قصة الروبوت.. ميلاد الإنسان الآلي بعد مخاض طويل
خاص-الوثائقية
الروبوتات في كل مكان حتى في الأغاني المصوَّرة، وهي تصنع السيارات الضخمة والإلكترونيات الدقيقة وكل ما يخطر ببالكم، وبعضها مصنوع للترفيه وحسب، لكنها كلها تلامس حدود ما يمكن للأنظمة الآلية تحقيقه، فعصر الروبوتات ما زال في بدايته، وما وصل إليه الروبوت اليوم هو فقط ما حققناه في عصر الحاسوب في الخمسينيات.
الإنسان الآلة.. حلم الإغريق الذي حققته بغداد
تعمل المختبرات في العالم على صناعة سلالة جديدة من الروبوتات، ولن تكتفي هذه المخلوقات بمجرد صناعة الأشياء أو تنفيذ مهام رتيبة، بل إنها ستتفاعل معنا وتصبح صديقة لنا، أو ربما تعادينا، وللذين يخافون على الوظائف، فإن البشرية ستحتاج إلى المزيد من هذه الروبوتات دون أن تزاحمنا، بل إنها ستؤدي الوظائف التي تنفذها العمالة الرخيصة اليوم.
بدأت الحكاية قبل آلاف السنين عند قدماء الإغريق، ففي عام 800 ق.م. كتب هوميروس أسطورة “هيفيستوس” إله النار والحرف اليدوية الذي صنع لنفسه خادمتين آليّتين، ومن هناك نشأت فكرة الإنسان الآلة ذي القوة الخارقة. وبعده بـ800 عام قرر مخترع يدعى “هيرولون” الإسكندراني تحقيق الحلم، فصمم آلات تستطيع أن ترفع نفسها على المسرح، وتقوم بأعمال مثل إشعال النار وصبّ النبيذ.
وفي القرن التاسع الميلادي عمد ثلاثة من الأشقاء إلى استخدام الخشب والأسلاك وصمموا آلة أوصلتنا إلى العصر الرقمي والروبوتات، وقد كان ذلك في بغداد عاصمة الحضارة في ذلك الزمان، وتحديدا في بيت الحكمة، وكان أولئك الأشقاء بني موسى الشغوفين بعلم الميكانيكا، حيث ألّفوا “كتاب الحيَل” (كتاب في الهندسة)، واستودعوا فيه مئة اختراع من أعمال الإغريق، واختراعاتهم هم أنفسهم، وتصميم آلة تسمع الموسيقى وتعيد تأليفها.
بنو موسى.. آلة النسخ الصوتي وحفظ الموسيقى الأولى
كانت آلة النسخ الصوتي وحفظ الموسيقى طفرة في ذلك الزمان، وهي نموذج بدائي لما يعرف بالقرص الصلب الآن، ويمكن توصيف الآلة ببساطة بأنها أسطوانتان من الخشب، إحداهما تقوم بتسجيل النغمات عن طريق رؤوس أقلام موصولة بأصابع معدنية، وهذه الأصابع موصولة بخيوط إلى حلقات يضع فيها العازف أصابعه، وبهذا تنتقل حركات أصابع العازف على شكل خطوط متقطعة على أسطوانة التسجيل.
أما الأسطوانة الأخرى فترتسم عليها نفس الخطوط وتعمل بعكس الأولى، فبعد أن تحفر أخاديد في المكان الذي تركت فيه الأقلام آثارها، تقوم عجلات صغيرة بالسير في هذه الأخاديد والمرتفعات، وهي أيضا موصولة عن طريق أصابع معدنية وخيوط، إلى سدّادات على ثقوب المزمار الذي سيعيد العزف، وعند إدارة الأسطوانة سيخرج من المزمار نفس النغمات المعزوفة على المزمار الأول.
كانت أجيال كثيرة تحلم بصناعة آلات تحاكي عمل الإنسان، ووصلت الجهود ذروتها بعد 900 عام من حِيَل بني موسى بصناعة آلة الكاتب التي صنعت في سويسرا في سبعينيات القرن الـ18، وتضم 6 آلاف قطعة متحركة، وتستطيع كتابة نصوص على شكل مقاطع من 40 حرفا، وتغمس الريشة في الحبر، وتهزها لتتخلص من الحبر الزائد.
