“آخر الرُحّل.. المغرب”.. المشاهد الأخيرة من حياة الإنسان البدائي

مراد بابعا

ما زال الرُحّل في المغرب يقاومون قسوة الطبيعة المحيطة بهم، ويحملون بفخر المشعل الذي ورثوه عن أجدادهم المؤسسين لهذا النمط المعيشي المعتمد على التنقل الدائم والرعي، ويرفضون الإذعان لفكرة الاستقرار، رغم كل التناقضات مع أشكال الحياة العصرية وصعوبة تقبل هذا الوضع من قبل الأجيال الصاعدة.

موطنهم الجبل والصحراء، وأعدادهم تقدر بالآلاف، وحياة البدو التي يعيشونها تعطي انطباعا بالرجوع سنوات إلى الوراء، وكأن لا شيء يحصل من وراء عالمهم الذي تحده الجبال والوديان والكثبان الرملية ومنابع المياه العذبة التي تقل وتنضب سنة تلوى الأخرى.

في المغرب كما في باقي دول شمال أفريقيا، نجد أن الرُحّل ما زالوا صامدين، وذلك بوجود حوالي 25 ألف شخص يعيشون حياة الترحال في المملكة، لكن هذا العدد تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وقدر هذا التراجع بـ63% ما بين 2004 و2014 بحسب آخر إحصاء رسمي للسكان.

وكشف الوثائقي “آخر الرُحّل – المغرب” الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية عن جزء من حياة الرُحّل المغاربة ومعاشهم اليومي، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن سبب تشبث هؤلاء بهذه الحياة البسيطة، وإصرارهم على توريثها لأبنائهم؟  وماذا عن تاريخهم في المغرب والمنطقة؟ وأبرز التحديات التي يواجهونها اليوم؟

 

رحلة الشتاء والصيف.. حياة النوماديين في المغرب

يرتبط الإنسان في شمال أفريقيا بالترحال، فهي الصبغة التي لازمت سكان هذه المنطقة، حتى أطلق عليهم اسم “النوميديين” (Nomades) أي الرُحّل، بسبب حركتهم المستمرة وكثرة تنقلاتهم في المناطق الجبلية والصحراوية ذات المناخ المتقلب بين الشتاء والصيف.

وتعتمد حياة الرُحّل في كل بقاع العالم على الرعي الذي يفرض عليهم التنقل بحثا عن الماء والكلأ لمواشي تعتبر مصدر رزقهم الرئيسي. وفي المغرب يتمركز الرُحّل في مناطق الجنوب الشرقي وعلى امتداد الأراضي الصحراوي بجنوب البلاد، وهي مناطق تتميز بمناخ جاف مع درجات حرارة لا تقل عن 38 درجة في فصل الصيف، وطقس بارد في الشتاء تنزل معه أحيانا درجات الحرارة تحت الصفر، وغالبا ما يضطر الرُحّل إلى الصعود إلى الجبال المجاورة، خصوصا في فصل الربيع مع تحسن الطقس وظهور منابع المياه وتنوع الغطاء النباتي.

ويمكن تقسيم الرُحّل في المغرب إلى فئتين، الأولى تتمركز بالأساس في الجنوب الشرقي للبلاد، وتعتبر امتدادا للقبائل الأمازيغية التي تستوطن المنطقة، والتي احتكت كثيرا بقبائل أيت حديدو وأيت مرغاد وأيت عطا، وغالبا ما تعتمد على رعي الغنم والماعز في المناطق الجبلية خصوصا بالأطلسين الكبير والصغير.

أما الفئة الثانية فنجدها متفرقة في المناطق الصحراوية جنوب المملكة المغربية، وأصولها من قبائل الصحراء المتجذرة في المنطقة، وتتحدث العربية باللهجة الحسانية، ويعتمد هؤلاء الرُحّل في رعيهم بالأساس على الإبل بالإضافة إلى الغنم والماعز.

