“هنا الإذاعة السورية من دمشق”.. إذاعة كل العرب

سنان ساتيك
عند الساعة السابعة من صباح 3 فبراير/شباط عام 1947 يتهيأ عدد من الفنيين في مبنى مستأجر متواضع يفتقر إلى التجهيزات الكاملة في شارع بغداد في العاصمة السورية دمشق بمعداتهم البسيطة، لينطلق صوت “يحيى الشهابي” الرخيم بعبارة “هنا الإذاعة السورية من دمشق.. إذاعة كل العرب”، مُعلنا عبرها انطلاق أثير إذاعة دمشق.

الجلاء الفرنسي.. محتوى عربي يُعايش المجتمع
لم تكن إذاعة دمشق الأولى في سوريا، فقد كانت هناك محاولات لإطلاق إذاعات في ظلّ الاحتلال الفرنسي، لكن سرعان ما كانت تتعطل لتضييق الاحتلال عليها أو لضعف الإمكانات، وعدم القدرة على الاستمرار في هذا المشروع. وتُعد هذه الإذاعة امتدادا للإذاعة التي أسسها الانتداب الفرنسي في 11 فبراير/شباط 1942 بإشراف من العقيد الفرنسي “بيل”، وإدارة سامي الشمعة ونشأت التغلبي ويحيى الشهابي.
في هذه الفترة كان هدف القائمين على الإذاعة استقطاب الفنانين المعروفين من سوريا ولبنان وفلسطين، كما أن برامجها اعتمدت على إحياء التراث، وعلى مؤلفات موسيقية لملحنين وموسيقيين معروفين وقتها، لكنها كانت ضمن القوالب الموسيقية التقليدية[1]، لا تحمل تطلعات جديدة تنسجم مع الرؤى التي يطمح إليها القائمون على الإذاعة.
كتب الله الجلاء على الفرنسيين فخرجوا من سوريا في 17 أبريل/نيسان 1946، ليتوفر المناخ الملائم لإطلاق إذاعة محلية مستقلة من شارع بغداد، حتى بُني المقر الجديد للإذاعة في شارع النصر، ثم انتقلت فيما بعدُ إلى مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين وسط دمشق.
انطلقت الإذاعة تحكي عن السوريين وحياتهم، وتقدم مادة إعلامية بمحتوى عربي يُعايش المجتمع، فبدأت في سنواتها الأولى تهتم باللغة العربية والتراث، مع بث بعض الأغاني التي ساهمت في ازدهار الأغنية العربية وتطورها وشهرة أصحابها.

هدى وعبلة.. الصوت النسائي الأول
استطاعت إذاعة دمشق في انطلاقتها عبر السنوات الأولى أن تواكب الأحداث العالمية والعامة والمفصلية في سوريا والوطن العربي، رغم أن بثها يستمر ست ساعات يوميا فقط (كان في البداية ساعتين)، كما تمكنت من أن تحكي عن الناس وهمومهم وتصوّر قضاياهم، وتواكب أحوالهم ومعيشتهم.
احتاج السوريون في تلك الفترة إلى وسيلة إعلام تُعبّر عن ذواتهم ويومياتهم، فراحت الإذاعة المحلية تسير مع تطلعاتهم عبر طرح كل القضايا الاجتماعية المختلفة بأسلوب طريف، من خلال أعمال درامية ساهم في تقديمها عدد من الفنانين الروّاد، منهم حكمت مُحسن الذي راح يُجسّد تمثيليات إذاعية عن يوميات دمشقية باللهجة الدمشقية المحلية، عكس السائد وقتها بتقديم الإنتاج باللغة العربية الفصحى، فأصبح رائد الدراما الشعبية السورية. كما برز أنور البابا وفهد كعيكاتي، وتيسير السعدي الذي قدم مسلسلا إذاعيا بعنوان “صابر وصبرية” مع زوجته صبا المحمودي، ويحكي فيه يوميات حياتية بسيطة.
وظهر أول صوت نسائي هو هدى شعراوي[2]، عندما شاركت في بعض التمثيليات في الدراما الإذاعية التي قدمت أعمالاً مميزة ومرتبطة بالأحداث التي تمر بها المنطقة العربية في ذلك الحين.
ويروى أيضاً أن أول صوت نسائي انطلق من الإذاعة هو للمذيعة عبلة أيوب الخوري، حين انتسبت إلى إذاعة دمشق في بداياتها، وظلت تعمل بالإذاعة السورية تسع سنوات، حتى انتقلت إلى إذاعة لبنان في بيروت[3].
