“ليونورا كارينغتون”.. ريشة الفن التي احتفى بها العالم متأخرا

خاص-الوثائقية
فنانة رسمت بريشتها عالما من الخيال والسحر، لقد كان ذلك شيئا من العبقرية الفنية التي تحلت بها، جاءت من رحم المشهد السريالي الأوروبي، وكانت تعمل جنبا إلى جنب مع عمالقة فناني القرن العشرين، لكنها اختارت الطريق الصعب لحياتها الاستثنائية والمثيرة.
إنها “ليونورا كارينغتون” الفنانة البريطانية التي عاشت معظم حياتها في مدينة مكسيكو، ولم تنل ما تستحق من شهرة وتكريم إلا بعد مئة عام من ولادتها حين احتفى بها العالم ودخلت لوحاتها المتاحف الفنية العالمية.
هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية يحكي لنا قصة الفنانة المنسية التي ألهمت جيلا بكامله، ولماذا تأخر اكتشافها وتقديرها كل هذه السنين؟ ولماذا عاشت بالمنفى بعيدا عن بلدها إنجلترا؟
كما يستكشف هذا الفيلم حياتها الرائعة والمذهلة من خلال أعمالها الغريبة التي كانت تثير للسخرية أحيانا، لكنها مؤخرا بدأت تباع بملايين الدولارات.
“كان عندي حساسية ضد التعاون”.. ضريبة التمرد في الطفولة
ولدت “ليونورا كارينغتون” عام 1917 وعاشت عالمين مختلفين، عالما واقعيا وآخر خياليا، وهذا ما ظهر في لوحاتها التي تحمل الكثير من الغموض، يقول ابنها “بول وايز” ربما كان ذلك بسبب الجينات التي ورثتها، وقد ترجمتها بطريقة ما في لوحاتها.
تقول “ليونورا” في تسجيل لها: لطالما كنت أدخل إلى عوالم أخرى كما يفعل الجميع، فجميعنا ننام ونحلم، إنه ذلك الشعور الذي تشعر به في طفولتك عن أشياء غاية في الغموض أيهرب أحد من طفولته؟
عاشت “ليونورا” طفولة منعزلة وكانت الفتاة الوحيدة بين إخوتها الثلاثة الذكور الذين لم يشاركوها اللعب، فبنت عالما خاصا بها، وكان أبوها ثريا يملك مصنعا للنسيج، أما أمها فكانت ابنة طبيب أيرلندي.
حين كانت في عامها الثالث استأجرت عائلتها بيتا ضخما اسمه كروكي هول، تقول عنه “ليونورا”: كان مكانا كبيرا مظلما نوعا ما، وكانت هناك بحيرة وكنا نعرف الأسطورة التي تقول إنها لا قعر لها ولم يسمح لنا بالذهاب وحدنا، وكنا نعتقد أن هناك شبحا في البرج.
ذهب إخوة “ليونورا” إلى مدرسة داخلية وبقيت هي مع مربيتها الفرنسية الآنسة “كوتابل” التي لم تحبها أبدا، وعندما بلغت إحدى عشرة سنة ذهبت للمدرسة ودخلت مدرستين كاثوليكيتين، إلا أنها طردت منهما. وتقول عن ذلك: “لقد طردت من ديرين، والسبب عدم تعاوني، فقد كان عندي حساسية ضد التعاون”، وكتبت رئيسة الدير أن هذه الطفلة غير مؤهلة للتعلم أو العزف.
عندما عادت إلى بيتها اشترت لها أمها مجموعة من الألوان المعقدة والغالية كي ترسم بها. يقول ابنها “بول”: كانت جدتي أكثر شخص تفاعل معها، فجدي لم يكن متحمسا لخيالها.

