“هواة في الفضاء”.. أهداف جدّية ووسائل عبثية

خاص-الوثائقية

“لماذا لا نكون مثلهم؟ ماذا ينقصنا حتى نسافر في الفضاء؟ لديهم ناسا، ولدينا قبة تايخو براهي السماوية في كوبنهاغن. تقول لي إن هنالك 400 ألف أمريكي عملوا على إطلاق أبوللو 11 إلى القمر، وأنا أقول: أنا و”بيتر” ومعنا “فليمنغ” وبعض المتطوعين الهواة نستطيع أن ننطلق إلى زحل”.

كان حلم “كريستيان” الدنماركي أن يكون رائد فضاء، وهو نفس الحلم الذي يراود صديقه “بيتر”، وبما أنهما يدركان تماما أن الإعلام هو الذي يصنع الأحداث وهو الذي يصنع النجوم أيضا، فقد قررا دعوة وسائل الإعلام لترافقهما في كل خطواتهما الصغيرة لصناعة المجد الكبير؛ التحليق في الفضاء وغزو الكواكب.

ولم يتوقف الأمر عند حد الإعلام، بل قاما بتصوير فيلم يحوي الكثير من المفارقات الكوميدية، وسجلا فيه مراحل مشروعهما الأسطوري، بدءا من الاجتماعات التمهيدية وتوزيع الأدوار والمهام والمخططات الهندسية وجلب المواد الضرورية، وصولا إلى إطلاق الصاروخ العظيم. وهو الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “هواة في الفضاء”.

 

مجفف الشعر.. مشعل احتراق الصاروخ لغزو الفضاء

قام “كريستيان” بصناعة المركبة الفضائية، بينما قام صديقه “بيتر” بصناعة الصاروخ الداعم، هكذا جرى الترويج للمشروع في وسائل الإعلام. وقد تحدث “كريستيان” أمام حشد من الصحفيين قائلا: أنا أعلم أن مشروعا كهذا تنفق عليه الدول مليارات الدولارات، ولكن لا بأس؛ فأنا وصديقي بيتر رصدنا 56 ألف دولار لهذا المشروع.

ويقدم “بيتر” مزيدا من التفاصيل الفنية عن صاروخه العظيم قائلا: ليس هناك نظام توجيه آلي للصاروخ، بل نعتمد على الزعانف في توجيهه، وهي معززة بمواد خاصة يمكن شراؤها من أي متجر. والصاروخ يحتوي على مجفف شعر بكلفة 12 دولارا، وظيفته بدء شعلة الاحتراق لانطلاق الصاروخ.

بحر البلطيق.. ساحة التجارب العلمية الصاروخية الآمنة

 

شاطئ بحر البلطيق.. مشروع العودة من الغربة إلى الوطن

تقع محطة بناء الصاروخ والمركبة قريبة من شواطئ بحر البلطيق، ولم نلحظ وجود تعزيزات أمنية أو بوابات إلكترونية حول المحطة، بل مجرد سياج حديدي كالذي يستخدم حول المزارع، وقفل يدوي عادي يستخدم في المنازل. يقول بيتر بشيء من الزهو، وهو يتفقد المبنى الفارغ الذي سوف يستخدم لتجميع المركبة الفضائية: ترى كيف كان شعور ناسا عندما افتتحت مقر إطلاق الصواريخ؟

يقول “كريستيان” عن بداياته: عدت إلى الدنمارك بعد قضاء عشر سنوات في الخارج، وأردت استثمار خبراتي في إطلاق المركبات الفضائية في وطني، وبدأت بالبحث عن شريك يساعدني في إخراج المشروع إلى حيز الوجود، ووقع اختياري على “بيتر”. كان لدينا تصور مشترك عن مشروع بأقل التكاليف، ومواد أولية متوفرة في المتجر المجاور.

الرئيس الأمريكي جون كيندي يعطي الضوء الأخضر لوكالة ناسا أن تصل القمر قبيل نهاية عقد الستينيات

 

خطاب “كندي”.. صراع حول تاج المدير

تستمر المفارقات المضحكة في هذا الفيلم، إذ ما يفتأ “كريستيان” و”بيتر” يعقدان مقارنات بين مشروعهما ومشاريع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، بل إن “بيتر” يتخيل نفسه مكان الرئيس الأمريكي “كندي” وهو يلقي خطابه في افتتاح مشروع أبولو للوصول إلى القمر. يقول كريستيان: إن الأمر استغرق أكثر من 12 شهر حتى استوعب “بيتر” أنني أود العمل معه.

