسترول، وقياس ضغط الدم، بل وحجز موعد وغرفة في المستشفى بسبب نوبة قلبية متوقعة، وقد يتطور الأمر بعد عقود ونتمكن من تصنيع الدواء اللازم لمرض ما داخل الجسم نفسه، ولكن هل نحن بحاجة لكل هذا؟ هل سيمنع هذا عنا الموت؟ بل هل سنتجنب أقدار الله في إصابة ما أو مرض لم تصل له نظمنا المعلوماتية؟
البروتينات أشبه ما تكون بالمحادثات والكلمات داخل الجسم، أصبح بإمكاننا تمييز ما إذا كانت المحادثة تسير بشكل جيد، أو أن هنالك “صراخا” ما في موضع معين من الجسم. لقد كان اكتشاف الحمض النووي في منتصف القرن الماضي يشبه الثورة العلمية الحقيقية في توصيف الحالة الوراثية للجسم البشري، أما مع اكتشاف نظام “البروتيوم” في مطلع هذا القرن فنحن لا نصِف ما قد يحدث فحسب، بل نصف ما يحدث فعلا.
وبتطور نظام البروتيوم وإعداد خريطة كونية عن البروتينات وخصائصها ومهامها، أصبح في مقدور العلماء التعرف على خصائص أورام معينة ومحاربتها والقضاء عليها، وصار في مقدور بعض العلماء تخيل شطحات علمية جريئة هدفها الحد من أعراض الشيخوخة، بل وإطالة العمر، يستذكرون بذلك شطحات الفلاسفة الأولين في صناعة “إكسير الحياة” الذي يقضي على الموت.