جماعة “الكليت”.. عالم السحر والأساطير
كانت أمها من جماعة “الكليت” (وهي جماعة وجدت في أوروبا وكانت تؤمن بعالم الأساطير والساحرات) لذا رأت الموضوع طبيعيا فطالما حدثتها والدتها عن العالم الكليتي الساحر، وكانت ترسم لوحات صغيرة وبقيت تحتفظ بها طوال حياتها.
حين بلغت ١٦ عاما كانت “ليونورا” مترددة في أن تكون ذلك الشخص الذي يريده والدها، وكان يفرض عليها كيف تتصرف، كان والدها في طور الثراء السريع، وكان حديث ثروة وأراد الحصول على مظاهر الثروة، وكان كل شي يتوقف على الشخص الذي ستتزوجه ابنة هذه العائلة، إذ من الممكن أن يحمل العائلة لمستويات أعلى، لقد أراد منها أن تتكيف مع حياة الثراء لينظر إليها النبلاء نظرة حسنة.
أرسلت “ليونورا” إلى لندن لتبدو كفتاة راقية، وخطط والدها تقديمها للملك وجهزها وألبسها الملابس الحريرية، وقد كتبت حينها الكثير من القصص مثل كتابها الإطلالة الأولى.
كانت هذه المرة الأخيرة التي تنفذ بها “ليونورا” أوامر والدها وقررت الالتحاق بكلية الفنون، فقد أدركت أنها فنانة وتريد أن ترسم، وحينئذ اكتشفت السريالية التي أثارت دهشتها، وأعطتها أمها كتاب “هربرد تريت” وكان فيه لوحة لـ”ماكس ارنست” أحد أبرز رواد الحركة السريالية التي تعلقت بها.
لم تكن تلك الحركة مألوفة في المجتمع البريطاني، بل كان الكشف عن أسلوبها لحظة مزلزلة في عالم الفن، وكان البريطانيون يعانون مما بعد الانطباعية وطالب النقاد بحبس أولئك المجانين، وبالفعل فتنت فنانتنا بها وأرادت أن يعترف بها في تلك المجموعة.

“ماكس إرنست”.. في حضرة رواد السريالية
ذات مساء تلقت دعوة في منزل صديقها من كلية الفنون، وقد دعي “ماكس إرنست” أيضا، لقد كانت تعتبره شخصا استثنائيا وتحب أعماله، كان جذابا وذكيا ولم يأخذا وقتا طويلا للوقوع في الحب، وقد سمع والدها بأخبارها فجن جنونه وحاول حبس “ماكس” واتصل بشرطة العاصمة للتحقيق معه بسبب لوحاته الإباحية.
اختفى العاشقان ثلاثة أسابيع، ثم رحل “ماكس” إلى باريس، أما “ليونورا” فقد ذهبت لتخبر أهلها بقرار رحيلها إلى باريس، وهناك طلب والدها منها بأن لا تعود مرة أخرى.
غادرت “ليونورا” إلى باريس، تقول عن ذلك: غادرت وكانت باريس مثيرة آنذاك، وكنت مغرمة برجل استثنائي، كنت أعمل وأرى أماكن جديدة، وكانت السريالية في أوج ازدهارها وحين كنت من أتباع السريالية لم يكن علي التقيد بأي شيء.
لم تكن السريالية مجرد حركة فنية بل أسلوب حياة في العيش بعالم من الخيال، وهذا ما أشعر “ليونورا” بالارتياح، كانت مجموعة من المتطرفين ضد المجتمع والحكومة والكنيسة، وكانت مناهضة للبرجوازية التي هربت منها “ليونورا”.
تقول “تيريزا آراك” القائمة بأعمال “ليونورا”: كانت في العشرين من عمرها وعشقت “ماكس إرنست” وكأنها وقعت من منطاد من السماء في وسطهم (تعني: السرياليين)، وقد عاش فنانون معروفون بقربها منهم “بيكاسو”، لقد اكتشفت عقولا تفكر بنفس طريقتها.
قربها من “ماكس” جعلها تدرك الكثير، لكن كونها امرأة جعلها تواجه بعض الصعوبات، فرغم أن السرياليين كانوا يتمتعون بحرية التفكير فإن نظرتهم للمرأة لم تكن ترقى لهذا المستوى، حيث اعتبروها كائنا جميلا يمدهم بالإلهام والجنس والبهجة. يقول “بول”: تجاهلت أمي ذلك وسخرت منه، ولم تشاركهم المعتقدات، وكانت مناصرة للمرأة.

