“شاهدُ بوتين”.. انتقال كبير مفاجئ في روسيا عشية التقاء الألفيتين

خاص-الوثائقية

كثير من رجال الإعلام والصحافة تسوقهم مهنتهم إلى مرافقة بعض الساسة ورجال الدولة ردحا من الزمن، ويتحول معظمهم مع مرور الوقت إلى شهود عيان على فترة معينة من تاريخ الأشخاص والبلدان.

كان صاحبنا “فيتالي” مخرج هذا الفيلم شاهد عيان على روسيا الحديثة، بعد زوال الاتحاد السوفياتي، فقد رافق “يلتسن” و”بوتين”، وسجّل في هذا الفيلم في السنة الأولى من حكم بوتين، وعنوانه (شاهدُ بوتين).

 

روسيا القرن العشرين.. تغيّرات عظيمة بدون مفاجآت

منذ قرون تعد أجراس الكريملن الدقائق والساعات، ليطرأ أهم تغيير على مر العصور، للذين يجهلون هذا أو تناسوا الأمر، سأذكركم بأن التغيير في روسيا القرن العشرين كان عاديا على نحو مفاجئ، ففي عام 1917 حلت الحكومة الشيوعية محل القيصر واستمرت سبعين سنة، وبعد هيكلة “غورباتشوف” (البيروسترويكا) أطاح الشعب بالشيوعيين، واختار “يلتسن” طريق الديمقراطية.

ورغم الحرية فقد تعرضت البلاد لأزمات اقتصادية خانقة واندلعت الحرب الشيشانية، وبما أنني مخرج أفلام وثائقية فقد قمت بتسجيل الأحداث حولي بصورة مكثفة، وأريد أن أقدم لكم الآن ما شهدته أنا، حيث يسرد هذا الفيلم أحداث سنة واحدة، من يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 1999 وحتى يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2000.

وبينما مخرج الفيلم وعائلته يحتفلون بليلة رأس السنة، وقبل عشر دقائق من منتصف الليلة الفاصلة بين القرن العشرين والحادي والعشرين، ظهر “بوريس يلتسن” على شاشة التلفاز ليعلن استقالته من منصبه، وتفويض أعماله للقائم بأعمال الرئيس، “فلاديمير فلادميروفتش بوتين” رئيس الحكومة الحالي.

تقول “ناتاليا مانسكي” زوجة المخرج “فيتالي” وهو يلاحقها بكاميرته: اتركني أرجوك، لماذا تلاحقني هكذا؟ تريدني أن أتكلم بلباقة وديبلوماسية أمام الكاميرا؟ سأقول لك: برحيل “يلتسن” يكون قد انقضى عهد السعادة، وجاء مع “بوتين” عصر أكثر صلابة وقسوة، برحيل “يلتسن” نكون قد ودّعنا المدينة الفاضلة، أنا عاجزة عن التعبير أكثر، أريد أن أبكي، اتركني أرجوك.

في وسط احتفالات ليلة رأس السنة 1999، يعلن يلتسن تنحيه عن السلطة في البلاد

 

عشية الألفية الجديدة.. رئيسان في ليلة رأس السنة

“أنتم تستحقون السعادة والهدوء، سنة جديدة سعيدة، قرنا جديدا سعيدا، وداعا يا أعزائي”.. بهذه الكلمات ختم “يلتسن” خطابه للشعب الروسي، وبها ختم حياته السياسية كزعيم لروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبكلمات مشابهة ابتدأ عهد “بوتين” الذي تحدث أيضا في خطاب مقتضب عن الشروع في انتخابات رئاسية بعد ثلاثة أشهر.

بهذا يكون “بوتين” قد تولى إدارة البلاد بعد استقالة طوعية قدمها الرئيس السابق “يلتسن”، فتولى شؤون الدولة ودستورها وألوان علمها ونشيدها الوطني، وهذه هي الرموز الأساسية لروسيا الديموقراطية الجديدة، حيث أصبحت الرموز السوفياتية القديمة جزءا من الماضي، وكان اختيار تلك الليلة موفقا، فقد كان الناس مشغولين حد الثمالة باحتفالات رأس السنة، ولا وقت لديهم للتفكير في السياسة.