بيد أن الأغرب أنه كان هنالك خلط بينهما على من هو المدير ومن هو الموظف، وتدور بينهما بين الفينة والأخرى نقاشات من قبيل من يصنع القهوة للآخر، ومن ينظف المكتب ومكان العمل. لكن من الواضح أن “كريستيان” هو المدير الفعلي، لكونه هو من ابتدأ الاتصال مع “بيتر”.

اختلف الصديقان على نوع قماش المظلة التي ستحمل الصاروخ قبل حتى أن ينفذا أي جزء آخر من الصاروخ نفسه

 

لمسة الكوميديا.. معضلة اختيار قماش المظلات

ظهرت أمام “كريستيان” و”بيتر” معضلة كبرى، إذ يريدان الآن شراء قماش للمظلات، وكأن كل المشاكل التقنية والهندسية قد وجدت حلها، بما في ذلك وقود الصاروخ وعزل المركبة الفضائية وتقنيات التواصل، ولم يبق إلا قماش المظلة.

والمضحك أنهما سوف يتوجهان إلى متجر لقماش الستائر، من أجل جلب نوع من قماش النايلون لاستخدامه، وتعود الكوميديا المضحكة ثانية عندما يختبرانها من فوق برج لا يتجاوز ارتفاعه 20 مترا.

مع التقدم في أعمال المشروع تبدو الحاجة ملحة لمزيد من الإدارة الجادة والناجحة، وظهر ذلك جليا عندما نجح “كريستيان” في إدارة التجربة الثانية للمظلة من فوق رافعة تفريغ الشاحنات في الميناء، وكيف وزّع المهام على “بيتر” وفريق المتطوعين الذين رافقوه في التجربة، بينما كان “بيتر” يصدر أوامره بتنظيف المكان، ظنا منه أنه هو المدير.

البحر.. المكان الأمثل لإطلاق آمن للصاروخ في حال فشل الإطلاق وانفجر الصاروخ

 

منصة إطلاق الصاروخ.. جدل بين البر والبحر

يتحدث “كريستيان” عن القوة العاملة التي ينبغي تشغيلها في مشروعه، وكيف تجب إدارتهم وتسييرهم من قبله وبمساعدة “بيتر”، إذ يقول: أنا أعلم أن “ناسا” استخدمت 400 ألف موظف لإطلاق مركبة أبولو، ولكن لا بأس فأنا وأنت يا “بيتر”، بالإضافة إلى المتطوعين الثلاثة الذين معنا يمكننا أن نصنع المعجزات، إذا أحسنّا إدارة هذه الجموع.

ثم يواجهان معضلة أخرى، وهي تدريب رواد الفضاء على التعايش مع انعدام الجاذبية ومع سرعة انطلاق الصاروخ، ومعا يهتديان للحل؛ إنها لعبة النعش الطائر في إحدى مدن الملاهي في كوبنهاجن، حيث توفر هذه اللعبة المرعبة جوا يشبه أجواء المركبة المنطلقة في الفضاء، أو هكذا يتوقع “بيتر” و”كريستيان” على الأقل.

كانت هنالك إشكالية قانونية حول مكان إطلاق الصاروخ، فلو أرادوا إطلاقه من الأرض لاحتاج الأمر عشر سنوات من النزاعات القانونية حول ملكية الأرض، وكان الحل المناسب هو إطلاقه من البحر، وهنا طلب “كريستيان” من السلطات الحكومية أن تتدخل، ليس بالضبط، بل السلطات هي التي أجرت تحقيقا أمنيا حول ماهية الأشخاص وطبيعة مشروعهم المثير للجدل والسخرية.

اهتمام وتغطية صحفية مباشرة لعملية إطلاق أول صارخ دنماركي

 

تجربة الإطلاق الأولى.. خيبة أمل تفسد الاحتفاء الإعلامي

ضجت وسائل الإعلام الدنماركية بالحدث الكبير، وتوجه عشرات الصحفيين لتغطية إطلاق أول صاروخ للهواة الدنماركيين إلى الفضاء، يبدأ “كريستيان” بالعد التنازلي: “خمسة، أربعة.. واحد، أطلق”، لكن شيئا لم ينطلق، يبدو أنهم يواجهون مشكلة ما، فقد تكون البطارية فارغة، أو مجفف الشعر لا يعمل، يتعين عليهم إرسال شخص إلى منصة الإطلاق ليتعرف على العطل.