حياة البدو قائمة على رعي الأغنام والجمال، وهم يتتبعون الكلأ والماء في حلهم وترحالهم

 

هجرة المواشي إلى الأراضي الخصبة.. صراعات الرحل للبقاء

تمثل حاليا فئة الرُحّل في المغرب نسبة قليلة جدا من السكان، وقدرت مندوبية التخطيط الرسمية عددهم في آخر إحصاء أجري في 2014 بحوالي 25 ألف شخص، أي ما يمثل حوالي 7 من أصل عشرة آلاف نسمة، وتتمركز نسبة 95% منهم في شرق وجنوب المملكة، وخصوصا بجهات درعة تافيلالت وسوس ماسة وكلميم واد نون والعيون الساقية الحمراء.

ويواجه الرُحّل تحديات متواصلة تحول نشاطهم إلى مهمة شبه مستحيلة، مع ضغط النمو الديموغرافي وتقلص الغطاء النباتي وآبار المياه العذبة وانتشار الملكية الخاصة، وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى مواجهات حقيقية بين الساكنة المحلية والرعاة الرُحّل القادمين من الجنوب أو الجنوب الشرقي، وقد تصل المواجهات أحيانا إلى حد الاعتداءات الجسدية.

ففي منطقة “سوس” في السنوات الأربعة الأخيرة اتهم السكان المحليون الرُحّل بتسمين قطعانهم على حساب النباتات المزروعات والأشجار التي تعاني أصلا من توالي سنوات الجفاف، وهو ما يعتبرونه تهديدا حقيقيا للتوازن البيئي، خصوصا أن بعض الرعاة أًصبحوا يستقدمون قطعانا هائلة من الإبل والغنم والماعز.

وغالبا ما تتدخل السلطات المحلية والإقليمية لمطالبة هؤلاء الرُحّل بالتنسيق معها قبل استقدام قطعانهم من المناطق الجنوبية القاحلة، وتقوم هذه السلطات بتحديد الوقت المناسب لبدء نشاطهم، والمناطق المسموح لهم بالرعي فيها، مما يضطر بعض الرُحّل للانتظار أياما أو أسابيع قبل السماح لهم ببدء نشاطهم، وأحيانا يتحول هذا الانتظار إلى معاناة مع نفوق عشرات رؤوس المواشي بسبب الجوع والعطش.

مدرسة الخيام حل مقبول أجبر البدو الرحل على التفكير بالاستقرار من أجل تعليم أبنائهم

 

مدارس الخيام.. محاولات لإنقاذ البراعم من الأمية

لا شك أن التعليم كان في وقت مضى أمرا مستحيلا بالنسبة للرحل دائمي التنقل والحركة ومعهم أطفالهم الصغار، وهو ما جعل مستوى الأمية لدى هذه الفئة من المغاربة تقفز إلى مستويات قياسية تفوق 80%، وتشير آخر الإحصائيات إلى أن نسبة تمدرس أطفال الرُحّل ما بين 7-12 سنة لا تتجاوز 32%، مقارنة بالمعدل الوطني في المغرب الذي يتجاوز 94%.

ومن أجل إنقاذ الأجيال المقبلة وتعليمهم أبجديات القراءة والكتابة على الأقل، جاءت فكرة “مدارس الرُحّل” التي تتنقل معهم أينما رحلوا وارتحلوا، رغم معارضة عدد من الرُحّل، لأنها تحرمهم من مساعدة أبنائهم لهم في النشاط الرعوي.

وكانت هذه المدارس في البداية بمبادرات خاصة من المجتمع المدني بشراكة مع دول أجنبية، قبل أن تحتضن الحكومة المغربية هذه الفكرة وتقدم لها بعض الدعم والمساندة. وتوجد بإقليم “تنغير” في جهة درعة تافيلالت نماذج ناجحة نسبيا لمثل هذه المدارس المتنقلة الفريدة من نوعها، وتكون غالبا على شكل خيام مجهزة بالإنارة بفضل الألواح الشمسية، وتضم قسما دراسيا ومسكنا للمدرس ومطعما للتلاميذ.