يقول المخرج: كنت قد بدأت في تلك الأيام بإخراج فيلم لدعم حملة “بوتين” الانتخابية، والكثير من المقاطع في هذه الشهادة مأخوذة من ذلك الفيلم، في تلك الفترة الانتقالية استطاع “بوتين” أن يحدد بالضبط ما يحبه الناس في شخصيته وما يكرهونه.

“كان هدفنا الرئيس أن ندفع الناس لتصديق كل ما نقوله ونفعله، أنا أعتز بهذا المنصب، وهدفي هو مصلحة البلاد”، قالها بوتين معتبرا أن المصلحة العامة أهم من المصالح الفردية.

في تلك الأثناء كانت حملة “بوتين” في أوجها، رغم أنه لم يفصح عن رغبته في خوض الانتخابات، فقد كان يظهر في القنوات التلفزيونية، وتتناوله كل التقارير الصحفية، ويتحدث عنه كل المحافظين ورجال الكريملن والمنظمات العمالية وكل شرائح المجتمع، كان الجميع مسرورين به، وقد قام المهنيون الإعلاميون بتعديل صورته في ذهنية المجتمع؛ من الرجل الصلب القاسي إلى الوجه المشرق السعيد.

ورغم ذلك فقد كان العنصر الرئيس في المعركة الانتخابية هو الاعتماد على الجيش والتخويف من تهديد أمن روسيا القومي، لذا فقد قضى “بوتين” وقتا في مدينة الأبطال فولغوغراد يدافع عن أرض الأجداد، وتواصل مع المحاربين القدامى في ستالينغراد، والتقى بأبطال الحرب التي انتصروا فيها حديثا في الشيشان، وقد خاطبهم قائلا: “أود أن أنتهز الفرصة لأشكر الحاضرين هنا في فولغوغراد على دعمهم لجيشنا”.

توني بلير البريطاني يزور روسيا قبيل الانتخابات فيعطي دعما معنويا لبوتين

 

“حان وقت الفوز”.. كلمة معلمة “بوتين” التي اتخذها شعارا لحملته

يقول المخرج: خلال الحملة قمت بدراسة شخصية “بوتين” جيدا، وبدا لي أن هنالك أشخاصا كان لهم أكبر الأثر في تشكيلها، وفي مقدمتهم معلمته في المدرسة في سانت بطرسبرغ، لذا أشرت عليه أن يزورها في الصف.

وسرعان ما ذهب “بوتين” إلى مسقط رأسه هناك، حيث صادف زيارة “توني بلير” رئيس وزراء بريطانيا للمدينة بمناسبة الذكرى السنوية لانتصار الحلفاء، وقد صبّت هذه الزيارة في صالح حملته الانتخابية، حيث بدا دعم “بلير” -ومن خلفه زعماء أوروبا الغربية- واضحا لبوتين.

ولك أن تتخيل المشاعر المختلطة لشخص عاش في شقة مشتركة في هذه المدينة، ثم زارها لاحقا وعليه ملامح القيصر، وقد دخل نادي قادة العالم بسرعة البرق.

ثم توجه إلى منزل معلمته وكان لقاء مفعما بالدفء، فقد جرى الإعداد للزيارة بعناية فائقة، وقامت وسائل الإعلام المختلفة بترويجها على أنها لفتة إنسانية لطيفة من رئيس البلاد القادم، وهو برد الجميل إلى من علموه وأثّروا في شخصيته.

لكن المعلمة لم تنس أن تلقنه درسا مهما، إذ قالت له: لا تنس أن تتصل بي بعد فوزك، لقد وعدتني مرة أن تأخذني بسيارتك ونسيتَ، وفاتني القطار فتأخرتُ عن موعد دوامي.