“بوفارس عندو جنينة”.. انطلاق شرارة الطرب
عملت إذاعة دمشق منذ الانطلاقة الأولى لها على استقطاب العديد من المطربين الذين لم يكونوا معروفين في تلك الفترة، والذين صاروا لاحقا من أعمدة الفن والطرب، مثل فايزة أحمد وفيروز التي احتضنتها الإذاعة منذ أغنية “غيرة” و”بوفارس عندو جنينة”، وهما من نوادرها التي ما تزال محفوظة في أرشيف الإذاعة.
أما وديع الصافي فوجد في إذاعة دمشق ملجأ ليبثّ عبرها أغانيه، فعندما سجّل أغنية “ع اللوما” في الإذاعة اللبنانية لم تلقَ النجاح، فقرر أن يحملها ويرحل بها صوب إذاعة دمشق كي تُبث عبرها[4]، فحققت نجاحا أسّس له خطواته الفنية الأولى التي أرست له الدعامة ليكون أحد أعمدة الطرب في الوطن العربي، وكذلك ما حصل مع عبد الحليم حافظ في أغنية “صافيني مرة” التي كانت بدايتها من تلك الإذاعة[5].
لم تتوقف إذاعة دمشق عند الفنانين العرب، فقد دعمت المواهب الغنائيّة السورية، وأطلقت أسماء عديدة في عالم الغناء العربي، مثل فتى دمشق وماري جبران ونجيب السرّاج ورفيق شكري. كما أنشأت “معهد الموسيقى الشرقية” الذي عمل على صقل مواهب الموسيقيين والمطربين والكورال بطريقة علمية حديثة ممنهجة، فصارت نقطة التقاء للفنانين، ومُنفذاً يُطلّون عبره ويقدمون إنتاجهم الفني. كما أسّست فرقتين كبيرتين للموسيقى الكلاسيكية والغناء الشعبي واكبت أعمال فيروز وسعاد محمد ونجاح سلام ومعن دندشي وفتى دمشق[6].
راديو في المقاهي.. الجمهورية العربية المتحدة
تعوّد الناس سنوات طويلة على أنغام بزق محمد عبد الكريم (أمير البزق) الذي كان يبدأ البث بأنغامه، كما ارتبطت بأصوات مذيعين ومذيعات استمع إليهم السوريون طويلا حتى صاروا مُقترنين بهم وبيومياتهم، مثل يحيى الشهابي وفخري البارودي وصباح قباني وعادل خياطة وفريال أحمد.
إن حاسة السمع هي الأقدر على تنمية الخيال ورسم الصور للكلام المنقول عبر جهاز الراديو، فأقبل أهل دمشق على هذا الجهاز يتجمعون في المقاهي ليستمعوا إليها، إذ كان عدد أجهزة الراديو يومها محدودا لا يتوفر في البيوت، ولا يقدر على شرائه سوى الأثرياء.
يتعلق نجاح أي إذاعة بالتصاقها بهموم المواطنين، وبما أنها تعتمد على التواصل الصوتي فقط، فلا بدّ أن تعرف الطريقة المثلى لإيصال الحالات الانفعالية إلى المستمع، وتُعبّر عن مكنونات داخلية لتلبّي حاجته، لتجعل أكبر قدر ممكن من البرامج على تواصل معه، مما يؤدي إلى إضفاء حيوية على البرامج المقدمة.
وفي فترة الوحدة العربية مع مصر استفادت إذاعة دمشق من قيام الجمهورية العربية المتحدة، فحدث تشارك خبرات بين الإقليمين الشمالي والجنوبي، وتعاون مع إذاعة القاهرة التي تُعدّ الأقدم في الوطن العربي، وأهم وأكبر الإذاعات العربية، كما تبادلتا الوفود والعناصر والخبرات والدورات التدريبية بينهما.
“من دمشق هنا القاهرة”.. كي لا ينقطع صوت مصر
لمّا وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 دمرت إحدى الغارات الإسرائيلية هوائيات البث للإذاعة المصرية، فقد كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر سيُلقي خطابا للعالم والشعب المصري بعد كلمة “هنا القاهرة”، معتلياً منبر جامع الأزهر.
أراد الاحتلال الإسرائيلي إسكات الصوت المصري وإيقاف تغطيته للحرب، ومنع الناس من سماع خطاب عبد الناصر، فتوقفت الإذاعة المصرية عن الإرسال وتوقف بثها، ولم يستطع الناس الوصول إلى المعلومة من الإذاعة المصرية، ولم يقدروا على سماع أخبار حربهم. وفي صباح الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1956 فوجئ السوريون بصوت المذيع عبد البكار في إذاعة دمشق يقول “من دمشق.. هنا القاهرة”.