الحرب العالمية الثانية.. حين يجتمع السجن والمرض
كانت “ليونورا” تتمتع بشخصية منفردة وكانت لها أفكارها الخاصة، وقد بقيت في باريس حتى العام 1938، ثم انتقلت إلى “سانت دغدان” جنوبي فرنسا مع “ماكس” الذي كان مصدر وحي لها، بالإضافة لعلاقة الحب التي جمعتهما.
كانت تلك الفترة أسعد أيام حياتها، لكن بعد عام اندلعت الحرب العالمية الثانية وتغير كل شيء، فقد أخذ الفرنسيون بجمع الألمان وزجهم بالسجون ومن بينهم “ماكس”، وهو ما أثر عليها كثيرا.
لقد أصيبت بانهيار عصبي وزارتها صديقتها من إنجلترا وأقنعتها بترك مدينة سانت مارتن والذهاب معها إلى إسبانيا، وقد وجدتها في حالة فظيعة، فكانت تأكل جذوع الأشجار وفي حالة عاطفية سيئة.
قرر والدها وضعها في مصح عقلي في شمال إسبانيا، لكن يرى ابنها “غابرييل” أنهم خدعوها وأخبروها أنها ذاهبة لقضاء يوم على الشاطئ، وذهب معها طبيب ثم قام بتخديرها في الطريق.
استيقظت “ليونورا” لتجد نفسها في مكان صارت تسميه الملجأ، وكانت أسوء أيام حياتها وكتبت عنه في مذكراتها، ووصفت به ممرضتها بعلبة المطهر الكبيرة، وكيف قيدت وهي عارية أياما عديدة، وأعطوها علاج “كرتزول” الذي تسبب لها بإصابتها بالصرع.
تقول “ليونورا” خرجت من هناك كالصماء وأكثر خوفا، وما فعلته هذه التجربة بي أنني أدركت بأني كنت قريبة من الموت وضعيفة .

“قررت الذهاب إلى المكسيك”.. رحلة إلى الطرف الآخر من العالم
كانت “ليونورا” في بداية العشرينيات وحيدة، وطلبت عائلتها أن تعود إلى إنجلترا لكنها لم ترد ذلك، والتقت وقتها بدبلوماسي وشاعر مكسيكي هو “ريناتو ليدوك”، وكان رجلا لطيفا حاول إنقاذها فتزوجها كي يمنحها جواز سفر مكسيكي.
تقول صديقتها “إيلينا توسكا”: قررت الذهاب إلى المكسيك، ولم تكن تعرف كلمة إسبانية واحدة، لكنها خاضت مغامرة لبلد لم تتخيل كيف سيكون.
تقول “ليونورا”: عندما تقطع الحدود وتصل إلى المكسيك تشعر وكأنك في مكان مسكون والأرواح في كل مكان، الأمر أشبه بأن تذهب إلى الطرف الآخر من الأرض، كان غير عادي وغريبا جدا، أحيانا أشعر أن ذلك رائعا، لكن أحيانا أشعر بالرعب”.
كان هناك شبه كبير بين حضارة المايا المكسيكية والثقافة الكلتية ومفهوم السريالية الذي يدور حول الخيال والحرية والسحر، فهو أسلوب حياة انعكس في ثقافتها.
انزعجت “ليونورا” لتركها أوروبا وصنعت عالما خاصا لها، لقد وجدت نفسها وحيدة في مكسيكو لأن “ريناتو” كان يحب الخروج وحيدا للحانات والمقاهي، وكان يتركها معظم الأسبوع لوحدها، ولم تكن تعرف الإسبانية ولم تتعرف إلى أحد. تقول قريبتها “جوانا مورهيد”: لم يكن زواجا لأجل إنقاذها فقط، لكنه لم يتمتع أيضا بالجذور العميقة التي تحتاجها أي علاقة تدوم لسنوات، لذا انفصلا.
استقرت “ليونورا” في المكسيك حيث اجتمع هناك عدد كبير من المثقفين من كل الجنسيات والأعراق، ووجدت هناك حياة رائعة للعيش فتعرفت على شخصيات مهمة من أوروبا هربت من الحرب واستقرت بعيدا عن عائلاتها.