أما زوج معلمته فقد أعطاه درسا سياسيا من نوع آخر، وربما هو الدرس الذي لم ينسه “بوتين” طوال حياته، فقد قال له: “البلاد مثل الحديقة في منزلك، يجب أن تتخلص من الأعشاب الضارة، من أجل أن تنمو الأزهار والثمار التي تحبها”. ثم ودّعته المعلمة وهي تقول: “حان وقت الفوز”، وهي العبارة التي استخدمها “بوتين” شعارا لحملته الانتخابية.

 

انفجارات في مناطق مختلفة تسبق انتخابات رئاسة بوتين، فهل كان هو من دبرها؟

 

“سنتولى طردهم”.. بوتين يحجز مقعده في الكريملن

خلال شهري الدعاية الانتخابية القصيرة نسبيا تمكن بوتين من زيارة كل أنحاء روسيا تقريبا، وفي الثامن من مارس يوم المرأة العالمي لم يفت بوتين أن يزور مدينة النساجات الروسيات إيفانوفو، واصطحب معه جمعا من الصحفيين والإعلاميين وقنوات التلفزيون لتغطية الزيارة، وبدا أن “بوتين” لم يترك خيارات أخرى كثيرة للناخبين بعد هذا الكم من الزيارات النوعية.

وعند سؤاله عن المناظرات التلفزيونية أجاب “بوتين”: الأعمال على الأرض أهم من تضييع الوقت في الكلام على الشاشات أو وسائل الدعاية الأخرى، ربما كانت بضائع مثل سنيكرز أو تومباكس أهم للمشاهد من رؤية المناظرات الانتخابية.

يقول مخرج الفيلم الشاهد على هذه الفترة: لم يخض “بوتين” أي مناظرة، وهذا كان له أكبر الأثر في نجاحه، لأن فريقه استغل هذه النقطة للحط من خصومه.

لكن حملته الانتخابية الفعلية كانت قد بدأت قبل أن يشغل منصب القائم بأعمال الرئيس، كان ذلك في 8 سبتمبر/أيلول 1999، وتحديدا في تمام الساعة 23:59 مساء، في هذا الوقت كانت هنالك أكياس مليئة بمادة “الهايكسوجين”، أدت إلى انفجار مبنى سكني في إحدى ضواحي موسكو، وتلاه انفجار مبنى آخر بعد خمسة أيام، ثم اندلعت الانفجارات في أنحاء البلاد واستهدفت المباني والشوارع.

عمّ الخوف في البلاد، وحينها ظهر رجل استقطب انتباه الجميع، وصار الناس يطالبون بتدخل هذه الشخصية الصلبة، وبعدها عُين “بوتين” كسادس رئيس للحكومة في عهد “يلتسن”، ورغم أنه لم يكن شخصية ظاهرة آنذاك، فإن هذه الانفجارات صبَّت في صالح شعبيته بواقع أكثر من 50%، خلال الشهور الستة التالية، وطارت مقولة “سنتولى طردهم” في آفاق البلاد كشعار لتلك المرحلة.

يقول “فيتالي” مخرج الفيلم: للتوضيح فإنني لم أشك منذ اللحظة الأولى وحتى الآن أن بوتين كان وراء هذه التفجيرات.

وأثناء زيارته للمبنى المنفجر عشية أول يوم استلم مهام عمله كرئيس للحكومة، تلقى “بوتين” سؤالا مفاجئا من أحد الصحفيين: “هل تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة؟” وكان رد فعله مثيرا للاهتمام، ثم قال: “لا أجد غاية تبرر فعلا شنيعا مثل هذا، إنها قسوة غير إنسانية، والقوة هي الرد الوحيد”.