ولكن ما زالت كل هذه المحاولات أدنى من مستوى الروبوت، فهي لا تتعلم ولا تغير سلوكها بنفسها، ولا تستطيع التفكير. لكنَّ لحظة مفصلية من الزمن تآلفت فيها أحداث غير منسجمة وبمحض الصدفة التامة، لتنتج لنا مشروعا إبداعيا لآلة ميكانيكية تستطيع إجراء عمليات حسابية. فقد تواطأت أزمة ملاحة بحرية وصداقة غير متوقعة بين ابنة شاعر وبروفيسور متميز، لدوران تروس هذه الآلة.
كوارث الملاحة البحرية.. رب ضارة نافعة
في مطلع القرن الـ19 كانت البحرية البريطانية هي الأضخم عالميا، وقد اعتمدت الملاحة حينها على النجوم، وكان لدى البحارة جداول من الأرقام لاستخراج الإجابات المناسبة، والمشكلة أن هذه الجداول مليئة بالأخطاء، وكثيرا ما حصلت كوارث بسبب هذه الأخطاء، ثم ظهر “روبرت بابيج” الذي أحب الآلات منذ طفولته، ودرس الرياضيات في كامبردج، وصار يعمل على تصحيح جداول الملاحة.
كان عمله مملا وكان محبطا من كثرة الأخطاء التي يجدها، وكان يشكو لزميله في العمل: “أتمنى لو توجد آلة تحسب هذه الأرقام”، وكانت هذه نقطة الانطلاق، وبدأ “بابيج” بصناعة الآلة، وأسماها “المحرك التفاضلي”، وهي تعتمد على تجزئة المعادلات المعقدة إلى عمليات بسيطة يمكن حسابها ثم إعادة تركيبها لحل المعادلة الأولى، والآلة مجموعة من التروس والصفائح التي تتحرك بذراع دوّار.
حصل “بابيج” على تمويل يعادل 5 ملايين دولار بأسعار اليوم، ولكن حصل خلاف مع مساعده، ولم يكتمل المشروع، ونفدت أمواله بعد إنجاز جزء صغير من الآلة، ولكن في العام 2002 قام متحف العلوم في لندن باستكمال بناء الآلة حسب مخططات “بابيج”، وهي تعمل بشكل تقني دقيق وشكل فني جذاب للغاية.
في إحدى حفلاته التقى “بابيج” بـ”آدا بايرون” ذات الـ17 ربيعا، وهي ابنة الشاعر الرومانسي الشهير “اللورد بايرون” الذي ترك أمها بعد شهر من ولادتها، وتكفلت الوالدة بتدريسها العلوم والرياضيات بدلا من اللغة الإنجليزية. وقد شدّت الآلة التي صنعها “بابيج” انتباه “آدا”، وقضت فترة طويلة تحدق في هذا الاختراع المبهر، ومن لحظتها بدأت صداقة أبدية بين “بابيج” و”آدا”.
عالِم الرياضيات وابنة الشاعر.. عندما تمتزج العبقرية بالعواطف
تزوجت “آدا” من “وليام كينغ” وأنجبت له ثلاثة أطفال، لكنها لم تتخلّ عن دراسة الرياضيات، بينما استمر “بابيج” في محاولاته لبناء آلة جديدة أسماها “المحرك التحليلي”، ويبلغ طولها 3.7 مترا وارتفاعها 4.5 مترا، وسوف تعمل بالبخار. وفي العام 1842 طُلِب من “آدا” ترجمة مقال إيطالي يتحدث عن آلة “بابيج”، وبعد أن أتمّت ترجمته أضافت بعض الهوامش على المقال، ونشرت مذكراتها في كتاب.
أدركت “آدا” أن الآلة تستطيع العمل على أي شيء غير الأرقام كالموسيقى مثلا، وقد كتبت: “إن المحرك ربما يؤلف مقطوعات موسيقية واضحة، وبأي درجة من التعقيد”، وأدركت أيضا أن المحرك التحليلي يمكنه القيام بمهام لا تحصى، وهكذا بدأت فكرة العقل الصناعي، وبهذا يصنف محرك “بابيج” بأنه أول حاسوب آلي، والجدول المرافق على أنه أول برنامج حاسوبي.
ماتت “آدا” سنة 1852 وماتت معها أفكارها حول العقل الاصطناعي، ولم يهتم أحد بوضع هذه الآلة في جسم ميكانيكي. في ذلك الزمان لم تكن كلمة “روبوت” قد ظهرت بعد، وهذه لها قصة أخرى حصلت في “براغ” عام 1920، عندما اندفع مسرحيّ شاب إلى مرسم أخيه، ليخبره عن فكرة رواية فيها جنود آليون، ولكنه لا يجد لها اسما، فقال الأخ الرسّام: سمِّها “روبوتا”، وهي كلمة سلافية معناها “العُمّال بالسخرة”.
