“نشأة جديدة”.. إعادة فيل الماموث المنقرض إلى الحياة

خاص-الوثائقية
“رزق مغمس بالدم”. ثلاث كلمات تصف عمل الصيادين بجزر سيبيريا الجديدة النائية في المحيط المتجمد الشمالي، الذين يبحثون عن الأنياب العاجية لحيوانات الماموث الوبري المنقرضة منذ 4 آلاف عام، مستفيدين من الاحتباس الحراري الذي أدى لذوبان الجليد الدائم وساهم في انكشاف الذهب الأبيض.
كما يبحث هؤلاء الصيادون عن أجزاء من جيف هذا الحيوان الضخم الذي يماثل في حجمه الفيلة الحديثة لكن جسمه كان يغطيه وبر بني طويل وكثيف ليحيمه من الصقيع والأجواء السيبيرية القاسية ونابان من العاج هما أصل الحكاية والهدف المنشود.
ظهر الماموث “الوبري” لأول مرة منذ 700 ألف سنة في سيبيريا وانتشرت عشائره لتصل إلى المناطق الشمالية من أوراسيا وأمريكا الشمالية.
ومع انتهاء العصر الجليدي، قل وجود الماموث بسبب التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة كما كان هناك دور في عملية انقراضه للصيادين اللذين حاولوا اصطياده لفترة طويلة من الزمن.
ماموث بلحمه وشحمه.. اكتشاف يلفت أنظار العلماء
وثق الفيلم الوثائقي “نشأة جديدة” رحلة العمل الشاقة والمتعبة التي قد يدفع الصياد فيها حياته مقابل حفنة من الدولارات، وقد عرضته الجزيرة الوثائقية، كما قدم الفيلم أول اكتشاف لماموث كامل بلحمه وشحمه محفوظ منذ عشرات آلاف السنين، وكان هذا الكشف بذرة ونقطة جذب لعلماء الجينات وضربة بداية لعملية استنساخ هذا الحيوان وإعادته إلى الحياة مجددا عبر استخدام خلية حية من الجيفة.
ويبحث الفيلم في الأسرار والألغاز المخبأة في الطبيعة والاختلاف الجوهري في منظور الخلق ودور الإنسان فيه.
رافق الفيلم مجموعة من الصيادين تركوا منازلهم وعائلاتهم وركبوا المحيط برحلة محفوفة بالمخاطر في مناخ سيبيري لا يقوى بشر على تحمله، وقد قطعوا مسافة 350 كيلومترا بقارب مطاطي متواضع متجهين نحو جزر نائية في المحيط المتجمد الشمالي، محملين ببعض الأدوات البدائية والأسلحة البسيطة للدفاع عن أنفسهم.
يسير الصيادون عشرات الكيلومترات ويحفرون بأيديهم وبأدواتهم البسيطة في الأرض بحثا عن أي شيء قاسٍ، فالمحظوظ يجد نابا أو أجزاء من جيفة الماموث، ولصاحب الحظ العاثر خشب أو جذع شجرة، وعليه أن يعيد الكرة على أمل أن يبتسم الحظ له.

حيوان ياقوتيا المقدس.. رفيق رجل الكهف منذ آلاف السنين
لكل واحد من الصيادين قصته وأسبابه القاهرة التي دفعته لتحمل كل شيء والتضحية بحياته من أجل القدوم إلى هذه الجزر بحثا عن العاج الثمين الذي يعد مصدر دخل رئيسيا لأبناء قرى جمهورية ساخا المعروفة أكثر باسم منطقة ياقوتيا في الاتحاد الروسي.
وياقوتيا أكبر بمساحتها من كازاخستان التي هي ثاني جمهورية سوفياتية بالمساحة بعد روسيا، وأكبر من الأرجنتين، ورغم ذلك لا يزيد عدد سكانها على مليون نسمة؛ أي أنها الأقل كثافة سكانية في العالم.
وقد كشفت الدراسات أنّ قطعانا كبيرة جدا من الماموث كانت تستوطن تلك المناطق منذ آلاف السنين. ونظراً للقيمة الفنية التي يتميز بها عظم هذه الفيلة؛ ولا سيما أنيابها الكبيرة الطويلة المعقوفة، شهدت منطقة ياقوتيا موجة بحث كبيرة عن عظام الماموث وأنيابها.
بالنسبة للسيبيريين فإن الماموث ليس مصدر رزق فحسب وإنما هو “حيوان مقدس بل الأكثر قداسة على الإطلاق” وعاش مع رجل الكهف لعشرات آلاف السنين، بحسب “سيميون غريغوريف” مدير متحف الماموث في سيبيريا.