الكريملن يعود إلى الشيوعية بفوز بوتين في انتخابات الرئاسة الروسية

 

يوم الانتخابات.. عودة الكريملن من الشيوعية إلى القيصر

بينما يستعد المخرج “فيتالي” وزوجته للتوجه إلى مركز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، كان ثمة صحفيون من كل أنحاء العالم يغطون هذا الحدث الهام؛ أحدهم كان ينقل الحدث من على أنقاض أحد المباني التي فجرت قبل ستة أشهر ويقول: لم يبق هنا في كاسيرسكوي شوسي إلا كنيسة وبقايا صور تذكر بالحادث المروع، ومدرسة تحولت إلى مركز اقتراع. لسنا بحاجة لحملة انتخابية، البلد تحتاج رجلا قويا.

يسأل فيتالي زوجته وهي تهم بالخروج من المنزل: “هل تعتقدين أن أصواتنا بتلك الأهمية؟”، فتجيب زوجته: “ليس بالضرورة أن تكون مهمة، المهم أننا لن نعطيها للشيوعيين، ثم هذه أول مرة يحق لنا فيها الانتخاب، وتظهر أسماؤنا في كشوف الناخبين بشكل رسمي”.

كان هناك جمع هائل من الصحفيين في مركز الاقتراع الذي أدلى فيه “بوتين” وزوجته بصوتيهما، وقد سأله أحد الصحفيين حول احتمال حدوث حرب قريبة في الشيشان، فأجاب “بوتين” قائلا: لا ينوي الشيشانيون إلقاء أسلحتهم، ولا يستغلون الفرص العديدة التي أعطاهم إياها البرلمان، ولا يستفيدون حتى من قانون العفو، إذا هم يعلنون الحرب، ونحن مستعدون لذلك وسنهزمهم، وستجري انتخابات قريبا في الشيشان.

وعقب مغادرة “بوتين” انفض جميع الصحفيين إلا صحفية فرنسية، اقتنصت فرصة رؤية “ميخائيل غورباتشوف” الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي، وسألته لمن سيعطي صوته، ولكنه تهرب من الإجابة، وبعد أن وضع ورقته في الصندوق آثر أن يلتقي بالرفاق القدامى ويحتسي معهم الشراب في قاعة مجاورة، وداعب الحضور قائلا: لو بقيت أمينا عاما للحزب لما ظهر منصب الرئيس إلى الوجود.

الرئيس يلتسن يتابع نتائج الانتخابات بعد تنحيه ويترتقب فوز تلميذه بوتين

 

من “يلتسن” إلى وريثه.. “والآن جاء دور فلاديمير”

كان الرئيس السابق “يلتسن” يتابع النتائج الأولية في منزله على التلفاز، وكان يبدو عليه الاسترخاء وهو يقول لأفراد عائلته: آن لي أن أستريح، كان أمرا عسيرا أن تحمل مسؤولية روسيا بأكملها على عاتقك، كان علي أن أوقع آلاف الأوراق كل يوم، وأن أقوم بأعمال كثيرة، والآن جاء دور “فلاديمير”، لقد أعطيته أسبقية ستة أشهر على منافسيه.

سألت زوجة “يلتسن” عن “بوتين” عندما عُرِضت عليه الرئاسة “هل أبدى معارضة عندما فاتحته بالأمر؟”، فأجابها “يلتسن” بأنه أبدى معارضة في البداية، “ولكنني أقنعته، لقد كان رجلا صاحب أعمال، ولا يحب الكلام والظهور على الشاشات فقط، زار البلاد طولا وعرضا، واستمع إلى شكاوى العمال والعاملات”. ثم انتقل “يلتسن” إلى غرفة التلفاز ليتابع النتائج عن كثب.

على الشاشة ظهر مذيع إحدى القنوات مرحبا بضيفه “غورباتشوف” فأشاح “يلتسن” بوجهه متبرما: “سئمت هذا، إلى متى يبقى هذا الرجل يثرثر على الشاشات؟”، بينما كانت “تاتيانا” ابنته تطمئنه: “سوف تظهر النتائج عما قليل يا أبي”. و”تاتيانا” هذه لعبت دورا محوريا في أواخر فترة حكم أبيها، حينما عانى من مشاكل صحية، وكان لها دور كبير في تقديم “بوتين” إلى الشعب.