“كان رجلا صالحا وخجولا”.. مرحلة الأمومة
هناك في المكسيك التقت “ليونورا” بالمصور المجري التشيكي الذي سافر إلى باريس سيرا على الأقدام بعد دخول النازيين بلاده، فقد قتل معظم أفراد أسرته، وكان أصغر عمرا من “ليونورا”.
يقول ابنها “بول”: التقت بأبي في إحدى الحفلات، وقررت أن هذا الرجل سيكون والدا صالحا لأبنائها، هكذا وصفته.
وتقول صديقتها “إيلينا”: أعجبت به في البداية، كان مظهره جميلا وكان رجلا صالحا وخجولا، وقد تزوجا وأنجبت “غابريل” و”بول”.
كانت الأمومة أروع تجربة خاضتها، ووصفتها بأنها الحب غير المشروط الذي قد تحصل عليه في حياتك، عندما حملت كانت خائفة لكنها كانت ترسم بكثرة وقد ألهمها ذلك حسا قويا، وجاءت أجمل أعمالها عندما كانت تحمل فرشاتها بيد وفي الأخرى طفلها.
هامت “ليونورا” عشقا بأطفالها وكانوا محور حياتها وأحب الناس إلى قلبها، ولم تكن أما تقليدية وخافت أن يمروا بما مرت به، وكانت حريصة على عائلتها الصغرى لفقدها عائلتها الأولى. يقول ابنها “بول” إنها لم تحب أحدا كما أحبته وأخاه، وكان والده أكثر واقعية في مساعدتهم لاجتياز مرحلة الدراسة، فقد كانا يرافقانها أينما ذهبت وعندما تدخل الاستديو يلحقان بها ومن هنا تعلم ابنها “بول” الرسم.
“ليس هناك استقرار فعلي”.. أشواق إلى الوطن
كانت “ليونورا” تملك ستوديو بسيطا جدا وغير مريح، وترى صديقتها “إيلينا” أن المفارقة أن الاستديو رغم بساطته فإن لوحات “ليونورا” كانت أهم بكثير من الفنانين المكسيكيين الذين يملكون استوديوهات كبيرة، ولم يكونوا يرسمون بجودتها.
وجدت “ليونورا” طريقها الصحيح فنيا في المكسيك، وكرست له كل وقتها، لكنها كانت تشتاق لوطنها الأم وتشعر بالحنين والفقد. تقول عن الوطن: هو نوع من الوهم لكثير منا، ليس هناك استقرار فعلي، لكنني بحاجة للتغير لأني شعرت بالاختناق بالجو الذي أعيش فيه أو أن الأشياء أصبحت مألوفة للغاية. ويرى ابنها “بول” أن المكسيك استقبلتها بصدر رحب، وهذا ما لم تفعله أوروبا لها أبدا.

“نحن لا نعرف شيئا عن الموت”.. رحلة الطيور السوداء
تعد “ليونورا” فنانة مكسيكية رغم أنها ولدت في إنجلترا، ويعتبرها أهل المكسيك فنانتهم ويقدرونها كثيرا، لكنها لم تلق ما استحقه فنها الاستثنائي السابق لعصره.
كانت تستطيع ترجمة ما يجول في داخلها والرسم بطريقة فريدة وخلاقة لعالم من الأحلام والسحر والخيال، لقد رحلت عن هذه الحياة وجاءت إليها الطيور السوداء التي رسمتها لتنقلها إلى عالم آخر.
فقد تحدثت “ليونورا” عن الموت قائلة: كان الكثير من رحلاتي عبارة عن هروب، لكني أشعر في عمري الكبير هذا بأني أبدأ برحلة من نوع ما، الموت بالطبع أمر حتمي لكنك يجب التعامل معه كوسيلة للاستكشاف بطريقة ما، فنحن لا نعرف شيئا عن الموت.