صيادون أصابتهم لعنة الماموث.. خرافات ومعتقدات أسطورية
يعتقد السكان المحليون في ياقوتيا كثيرا من المعتقدات الشعبية الأسطورية حول حيوان الماموث. يقول “سيميون غريغوريف” مدير متحف الماموث في سيبيريا: كان السيبيريون يعتقدون أن الماموث يعيش في العالم السفلي ولمس جيفته أمر سيء، ومن يجد أجزاء من هذه الجيفة يموت حتما.
ويروي الصياد “بيتر غريغروف” قصة لأحد الأشخاص الذي يعرفهم قائلا: عثر هذا الرجل على عدد كبير من الأنياب لوحده على عكس باقي أعضاء فريقه الذين كانوا أقل حظا منه، وبعد انتهاء موسم الصيد عاد إلى موطنه كازاجي ومات في اليوم التالي، وقيل وقتها إن سبب وفاته هو عبثه بالأرض واستخراجه الأنياب.
ويروي مرافق للصيادين في رحلتهم أول مرة زار فيها المنطقة واصفا إياها بكوكب المريخ، وتابع: صادفت أناسا يختبئون بطريقة غريبة وعجيبة من خفر السواحل الروسية، كما أن هناك سجناء روسيين سابقين يستخدمون الدبابات بحثا عن الأنياب العاجية، فلكل شخص يعيش على هذه الجزر معركة يخوضها من أجل رزقه.
ويتابع بمشاهداته عن خطورة المنطقة قائلا: المنطقة القطبية الشمالية غيرتني، فرغم خطورة المكان ووحشته فإنه ساحر، فكل عام يخفق رجلان أو ثلاثة في العودة لديارهم سالمين. أخبرني الصيادون عن رجل جاء إلى الجزر بمفرده، وكان محظوظا فوجد ثلاثة أنياب من النخب الأول، لكن لاحقا نفد منه الطعام وضل طريقه ونسي طريق العودة، وبعد فقدان قدرته على التحمل أعد مشنقة من الأنياب الثلاثة وانتحر.

عاج بملايين الدولارات.. بضاعة رائجة في الصين الجارة
نظرا لارتفاع نسب البطالة بين سكان منطقة هي من بين الأقسى مناخيا في العالم، تجاوز عدد كبير من السكان المحليين -خلال العقد الماضي- موروثاتهم الخرافية حول حيوان الماموث، وبدؤوا يبحثون عن أنيابه لبيعها في السوق السوداء.
وساعد ارتفاع الطلب في الصين القريبة من ياقوتيا على انتشار عمليات البحث وتوسعها وتحولها من فردية إلى منظمة، وتختلف أسعار أنياب الماموث بحسب جودتها ولكنها تبلغ مئات الدولارات للكيلوغرام الواحد، أما كيلوغرام العظام فلا يتجاوز سعره عشرات الدولارات.
ويعمل نحاتون صينيون على تحويل ناب الماموث إلى أعمال وتحف فنية قد يصل سعر أفضلها إلى مليون دولار، ويباع ما دون ذلك مقابل مئات آلاف الدولارات، بينما يستخدم الأقل جودة في المجوهرات والتذكارات.

نزيف في البطن أثناء الحفر في الجليد.. صدمة علمية
كان حيوان الماموث مجرد بضاعة يبحث عنها السكان المحليون ثم يبيعونها، غير أن إيجاد جيفة كاملة لهذا الفيل قلب المعايير، فتحولت النظرة لهذا الكائن من تجارية بحتة إلى علمية، ووصف الاكتشاف –الذي تحدثت عنه معظم وسائل الإعلام العالمية- بأنه “أعظم اكتشاف في العقود الأخيرة” بحسب وصف “سيميون غريغوريف”.
وأضاف أن هناك مجموعة من الصيادين كانوا يبحثون كالعادة عن أنياب عادية لكنهم وجدوا ماموثا كاملا محفوظا بطريقة لا مثيل لها على الأرض.
ووصل الأمر بمدير المتحف “غريغوريف” إلى مقارنة هذا الاكتشاف بأنه مثل “أول رحلة إلى الفضاء أو بناء سور الصين العظيم.. إنه حدث عالمي”.
وأضاف “عادة ما أسأل عما إذا كان العلماء يريدون أن يحلوا مكان الإله وإحياء الكائنات المنقرضة بعد موتها”، فيشرح هذه العملية بالقول “يزرع الجنين في رحم أنثى الفيل، وإذا سارت الأمور بطريقة جيدة، يولد صغير ماموث بعد 22 شهرا”.
وعندما علم “غريغوريف” عن الكشف، طلب من الصيادين إعادة كل شيء لمكانه وأرسل بعثة ترأسها هو لانتشال الماموث ونقله إلى المختبر لإخضاعه للتحاليل والاختبارات، والأهم إيجاد خليه حية.
وكان ملفتا أنه خلال عملية تكسير الجليد لإخراج الماموث من الأرض، خدش أحد أعضاء الفريق، منطقة البطن عند الماموث فنزف في ظاهرة تكررت مرتين وصدمت العلماء الموجودين على الأرض مع الفريق البحثي.