واستطاعت جمعية “شمس للتنمية والأعمال الاجتماعية والخيرية” عام 2019 بمساعدة شركائها؛ إحداث 9 مدارس متنقلة بالجهة تضم حوالي 160 تلميذا من أبناء الرُحّل، ومن بينها 7 بإقليم تنغير وقسمان بإقليمي ورزازات وميدلت. لكن هذه المدارس المتنقلة -التي غالبا ما تكون على شكل خيام- تعاني من قسوة المناخ، وتصبح غير صالحة للتدريس بمجرد تحرك الرياح أو الأمطار والثلوج.

لم تستطع بيطو أن تتلقى علاجا بسبب لدغة أفعى مما اضطرها إلى بتر قدمها وتركيب قدم اصطناعية

 

انعدام الرعاية الصحية.. مآس إنسانية في أعالي الجبال

عاش الرُحّل لسنوات خلت على الطبيعة دون الحاجة إلى أي خدمة أساسية، فهم يسكنون الخيام دون ربط بالكهرباء أو الماء الشروب، ولا يسجلون عقود الزواج في المحاكم، ولا الأطفال في السجلات المدنية، أما التعليم والصحة فقد كانا من الرفاهيات في نظرهم حتى وقت قريب.

ومؤخرا بدأت جمعيات من المجتمع المدني بتحسيس الرُحّل وتوعيتهم بأهمية تحسين وضعهم الصحي، بسبب توالي التقارير والأرقام المحذرة من تدهور وضعهم وتسجيل نسبة وفيات مرتفعة، خصوصا لدى النساء الحوامل والأطفال الرضع.

ويعاني الرُحّل في المغرب وسكان الجبال عموما من ضعف الرعاية الصحية التي تزداد حدة خلال فترات البرد والشتاء، فصعوبة المسالك الجبلية تعقد مهمة نقل المرضى أو الحوامل إلى المستشفيات القريبة خصوصا في فترات نزول الثلوج.

وتزيد من معاناتهم أيضا خلال هذه الفترة صعوبة الحصول على حطب التدفئة، وعدم قدرة الخيام والملابس التي يرتدونها على حمايتهم من موجات البرد القارس التي تضرب بالخصوص مناطق الأطلسين الكبير والمتوسط.

كما أن كثيرا من الرُحّل يرفضون مغادرة الخيام صوب نقاط إيواء مؤقتة، لتعلقهم الشديد بخيامهم ومواشيهم، وهو ما يتسبب سنويا في مآسي إنسانية، رغم المساعدات المقدمة أحيانا من قبل جمعيات مدنية وحكومية.

تعتمد حياة البدو الرحل على ما يبيعونه من ماشية وإبل في المواسم كعيد الأضحى

 

شح موارد الرعي.. أزمة المناخ تدفع الرُحّل للبحث عن البديل

يعتمد الرُحّل على ماشيتهم من أجل توفير أغلب حاجيات حياتهم اليومية البسيطة، فكل أسبوع يقصدون السوق لبيع ما تيسر من بهائمهم وأحيانا لبيع الحليب والصوف والزرابي التقليدية، من أجل العودة إلى خيامهم ببعض المؤونة الأساسية كالسكر والشاي والزيت، وهي مهمة يتكلف بها الرجال حصرا.

أما نساء الرُحّل فغالبا ما يتحملن عبء جلب المياه وحطب الطهي والتدفئة وإعداد الأكل خصوصا الخبز، بالإضافة إلى حلب الماعز ونسج الزرابي باستعمال الآلات التقليدية.

ويبدو أن هذا النمط المعيشي الذي طبع حياة الرُحّل منذ الأزل في طريقه للتحول، مع البحث عن سبل جديدة تغنيهم عن كثرة التنقلات والاعتماد حصرا على الرعي الذي بدأت موارده تقل، بسبب التغيرات المناخية التي تؤدي من جهة إلى توالي فترات الجفاف، ومن جهة أخرى إلى حدوث فيضانات أو تساقط ثلوج غير معتادة غالبا ما تتسبب في نفوق آلاف المواشي.