كان مقر حملة “بوتين” أكبر مقر إداري في البلاد، وضم بين جنباته أهم رجال روسيا في ذلك الوقت على الإطلاق، وكان “ديميتري ميدفيدف” هو مدير حملته الانتخابية، وكان مرؤوسا له غير معروف في بيترزبيرغ. وكان بقية أعضاء الحملة خبراء سياسيين ومهنيين استغلوا كافة الموارد والقدرات الفيدرالية لصالح مرشحهم.

يلتسن يتصل ببوتين لتهنئته بالفوز، لكن الأخير لم يجب على اتصاله أبدا

 

“هنيئا لروسيا”.. تنكر الولد العاق لصانع مجده

“والآن سوف أطلعكم على النتائج الحالية: فلاديمير بوتين 51.2%، جينادي زيوغانوف 28.4%، غريغوري يافلنسكي 7%، وبهذا يمكننا القول بأن الانتخابات تمت”، هكذا أنهى المذيع قراءة الخبر، بينما شرعت “تاتيانا” بتوزيع أقداح الشراب على أبيها وبقية أفراد عائلتها بينما كانت عيناها تلمعان فرحا بهذا النصر الشخصي الذي أحرزوه، لقد اختاره أبوها لخلافته من بين عشرين مرشحا.

كان أول من اتصل به “يلتسن” هو “فالنتين يوماتشوف” رئيس الحكومة السابق إبان فترة حكمه، لقد هنأه “يلتسن” وشكره على كل ما صنع، ثم اقترح أفراد العائلة عليه أن يهاتف “بوتين”، فتوجه إلى سماعة الهاتف وتواصل مع مقر حملته، فأخبروه أنهم سيعاودون الاتصال به لحظة وجود “بوتين” قرب الهاتف، فوضع السماعة وجلس ينتظر.

طال انتظار “يلتسن” ولم يعاود “بوتين” الاتصال، لقد مضت قرابة ساعتين ولم يتصل، قالوا له: ربما يكون هنا أو هناك، لكن “يلتسن” قال لهم: “إنه يتكبر، كفانا انتظارا، لن يتصل، هنيئا لروسيا بهذه الانتخابات”. ثم وجه يلتسن حديثه لمخرج الفيلم، ولرجال الإعلام الحاضرين، وقال: “هنيئا للإعلام الحر”، وتركهم وانسحب.

فريق حملة انتخابات بوتين من السياسيين والمخضرمين، تحول أكثرهم إلى معارضة بعد ذلك، وتم تصفية البعض جسديا

 

الثورة تأكل أبناءها.. بوتين يسحق من حملوه إلى العرش

يحسن بي أن أطلعكم على قائمة الأشخاص الذين دعموا بوتين في حملته:

–         “ميخائيل ليسين” وزير الصحافة الروسي، ومالك أكبر شركة إعلانات في البلاد، وقد تولت وزارته حشد كل وسائل الإعلام والتلفزة للترويج لحملة “بوتين”.

–         “غليب بافلوفسكي”، وهو منشق عن الاتحاد السوفياتي، والمستشار السياسي الأول في الكريملن خلال حقبة الألفين، وقد تحول بعد 12 سنة من حكم “بوتين” إلى المعارضة.

–         “كيسينا بونوماريوفا” المديرة السابقة للقناة الأولى الروسية، ونائبة مدير الحملة الانتخابية، وقد انتقلت في 2016 إلى المعارضة، وتوفيت عن 54 عاما.

–         “ميخائيل كاسيانوف” رئيس وزراء روسيا في فترة “بوتين” الرئاسية الأولى، وانتقل إلى المعارضة لاحقا، وقد تعرض للإهانة والاضطهاد علنا بتسريب تصوير لحياته الحميمة على التلفاز.