إعادة الماموث إلى الحياة.. رحلة إلى الصين
وقد تعرض الماموث الوبري لكارثتين أسهمتا في تراجع أعداده، الأولى منذ نحو 280 ألف عام وقد أفلت منها، والثانية منذ 12 ألف عام قرب نهاية العصر الجليدي ولم ينج منها، غير أن العلماء –ومن بينهم غريغوريف- يأملون في إعادته إلى الحياة عبر الاستنساخ.
بعد نقل الجيفة إلى المختبر، انكب “غريغوريف” وزوجته التي تعمل في نفس اختصاصه على استخراج خلية حية قد تكون بارقة أمل بالنسبة له ليبدأ رحلة العمل على استنساخه.
وبعدما حصل عليها سافر وزوجته بالعينات إلى شركة في كوريا الجنوبية تعنى باستنساخ الكلاب. وبحسب مديرها “وانغ وو سوك” فإنها نجحت في استنساخ 900 كلب، ويدفع الزبون نحو 100 ألف دولار مقابل الكلب المستنسخ كما تمنح الشركة نسخة مجانية مطابقة من الكلب.
ويتابع المدير أن “شركته هي الوحيدة في العالم التي نجحت في فعل ذلك بعد نجاحنا في استنساخ الذئب البري، اتصل الروس وطلبوا مني استنساخ الماموث، وفي حال نجاحنا بهذا الأمر سيكون اكتشافا علميا هائلا، المهم أن نجد خلية حية”.
ولكن للدكتور “وانغ” -الذي كان يطلق عليه فخر “كوريا الجنوبية” ويزعم أنه عبقري وريادي- فضيحة علمية، إذ حكم عليه بالسجن لعامين مع وقف التنفيذ بعد اتهامه بأن كل أبحاثه عن الخلايا الجذعية مزيفة، ليخسر مصداقيته وسمعته بالكامل.
غير أن “وانغ” عاد للمشهد العلمي من باب استنساخ الحيوانات، وقد دعا “غريغوريف” وزوجته والفريق المرافق لهما لزيارة مركز “بي جي آي” -وهو أحد أكبر مراكز التسلسل الجينومي بالعالم، ويقع في مدينة “تسنسن” الصينية- على أمل أن تسمح العينات التي حملها معه العالم الروسي، في استخراج الحمض النووي في حالة جيدة الحفظ من الماموث المكتشف ودراسة الجينوم الخاص به والمساعدة في استنساخه.

عاصفة في طريق العودة.. محيط جليدي لا يرحم
افتتح في الصين عام 2016 ما يسمى بالبنك الوطني للجينات، وتديره شركة “بي جي آي” وهدفه “رقمنة جينومات كل كائن حي يعيش على سطح الأرض”. وتسمح رقمنة الحياة للشركات بالإمساك بزمام التطور بأيديها لكي تُعدل الحياة وتتاجر بها.
وبينما لا يزال “غريغوريف” يأمل بإيجاد خلية حية ليتمكن بعدها من استنساخ ماموث، كان الصيادون يكابدون نقص الطعام وسوء الأحوال الجوية والبرد القارس بحثا عن أنياب هذا الحيوان الذي تحول لبارقة أمل لفقراء سيبيريا.
ويشرح المرافق للفريق كيف أن المنطقة القطبية الشمالية ومناخها غير متوقعين و”تتصرف بعدائية شديدة” تجعل البقاء فيها أمرا صعبا أو حتى شبه مستحيل.
وهذه المعاناة لا تكمن فقط في الجزر، فللمحيط المتجمد الشمالي تاريخ في ابتلاع مياهه لقوارب الصيادين، إذ يلتهم هذا المحيط سنويا سفينة أو سفينتين لصيادين كانوا يبحثون عن قوتهم في جزره.
بعد انتهاء موسم الصيد وبدء التحضيرات للعودة إلى البر بدا الصيادون قلقين يخشون من مصير أقرانهم وينظرون إلى المحيط وأمواجه المتلاطمة والمستفزة وكأنها تناديهم وتقول لهم “لن تنجوا”.
وصل المركب المطاطي وصعد الصيادون مع غنائمهم على متنه، والسؤال الذي كانوا يكررونه هو “هل الأمواج عالية؟”. انطلق المركب بسرعة، فعليه يصل قبل أن يثير غضب المحيط والأجواء المناخية.
غير أن ما توقعوه حصل وهبت عاصفة هوجاء بعد مغادرتهم، وثقبت الأنياب المراكب المطاطية، وبدلا من أن تستغرق الرحلة يومين دامت 4 أيام، غير أنه كل الصيادين نجوا، وكذلك الأنياب التي كان يبلغ وزنها 450 كيلوغراما، ومعظمها لم يكن من النخب الأول والجودة العالية.
بيعت هذه الأنياب لتجار صينيين بمبالغ زهيدة، ولم يجنِ الصيادون إلا بضع مئات من الدولارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
يستحقون أن يطلق عليهم لقب مغامرين لا صيادين، لأنهم أرادوا البحث عن الرزق في أقسى منطقة مناخية فوق ظهر البسيطة لإطعام أبنائهم أو سد ديونهم أو تحسين أوضاعهم، فكانوا ممن يحفرون الصخر بريشة.