حاسوب “تورينغ” الصغير.. هل تُملي الآلات علينا أفكارها؟
في العام 1935 كانت هنالك قفزة أخرى في عالم الروبوتات، وقد حدث ذلك على ضفاف نهر “كام” عندما كان الشاب “آلان تورنغ” يمارس رياضته اليومية، وهو بالمناسبة زميل في جامعة كمبردج ويدرس الرياضيات، وقد كان يفكر في مسألة رياضية تتعلق بحدوث الرياضيات ذاتها، وهداه تفكيره إلى ضرورة وجود آلة فيها ذاكرة، ومخزَّن بها برنامج يستطيع حل أي مسألة رياضية ممكنة التوصيف.
وقدّم “تورنغ” ورقة علمية في 1936 لم تكن في طبيعتها حلا لمسألة بعينها، بل يمكن اعتبارها لغة برمجية لحل المسائل الرياضية، وبهذا أدرك “تورنغ” أن آلته هي دماغ آلي يحل أي مسألة رياضية خاضعة للعقل والمنطق. لكن نشوب الحرب العالمية الثانية قد عطّل استكمال أبحاث “تورنغ” الذي كرّس نفسه لفك شيفرات الجيش الألماني، ولكن تفكيره ما زال في قدرات آلته المستقبلية.
في عام 1948 بنيت أول نسخة مبسطة من الآلة في مانشستر، وأطلق عليها اسم “الحاسوب الصغير” إلا أن حجمها كان كبيرا بطول 5 أمتار وارتفاع مترين، وتزن طنا واحدا، وتستخدم 550 صماما مفرغا (ترانزستور)، ومزودة بذاكرة تحفظ العمليات الحسابية والبرنامج نفسه، وكانت البيانات فيها تخزن على شكل نقاط وفواصل على أنابيب تلفزيونية مضيئة، وتدخل البيانات إليها عن طريق النظام الثنائي (0,1).
في 1951 بث “تورنغ” بحثا إذاعيا بعنوان “هل تستطيع الحواسيب التفكير؟” استذكر فيها كلام “آدا” عن أن الحواسيب تستطيع إنجاز أي عملية منطقية ما دام البرنامج المخزن يستطيع ذلك، وأن هذه الحواسيب الرقمية لا تستطيع القيام بأي عمل غير مبرمج فيها مسبقا، ولكنه في النهاية اختلف معها: “ماذا لو استطاع الحاسوب الإتيان بفكرة لم نطلبها منه؟ ماذا لو فاجأنا بأفكار ومقترحات جديدة؟”
خلص “تورنغ” إلى تعريف مختلف للذكاء، كان لا يهمه إذا قامت بهذه العمليات الذكية خلايا حية في الدماغ أو دوائر كهربائية، وبينما كان العالم يتفاعل مع الحواسيب الصغيرة، كان “تورنغ” يفكر في الآلات الذكية، وقد طوّر ما يسمى “اختبار تورنغ”، على شكل أسئلة وأجوبة بين الإنسان والآلة. بدا “تورنغ” كأنه يريد تغيير العالم، لكنه في العام 1954 وُجد مسموما في سريره، وأعلنت السلطات أنه انتحر.
السلحفاة البرّية.. معجزة الخمسينيات التي تتخطى العوائق
بدأ العلماء محاكاة أبسط العمليات التي تقوم بها كائنات حية غير معقدة تقوم بعملياتها الحياتية بروابط بالغة البساطة والمحدودية داخل أدمغتها، ففي معهد “بريستول” صنع البروفيسور “أوين هولاند” نسخة مماثلة من آلة تتصرف مثل سلحفاة كان قد صنعها العالِم النفسي “غراي والتر”، وهي تقوم بوظيفتين فقط، تغيِّر اتجاهها عندما تصطدم بالأشياء، وتتبع مصدر الضوء بواسطة مستشعر.
كان هذا إنجازا مبهرا في خمسينيات القرن الماضي، وقد فتح المجال لصناعة روبوتات بسيطة تستطيع أن تظهر ردات فعل مدروسة لمؤثرات بيئية محيطة، وصار يمكن البناء على هذه الآلات الذكية لمهام أكثر تعقيدا. وهكذا عندما ندمج بين حاسوب “تورنغ” والآلة الذكية لـ”غراي والتر” فسوف نحصل على آلة ذكية بإمكانها التفكير واتخاذ القرار.