–         “فلادسلاف سركوف”، وقد تولى مناصب هامة بين 2000 و2013، وكان الأيديولوجي الرئيسي في الكريملن، لكن أنزلت رتبته بعد انتخاب “بوتين” للفترة الثالثة.

–         “فالنتين يوماشيف” رئيس إدارة “يلتسن” السابق، وكان أول شخص تحدث إليه “يلتسن” بعد إعلان نتائج الانتخابات، وفي عام 2002 سجّل زواجه من “تاتيانا” ابنة “يلتسن”.

–         “أناتولي تشوبايس”، وهو أحد مطوري الإصلاح الاقتصادي في روسيا، وقائد الفصيل اليميني الديمقراطي في البرلمان. في فترة “بوتين” الثانية لم يدخل الديمقراطيون البرلمان، وانضم إلى المعارضة.

خطاب بوتين الأول بعيد انتخابه رئيسا في عام 1999

 

بريق السلطة.. يوم كعشرين عاما

في أول تصريح بعد فوزه قال “بوتين”: كان آخر أحلامي أن أكون رئيسا، وللحقيقة فالمشاركة في الانتخابات عمل قذر، إذ يضطر المرشحون فيها إلى الكذب على الناخبين، والمزايدة على خصومهم المرشحين، وأنا أعتقد بأنني كنت أتجاوز هذا عندما كنت أعمل بصمت وأقترب من هموم الناس، لم يكن يهمني الظهور الإعلامي ولا المناظرات التلفزيونية، عملت ما بوسعي لرفعة البلاد.

ثم توجه “بوتين” بالشكر إلى أعضاء حملته، وشرب الجميع نخب الفوز، وبينما كان فريق “بوتين” في قمة فرحهم وصخبهم، كان صوت “بوريس نيمتسوف” يأتي من جهاز التلفاز المجاور: أنا من تحالف قوى اليمين، اتخذنا قرارا صعبا بدعم “بوتين” رغم امتناعي عن التصويت، لا أعلم كيف سيتعامل بوتين مع الملف الاقتصادي للبلاد، ولكنني على يقين أنه ملف صعب وتحوم حوله الشكوك.

كان يوم غد الذي تلا الانتخابات طويلا جدا، واستمر عشرين سنة حتى الآن، وتخللته أحداث غريبة، ففي خريف 2015 عثر على جثة المليونير “ليسين”، مصابا بضربات عنيفة على الرأس في فندق متواضع في واشنطن، وفي شتاء السنة ذاتها تعرض “بوريس نيمتسوف” زعيم المعارضة إلى إطلاق نار عند حائط الكريملن.

الغريب أن معظم الذين دعموا بوتين في حملته الانتخابية قد تحولوا إلى المعارضة، أو أقيلوا أو قتلوا، والوحيد الذي بقي معه هو “ميدفيدف” الذي تولى الرئاسة بين فترتي “بوتين” الثانية والثالثة.

وصل “بوتين” إلى السلطة بسرعة البرق، وخضعت البلاد لقائدها الجديد. لم تكن روسيا قد سمعت بعد بمفهوم السلطة العمودية، لكن كل المؤسسات بدءا من البرلمان وانتهاء بالشركات قد خضعت لقوة واحدة.

بوتين يغير النشيد الوطني لروسيا

 

رائحة الحنين إلى الماضي.. عزف على أوتار عواطف الشعب

بدا شبح الماضي يلوح في الأفق من جديد، وخفتت أصوات المعارضة، بل إن “بوتين” لم يتردد في وصف سقوط الاتحاد السوفياتي بأنه أكبر مصيبة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين. “خلال تصوير شهادتي عن بوتين، وفيلم آخر عن الكريملين، لم أعهد تغيرا جذريا حصل خلال السنة الأولى”.