لم ينتظر البكار الأوامر من رؤسائه، فعندما وصل إليه خبر القصف استهلّ نشرته الإخبارية الإذاعية بهذه العبارة التي أمست مرتبطة بذاكرة إذاعة دمشق وأثيرها[7]، للتعبير عن تضامن السوريين مع المصريين في معركتهم التي يخوضونها ضد ثلاث دول (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) بعد تأميم قناة السويس، متابعا “هنا القاهرة من دمشق.. هنا مصر من سوريا.. لبيك لبيك يا مصر”.

“البيان رقم واحد”.. منصة الانقلابات الإعلامية
في عام 1956 أرادت إذاعة دمشق توسيع نطاق تغطيتها، لأن بثها لم يكن يغطي كامل الأراضي السورية، فانطلقت من بنيتها إذاعة حلب التي كانت مخصصة لمدينة حلب وضواحيها، وتبث لمدة ساعتين يوميا.
لاحقا توسّع العمل الإذاعي المنبثق من إذاعة دمشق التي تُعدّ الإذاعة الأم للإذاعات السورية، فافتُتحت إذاعة صوت الشعب في يونيو/حزيران عام 1978 على مدى 8 ساعات على فترتين، ثم مُدّد إرسالها في عام 2013 ليصبح 24 ساعة، وتخصّصت بتقديم البرامج الشعبية والخدمية وبرامج المنظمات الشعبية ومراكز المحافظات، حتى توقف بثها في مطلع عام 2017[8].
في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات عاشت سوريا أجواء سياسية متوترة تميزت بانقلابات عديدة، قام بها العديد من ضباط الجيش الذين وجدوا في الإذاعة ملاذا لإيصال أخبارهم، لإلقاء ما عُرف بـ”البيان رقم واحد”، الذي يذيعه الانقلابيون مُعلنين سيطرتهم على الحكم.
أدركت الحكومات السورية المتعاقبة أهمية الإذاعة في استغلال المشاعر الشعبية وحشد الجماهير، ولا سيما في الأزمات والحروب لتعبئة الرأي العام، كما استخدمت الإذاعة لبثّ الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية والنشرات الإخبارية والتعليقات السياسية الساخنة لإثارة الحماسة[9].
“صوت فلسطين”.. نبض منظمة التحرير
تضامناً مع فلسطين المحتلة وقضيتها التي هزّت العرب، راحت إذاعات عربية تفتح أستوديوهاتها للإذاعات الفلسطينية كي تبث منها، مثل “إذاعة فلسطين من القاهرة”، كما فتحت إذاعة دمشق أستوديوهاتها لـ”إذاعة فلسطين من دمشق” لتبث منها، فبدأت بثها في 15 أغسطس/آب 1964، ثم تطورت وصارت باسم “صوت فلسطين”.
لاحقا صارت إذاعة “صوت فلسطين” الصوت الناطق لمنظمة التحرير الفلسطينية في الثاني من مارس/آذار 1965، لتكون تعبيراً عن عدم الرضا إزاء “إذاعة فلسطين في القاهرة”، وعلا صوت هذه الإذاعة وصارت ذات صوت مسموع، بعدما أغلقت الحكومة المصرية إذاعة منظمة التحرير من القاهرة بسبب المواقف السياسية لزيارة السادات إلى القدس[10] في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، الزيارة التي مهدت للتطبيع مع إسرائيل.
وإيماناً من إذاعة دمشق بفلسطين وعدالة قضيتها، خصّصت برامج للحديث عن الأراضي المحتلة، كبرنامج “إذاعة فلسطين”، فتركت أثرا وجدانيا وعاطفيا عميقا لدى السوريين في القضية الفلسطينية.
“موجز إخباري بدقيقة”.. السبق الإعلامي
تُعدّ إذاعة دمشق ثاني إذاعة في الوطن العربي بعد إذاعة القاهرة، لكنها كانت الأولى في فكرة ابتكار مواجز الأخبار بدقيقة واحدة، وهي من أولى الإذاعات في البث المباشر.
مرّ بإذاعة دمشق كثير من المبدعين السوريين والعرب في تقديم البرامج، مثل صلاح دهني في برامجه عن السينما، وسعيد الجزائري في برنامجه “أدب وأدباء”، والشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي قدم برنامجا للأطفال في ستينيات القرن الماضي[11].