وبالفعل فقد تطورت هذه الفكرة، غير أنها استغرقت عقودا حتى أمكن اختبارها بنجاح مميز في رحلة روبوت إلى المريخ عام 2011، ونظرا لبعد المسافة فقد تعين على الروبوت أن يتخذ القرارات بنفسه، وبشكل مستقل.
غزو الفضاء.. ذكاء الروبوت في مناطق لم يصل إليها الإنسان
بحلول 2012 كانت مركبة “كيريوسيتي روفر” على وشك هبوط خطر على الكوكب الأحمر، وذلك لأن الغلاف الجوي للمريخ قليل الكثافة جدا، ولا يكفي لامتصاص سرعة المركبة الهابطة.
اندفعت المركبة “كيريوسيتي” نحو المريخ بسرعة 20 ألف كم/ساعة، والمطلوب منها اختيار زاوية الارتطام بدقة، واختيار لحظة فتح المظلات حسب الإشارات الصادرة من مجساتها، وبعد تخفيض السرعة بالقدر المناسب كان عليها اتخاذ قرار بانفصال نظام الدرع الحراري عن جسم المركبة، ثم الهبوط الحر على السطح، وبعدها تحرير العربة الذكية، وقد سار كل شيء على ما يرام.
وفي عام 2018 كان الهبوط أكثر سلاسة وأقل خطوات، وبهذا تثبت الروبوتات مدى نجاعتها في المناطق التي يتعذر على البشر الوصول إليها، وقد طورت شركة أمريكية روبوتات يمكنها التعامل مع الألغام والعبوات الناسفة، واستخدمها الجيش الأمريكي في حروبه في العراق وأفغانستان، واستخدمت أيضا عند انفجار محطة فوكوشيما النووية في اليابان.
يعمل في المصانع الآن أكثر من مليوني روبوت، وما زالت المصانع بحاجة إلى ملايين أخرى منها دون التأثير على القوى العاملة البشرية، وتواجه الروبوتات العاملة في المصانع مشكلة السلامة، أي تهديد سلامة البشر الذين يعملون في محيطها، ولذا فغالبا ما تستخدم الروبوتات في مناطق معزولة عن البشر حفاظا على سلامتهم.
“آي كَب”.. روبوت إيطالي يتعلم ويعلم أبناء جنسه
قام مجموعة من العلماء في ألمانيا بتطوير إنسان آلي يتحكم بكمية العزم الذي تنفذه مفاصله، وأسموه “تورو”، وجرت تجربته بالوقوف على مجموعة من المراتب الإسفنجية، دون أن يسقط أو يعتمد على إنسان، وإنما فقط ببذل القوة والعزم اللازمين لكل مفصل حتى لا يفقد توازنه، ويأمل العلماء من هذه التجربة صناعة روبوت يعمل إلى جانب الإنسان يدا بيد دون حاجة للمساعدة.
الخطوة القادمة كانت في كيفية تعريف الروبوت على العالم المحيط به والتمييز بين أجزائه، وقد قام معهد في إيطاليا بهذه التجربة على الروبوت “آي كَب”، وعن طريق كمية المعلومات المدخَلة إلى ذاكرته كان “آي كب” يميز بين صديقه الإنسان وبقية الأشياء الأخرى، فهو يرد على أسئلة الإنسان، ويميز بين كوب القهوة وزهرة عباد الشمس، والأهم من ذلك أنه يستطيع الفصل بينها وبين الإنسان نفسه.
ويستمر التعامل مع “آي كب” وتعليمه مثل الطفل الصغير، وقد تميز هذا الروبوت بقدرات بصرية مميزة، فهو يستطيع أن يتابع بنظره مضرب التنس المتحرك، وله قدرات على العزف على البيانو، ويلعب رياضات يابانية خاصة، بل ويستطيع أن يعلّم أقرانه من الروبوتات ما تعلمه من مهارات.
وبعد، فماذا يخبئ لنا المستقبل؟ هل ستسيطر الروبوتات على العالم؟ وهل ستثور علينا كما تصورها بعض الأفلام؟
ليس بالضبط، فمنذ حوالي 100 عام تعامل البشر مع مستويات مختلفة الذكاء من الروبوتات، ولم يسجل ضدها أي سوء تصرف، أو مظاهر عداء للبشر، ولذلك فمن المستبعد أن تناصبنا الروبوتات الخارقة الذكاء العداء، بل ستأخذ بيدنا إلى غد أكثر سلاما لها وللبشر معا.