اتجه الجيل الجديد إلى الاستقرار وتسخير الإبل والجمال كأدوات لخدمة السياح

 

عالم السياحة.. اهتمامات الجيل الجديد من الرحل

أصبح الرُحّل في السنوات الأخيرة يعانون من تشتت عائلاتهم، لتفضيل أبنائهم وبناتهم المتزوجين حديثا الاستقرار في قرى مجاورة، والاعتماد في معيشتهم على أفكار جديدة تكون أحيانا بسيطة، لكنها استطاعت تغيير تفكير جيل كامل من الرُحّل.

فبالإضافة إلى لجوء بعضهم إلى النشاط الزراعي في بعض مناطق الأطلس الخصبة، نجد أن جزءا من الشباب الرُحّل قرر التوجه نحو الاستثمار في السياحة من خلال مآوي تقليدية تكون عبارة أحيانا عن خيام، خصوصا في المناطق الصحراوية.

وتعتبر منطقة “مرزوكة” في إقليم الرشيدية جنوب شرق المغرب، أفضل مثال على هذا النشاط، فقد أصبحت تستعمل الإبل كوسيلة لنقل للسياح إلى المخيمات السياحية المنصوبة وسط الكثبان الرملية، كما أضحت هذه المنطقة الصحراوية قبلة للسياحة العلاجية، حيث تستعمل تقنية الطمر بالرمال على نطاق واسع لعلاج أمراض المفاصل والروماتيزم.

الشاي الأخضر في المغرب هو المشروب الوطني، وله طقوسه الخاصة

 

كؤوس الشاي.. بلسم الحياة البدوية

الرابط الذي يجمع رحل المغرب بالشاي ليس برابط عادي، فهو المشروب الوحيد الذي يرافقهم أينما حلوا وارتحلوا، وهذه العلاقة تطورت مع مرور الزمن ليصبح الشاي أو “أتاي” البلسم اليومي الذي ينسيهم قسوة الطبيعة صيفا وشتاء، ويضمد جراح الزمن البادية على وجوههم.

ويعتبر الشاي الأخضر في المغرب عموما المشروب الوطني، ورمزا للهوية الثقافة المغربية الأمازيغية الضاربة في التاريخ، وهذا المشروب يحظى بتقديس كبير لدى الرُحّل أيضا، ولديه طقوس خاصة ترافق استهلاكه اليومي وتقديمه كرمز للضيافة وحسن الاستقبال. وتشير إحصائيات إلى أن المغرب هو الأول عربيا والخامس عالميا في استهلاك الشاي، باستهلاك للفرد الواحد يقارب كيلوغرامين من الشاي سنويا.

ويكتسي الشاي لدى الرُحّل سواء في الجبال أو الصحراء مكانة خاصة، ويعتبر –مع السكر- من أولى المشتريات التي تستنزف مدخراتهم، وتحكي بعض الروايات الشعبية أن أحد الرُحّل باع قطيعه بالكامل من أجل الإنفاق على الشاي وكؤوسه من الطراز الرفيع، لشدة عشقه وولعه بهذا المشروب.

ونجد أن تقاليد تقديم الشاي تختلف بين رحل الجبال ورحل الصحراء، ولكل طريقته الخاصة في ذلك، ونجد أن إعداد الشاي الصحراوي مثلا يجري على مهل فوق الجمر، قبل تقليبه عدة مرات في الكؤوس الصغيرة حتى تكسوها رغوة الشاي أو ما يسمى بالكشكوشة، وذلك في جلسات جماعية لتبادل أطراف الحديث.

لا شك أن جلسات الرُحّل وحديثهم في السنوات الأخيرة حول كؤوس الشاي لا يخلو من قصص بني جلدتهم الذين قرروا التمرد على هذا النمط المعيشي المميز لمسار فئة من سكان شمال أفريقيا، ليرضخوا في الأخير لضغوط الحياة والأبناء، فأصبحوا يرون في حياة الاستقرار منافع وإيجابيات لم يرها أجدادهم لسنوات وعقود من الزمن.


إعلان