استمرت في سبعينيات القرن الماضي برامج حققت انتشارا واسعا بين السوريين، مثل برنامج “مرحبا يا صباح” من تقديم منير الأحمد، وبرنامج “المواطن والقانون” من تقديم نجاة قصاب حسن، وبرنامج “ما يطلبه المستمعون” لفردوس حيدر، والذي بنى عليه عبد اللطيف عبد الحميد فيلما سينمائيا بالعنوان ذاته، يرصد ترقب الناس للطلبات التي كانوا يرسلونها إلى الإذاعة للاستماع للأغاني التي يطلبونها، ما يوحي بقدرة الإذاعة على التأثير في النفوس والشغف بها، كونها وسيلتهم للإطلال على العالم والتواصل مع بعضهم.
كما تطرقت إذاعة دمشق في برامجها لقضايا الأطفال، فكان برنامج “نادي الأطفال” موجها إليهم عبر مقدمته أمل دكاك[12] بأسلوب يلائم موضوعاتهم.
“يوميات عائلية”.. مسلسلات خالدة في المخيال الشعبي
من النقاط المضيئة التي لا يمكن في تاريخ إذاعة دمشق أن قدّم عبرها الفنان الراحل ناجي جبر برنامج “عطيني أدنك”، الذي كان يؤدي فيه شخصيات متنوعة بتلوينات صوتية تدل على مقدراته الفنية. ومن البرامج الشهيرة “ظواهر مدهشة” والذي يحكي حالات وظواهر كونية غريبة. أما الفنان الراحل رفيق سبيعي فقد سرد في برنامجه “حكواتي الفن” سيرة العديد من روّاد الفن السوري في الغناء والتمثيل والمسرح.
كما استمرت الدراما الإذاعية التي تُصوّر المحكيات اليومية في مسلسل “يوميات عائلية” من بطولة الفنان الراحل عصام عبه جي والفنانة وفاء موصلي، يحكيان فيه يوميات زوجية استكمالا لما قدمه تيسير السعدي وصبا المحمودي في “صابر وصبرية”.
أما المسلسل الإذاعي الأشهر الذي حقق نجاحا باهرا واستمع له السوريون عقوداً طويلة فهو “حكم العدالة”، إذ استمد حكاياته من قضايا جنائية حقيقية تعتمد على ملفات وزارة العدل، ثم حُوّل فيما بعدُ إلى عمل تلفزيوني، لكنه أخفق في الوصول إلى الناس لارتباطهم بالصورة السمعية التي كانوا يرسمونها لصور الشخصيات التي وضعوها في مخيلتهم، فلم يستسيغوا “الرائد هشام” و”المساعد جميل” ممثلَين يظهران أمامهم، فربما تكون الصورة البصرية الظاهرة نسفت ما هو مرسوم في الخيال.
عالم الرقميات.. صراع من أجل البقاء
أسهمت إذاعة دمشق في بناء أسس الدراما السورية، فقد انتقل منها إلى التلفزيون، بعد تأسيسه العديد من روّاد الدراما الإذاعية، فوضعوا خبرتهم فيه مساهمين في نهضته في ستينيات القرن الماضي. كما خرّجت عبر تاريخها الطويل المئات من العاملين في الدراما، من ممثلين وكُتّاب ومخرجين وفنيين، ولا تزال الإذاعة السورية تهتم بالدراما الإذاعية لما لها من تأثير في نفوس المستمعين، ولأنها تمتلك أدوات مختلفة عن أدوات التلفزيون، وتوحي برؤية لا تتوفر فيه.
تراجع الاهتمام بالإذاعة في عصرنا الحالي مع تطور وسائل التواصل ومنصات البث المتعددة، والانتقال إلى البث الرقمي، على الرغم من أهميتها في إيصال الأفكار ونقل الصورة السمعية بوحي خيالي يتركز في الأذهان التي تحاول الوصول إلى الصورة المتكاملة، مع تركيب صورة تنطبق على الحدث المنقول صوتا.
[1] راجع الرابط: https://bit.ly/2Oq5CDT
[2] راجع الرابط: https://bit.ly/2RPZAhX
[3] راجع الرابط: https://bit.ly/397CZTY
[4] راجع الرابط: https://bit.ly/31fTMkU
[5] فاروق حيدر، رفيق دربي.. الذي أعشقه: مسيرة نصف قرن مع المايكروفون (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2010)، ص 24.
[6] راجع الرابط: https://bit.ly/37PUWWJ
[7] راجع الرابط: https://bit.ly/3bhCLeO
[8] راجع الرابط: https://bit.ly/2GMHCXc
[9] راجع الرابط: https://bit.ly/2u4ffkJ
[10] راجع الرابط: https://bit.ly/2Ue40ki
[11] حيدر، ص 23، وللاطلاع على برامج الستينات والسبعينات ص 30، 93.
[12] راجع الرابط: https://bit.ly/31fTMkU