يبدو أن صمام الأمان لغاز الاشتعال فيه تسريب، لقد فشلت المهمة، سيعاودون المحاولة مرة أخرى، أتعرفون متى؟

قد يكون العام المقبل أو الذي بعده، لا أحد يعلم على وجه التحديد ولا حتى مدير المشروع “كريستيان”، ها هم الصحفيون المساكين يعودون أدراجهم بخيبة أمل كبيرة.

أكسيد النيتروز المشعل الأولي كان الحل الأمثل لنجاح إطلاق الصاروخ

 

أكسيد النيتروز.. “هذا هو الفرق بين المحترف والهاوي”

بدأ “بيتر” و”كريستيان” حملة لجمع التبرعات للإطلاق الجديد، فما بقي لديهم من المال لا يكفي للمهمة القادمة، وعليهم جمع 15 دولارا من كل مواطن، فالإصرار والعزيمة وحدهما لا تكفيان لتحقيق الحلم، ولا بد من المال لإكمال المسيرة. سوف يكون هنالك تغيير جذري في المشروع هذه المرة، إذ سيقوم “بيتر” بتغيير نوع غاز الاشتعال، هذه المرة سيستخدم “أكسيد النيتروز”، إنه أخف وأسرع اشتعالا.

قام “بيتر” بتجربة غاز الاشتعال الجديد وكانت النتيجة مبشّرة، ولكن العادم قد يكون ساما وملوثا للبيئة، ورغم ذلك فلا بأس ما دام الاشتعال جيدا.

ثم توجها إلى المكتب لمناقشة النتائج، وقد بدا “بيتر” متحمسا بينما كان “كريستيان” يشكو بأن عطلته الأسبوعية قد تبددت بسبب المشروع، ولم يعد لديه وقت لاصطحاب أطفاله في نزهة، فرد عليه “بيتر” بزهو: وهذا هو الفرق بين المحترف والهاوي.

التجربة الأولى حيث سقط الصاروخ بعد أن غير اتجاه حركته

 

“دائرة الاشتعال لم تغلق”.. فشل محرج للمرة الثانية

ما زال نزاع الصلاحيات بين “كريستيان” و”بيتر” يطفو على السطح بين الفينة والأخرى، حتى أن بدلة الفضاء الوحيدة في المشروع كان قد لبسها “بيتر” في التجربة الأخيرة، الأمر الذي أثار حفيظة “كريستيان” وجعله يشعر أنه يفقد السيطرة على مشروعه، ولكن “بيتر” يطمئنه بأن هذه النزاعات واختلاف وجهات النظر هي ظواهر صحية، وسوف تساهم في إنجاح المشروع.

اليوم في الساعة الثالثة سوف يطلق الصاروخ الدنماركي “هيت ون إكس – تايخو براهي” إلى الغلاف الجوي، وهو أكبر صاروخ يصنعه هواة، ويتوقعون وصوله إلى ارتفاع 15 كيلومترا عند حافة الغلاف الجوي. هكذا تحدث كثير من وسائل الإعلام، بينما يخبر “كريستيان” رجاله أن محادثاتهم عبر الراديو سيتم نقلها على الهواء مباشرة، ولذا عليهم التحلي باللباقة واختيار الألفاظ المهذبة.

بدأ العد التنازلي للتجربة الثانية، ولكن الأجواء حول المنصة غير مبشرة، فليس هنالك دخان ولا اشتعال ولا هدير صواريخ، يبدو أن التجربة فشلت من جديد، ولكن “كريستيان” يستدرك: الأمر بسيط، دعونا نراجع تسلسل الأحداث، فالضوء الأزرق يعني أن دائرة الاشتعال لم تغلق، سوف أتفقد الوضع وأعيد الأمور إلى نصابها.

نجاح مهمة إطلاق الصاروخ إلى ارتفاع 15 كم في الغلاف الجوي قبل سقوطه في البحر

 

“إنه يطير كالحلم”.. تحليق في السماء وغرق في البحر

بعد تفقد الوضع بدأ “بيتر” يجهر الآن بالعد مرة أخرى، هنالك بخار يتسرب على المنصة وصوت انفجار قوي ولهيب في أسفل الصاروخ، يصرخ “بيتر” وهو يعانق “كريستيان”: “يا إلهي إنه ينطلق، إنه يطير كالحلم، لقد نجحنا أخيرا”.