حصلت بعض التغييرات الطفيفة، منها إرجاع راية النصر على الفاشية إلى الجيش الروسي، وهي بالطبع راية السوفيات الحمراء ذات المنجل والمطرقة، وخرج الفوج الرئاسي للكريملن تحت تلك الراية. وعين “إيغور سييشن” في الدائرة الرئاسية، وهو صاحب الدور الأبرز في إخضاع الشركات لنفوذ الرئيس، وسجن “خدوركفسكي” وترأس شركة النفط التي قامت على أنقاض شركته.

يقول الشاهد “فيتالي” مخرج الفيلم: ظهرت نتيجة عملي فيلما رسميا بثته القناة الرئيسية بمناسبة مرور سنة على تولي “بوتين” للرئاسة، وقد عرض في عدة دول، وكان ناضجا ويظهر الكثير من التفاصيل الخفية، وبقيت هنالك بعض المشاهد خلف الكواليس، لم تظهر في الفيلم، منها هذا المشهد:

يقول الرئيس: أريد أن أحدثك عن بعض معاناة الناس، زرت لينسك وهناك قابلت سيدة في منتصف العمر، قالت لي أعد لنا ما مضى، الناس لديهم حنين إلى الماضي، بالطبع لا أستطيع إعادة الزمن، ولكن كان لا بد أن يحس الناس أنك تشعر بهم.

قلت له: من أجل هذا غيّرت النشيد الوطني إلى نشيد السوفيات السابق؟

فأجاب: وما العيب في ذلك؟ أليس جيدا أن تستشعر لحظات النصر على النازية؟

يلتسن الرئيس الذي لم يعجبه تغيير النشيد ووصف بوتين بأنه سوفياتي

 

“السياسة هي فن الاحتمالات والتسويات الممكنة”

يقول مخرج الفيلم “فيتالي”: كنت أشاهد تجارب الأداء للنشيد الوطني الجديد بحضور “ميخالكوف” الذي ألّف النشيدين الوطنيين السوفياتيين، وتحت إشراف ابنه “نيكيتا ميخالكوف” الذي يخرج النشيد الروسي الجديد، وهو خليط متجدد من النشيدين السابقين، فبينما أنا كذلك إذ جاءتني مكالمة غير متوقعة من الكريملن.

قال لي بوتين، اجلس وشغِّل الكاميرا، أريد أن أحدثك بحديث ودي، هي أفكار ارتأيت أن أقولها لك، وأنت حر في استخدامها، وإضفاء لمساتك الإبداعية عليها: لماذا أنا أعدتُ النشيد السابق الذي ألفه “ألكساندروف”؟ إنني أريد التفاف الشعب حولي، وهذا مهم لي حتى أنجز برامجي التي أطمح إليها، أريد أن يحس الشعب أنني أشعر بحنينه إلى الماضي.

قلت له: لكن الكثير من الذين نشهد لهم بالإخلاص والوطنية قد وقّعوا عريضة رفض النشيد الجديد.

فأجاب: هؤلاء لا يشعرون بالضمير الشعبي.

قلت له: ولكنهم أنصارك الذين انتخبوك.

فأجاب: علي أن أتخذ قرارت قد لا توافق كل الذين انتخبوني، ولكن في النهاية يجب أن أتخذ قرارات في صالح الدولة، وعلى الجميع احترامها.

قلت: السياسة هي فنّ الاحتمالات والتسويات الممكنة.

قال لي: هذه جملة جيدة، يمكنك أن تستخدمها لملء الفراغات.

قلت: كان يمكن تأجيل تغيير النشيد، فأجاب: وبنفس المنطق يمكنني تأجيل قانون العمل وقانون الأرض، في كل الجزئيات هنالك مؤيدون ومعارضون، ولو أتيح لي أن أخاطب 140 مليون مواطن، كل على حدة لأقنعته برأيي، ولكن هذا مستحيل.

قلت له، ولكنني ما زلت غير مقتنع بتغيير النشيد.

فقال لي: هذه وجهة نظرك.