لكن الصاروخ غيَّر اتجاهه فجاة وصار يطير بشكل أفقي، وها هي المركبة تنفصل عن جسم الصاروخ، وتنفتح المظلة بشكل جيد، ثم يغرق كل شيء في الماء.

“لا بأس، التجربة ناجحة بشكل كبير” قالها بيتر. لكن “كريستيان” ليس مرتاحا تماما، “ماذا لو كان الإطلاق من الأرض؟ ماذا لو سقطت الأجزاء في منطقة سكنية؟ ترى كم من الأرواح سنفقد؟” من الجيد أنهم تمكنوا من إحباط تقدم الصاروخ بهذا الشكل الأفقي المدمر، وأجبروه على الغرق في الماء.

كان التعاون والعمل الجماعي أساس نجاح مشروع إطلاق صاروخ الدنمارك إلى الفضاء القريب

 

رسائل الفيلم.. توصيات جادة في إطار كوميدي

يحمل الفيلم رسائل كثيرة، يتعلق أهمها بروح الإبداع والابتكار الخلاقة التي يجب أن تتوفر في أولئك الناس الذين نذروا أنفسهم لرفعة أوطانهم، وكذلك أجواء الانفتاح والدعم المادي والمعنوي التي توفرها الدولة لمواطنيها، والميزانيات المفتوحة التي يجب رصدها للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي.

وتكمن الرسالة الأهم في الفيلم في ترسيخ روح الديمقراطية والتشاور والعمل الجماعي، وتعظيم قيم الشفافية، وتأكيد الحاجة إلى الإعداد والتخطيط الجيد والمسبق للمشاريع، وتوزيع المهام والمسؤوليات بين أعضاء الفريق، وإعداد جداول مراجعة الخطوات، وحصر احتياجات المشروع المالية والفنية، واستخلاص النتائج من التجارب الفاشلة، حتى يصار إلى تلافي الأخطاء.

بعد مرور عام بدأ التجهيز للإطلاق النهائي، وقد فتح المجال الجوي أمام الصاروخ، وأغلق أمام أي تحرك جوي آخر، وبعد إنهاء العد التنازلي وقع الإطلاق، وكانت تجربة ناجحة، وها هو الصاروخ ينطلق بشكل عمودي تماما، ويبلغ أقصى مدى له، إنها لحظة مفصلية في تاريح الدنمارك الحديث. “كريستيان” يشعل سيجارا ويحتفل بالحدث.

الخلافات الشخصية أدت ببيتر وكريستيان أن يقدما استقالتيهما من رابطة الفضاء الدنماركية

 

تلاشي الحلم.. صراعات الإنسان التي تفسد مذاق النجاح

لم يتوقف الشجار بين “كريستيان” و”بيتر” لحظة واحدة، وهنا قرر “كريستيان” الانسحاب من رابطة هواة الفضاء المسماة “كوبنهاجن دون المدارية”، وأرسل استقالته عبر البريد الإلكتروني، لكن فريق الهواة قابلوا الرسالة بكثير من الانتقاد والاستهجان لدور “بيتر” في دفع “كريستيان” إلى الاستقالة، وأرسلت الدعوة لاجتماع عاجل لرابطة الهواة من أجل مناقشة الاستقالة.

توصلت الرابطة بالأغلبية إلى أن “بيتر” كان مخطئا في حق “كريستيان”، وأن عليه الاعتذار عن كل المضايقات التي سببها له حتى أدت لاستقالته. وبعد أخذ ورد توصل “بيتر” إلى قرار شخصي بالاستقالة من الرابطة كذلك، وقد حاول “كلاوس” أن يثنيه عن عزمه، وأوضح له أن كل واحد من أفراد الفريق ناقص في ذاته، وأن الكمال إنما يكون في الفريق مجتمعا.

يعتقد الإنسان أنه مخلوق مركزيّ عظيم، ويصل به الغرور حدودا ينسى فيها مدى ضآلته وصغر حجمه، وفي هذه اللحظة بالذات يجب أن ينظر الإنسان إلى الكون الهائل ذي الجبروت العظيم من حوله، حتى يدرك كم هو صغير، ومن أجل أن يعلم كذلك أن الله العظيم الذي خلق الإنسان واستخلفه في قيادة الكون، يمكنه أن يسلبه هذه القوامة، ويصطفي لها خلقا آخرين.


إعلان