“إنّه سوفياتي”.. “يلتسن” يسب ما صنعت يداه

بعد سنة وتحديدا ليلة 31 ديسمبر/كانون الأول 2000 جلس “يلتسن” وحوله أفراد عائلته يحتفلون برأس السنة، وفي الخلفية ظهر المذيع على الشاشة وذكر الروس برئيسهم السابق الذي اتخذ قرارا جريئا وغريبا بالتخلي عن السلطة في مثل هذه الليلة قبل عام، وظهر ليلتها رئيس جديد، هنأ الروس برأس السنة. وها هو يبتعد كل يوم أكثر فأكثر عن مكتشفه.

وقف “يلتسن” خطيبا في عائلته عشية رأس السنة، فتمنى لهم سنة جديدة أفضل من التي مضت، ووصف السنة الماضية بأنها كانت صعبة على الجميع، “لا أريد أن أتذمر هنا، ولكن أتمنى لعائلتي وأقاربي وأصدقائي سنة جديدة أفضل”.

وعندما سمع النشيد الجديد شعر بالامتعاض، وقال: هو هو، سيء ولن يتغير.

سألوه: هل أعادوا النشيد القديم دون علمك؟

فأجاب: إنه سوفياتي.

تلك الكلمة جسّدت كل الغضب والامتعاض الذي يكنه “يلتسن” لخليفته “بوتين” بعد أن أشهره وقدّمه للناس على أنه حامي قيم روسيا الجديدة، وقد توفي بعد سبع سنوات من تولي “بوتين” الرئاسة، وكان قد رأى مظاهر ما كان يتمناها لروسيا الحديثة التي أنشأها.

هل كان مجيء بوتين إلى السلطة نعمة على البلاد أم نقمة؟

 

موافقة الديكتاتور.. شراكة في الجريمة

يقول المخرج “فيتالي”: رغم أنها أول سنة لتولي “بوتين” الحكم، إلا أن كل تساؤلاتي كانت تحوم حول توريث السلطة والعودة إلى الإمبراطورية القديمة وحكم الفرد، وقد رافقته مرة في سيارة الرئاسة، وأسرّ لي أنه يود أن يترجل ويشرب كأسا من الجعة، ولكن الوضع الجديد لا يسمح له بذلك، فسوف يتسبب موكبه بتعطل السير ووقوف مئات السيارات في انتظاره. قلت له: أتودُّ ذلك؟

أجابني: نعم، وأنا متأكد أنني سأعود مواطنا عاديا يوما ما، وسأستمتع بكاس جعة دون أن أخشى شيئا، لا تهمني تعليقاتك الساخرة، أنا أعرف أن حياة الرئيس معقدة للغاية، لقد التقيت بالعديد من رؤساء الدول في العالم، حياتهم ويومياتهم لا تلهمني. وهذه ميزة الرئيس المنتخب، يقدم أسمى ما يستطيع لبلده وهو حاكم، ثم يعود إنسانا عاديا يعيش حياته الخاصة كما يريد.

أطفأت الكاميرا وقلت له، إن فعلت هذا فستضمن مستقبلا جيدا لبلدك ولنفسك أيضا، ثم تركته وذهبت.

وما يزال “بوتين” يحكم حتى هذه اللحظة، ووقعت أحداث جسيمة في فترات رئاسته؛ منها انتهاء الحرب في الشيشان، ودورة الألعاب الأولمبية وتعاطي المنشطات، وحرب القرم وأوكرانيا، والخروج من مجموعة الثماني، وهجرة المعارضين له وحبسهم واغتيالهم.

وأسوأ من هذا كله أنني افترضت بسذاجة أنني مجرد شاهد، لكن الأيام أثبتت أن الموافقة الضمنية تحيل الشهود إلى شركاء في الجريمة، لقد تحولنا طوعا إلى أدوات في يد هذا الذي كان يزعم أنه يقودنا إلى مستقبل مشرق، ويذكرنا دوما بماضينا المظلم.


إعلان