كشك.. الشيخ الذي نافست أشرطته المطربين

 

آية طنطاوي

الموعد المنتظر للقائه لم يكن عاديًا، تتزايد الأفواج، الرجال والشباب والنساء يقطعون الشارع مهرولين ليلحقوا مكانهم في المسجد، لم تفتهم الصلاة، بل خطبة الجمعة التي يتردد صداها من بعيد عبر الميكروفون، صوته الجهوري يتردد صداه في حي حدائق القبة في القاهرة، ونبرته الحماسية تلهب مشاعرهم فتسرّع خطواتهم أكثر. وعلى مقربة من مسجد “عين الحياة” يصطدمون بجماهير غفيرة من المصلين يلتفون حول المسجد منذ الصباح الباكر ويبسطون الحصائر للجلوس.

تتعالى التكبيرات والضحكات، والشيخ على منبر المسجد مازال يخطب قرابة الساعة ولم يتعب، والمصلون ينصتون للشيخ الضرير كأن النور يخرج من فمه.

لم يكن الشيخ عبد الحميد كشك مجرد خطيب عادي، بل نجم من النجوم، هكذا وصفته مجلة “المسلمون” في عدد من أعدادها الذي تصدرت صورة الشيخ غلافها، يعرفه جيدًا جيل كامل من أبناء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.

ببحث صغير على منصة يوتيوب ستجد “قناة الشيخ كشك” وقد تجاوز مشتركوها الآن الـ3 ملايين. فكيف تحول الشيخ كشك إلى نجم؟ ولماذا تهافت المصريون على مسجده لسماع خطبه وأحاديثه دون غيره؟

 

كشك.. عدو الإيجاز

في حياة العرب قديمًا كانت الخطابة ممارسة أصيلة تتميز بها القبائل، والشعر الذي كان يحتل منزلة رفيعة في حياة العرب قبل الجاهلية أكسب الشعراء أيضًا منزلة الفرسان، في حين اقتصرت الخطابة على زعماء القبيلة وسادة القوم فلم يكتسب الخطيب وجاهة خاصة مثل الشاعر، بل إن منزلته الاجتماعية هي التي تكسبه هذا المنصب.

وبالعودة للبحث في أصول الخطابة نجد أنها إحدى فنون اللسان العربي وجزء من الأدب والحضارة الإنسانية. وعندما جاء الإسلام وأحدث تغييرًا في البيئة العربية كانت الخطابة واحدة من المظاهر المتأثرة بهذا التغيير، ليس التغيير في القالب العام بل في إعادة توظيف السياق العام للخطابة في الفرائض حيث خطبة الجمعة، والمكانة الكريمة لصعود المنبر لشرح مبادئ الإسلام والدعوة.

لم يتبع الشيخ كشك نصيحة الصدّيق؛ “إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثيرَ الكلام يُنسي بعضُه بعضاً”.. أبو بكر الصديق فلم يوجز. يرى بعض الشيوخ أن طبيعة الخطبة تختلف في طولها وقصرها وفقًا لمضمونها، فإذا كانت وعظية فيجب ألا تتجاوز العشر دقائق، أما لو كانت متعلقة بقضية اجتماعية تشغل المجتمع فلا بأس لو طالت لتصل إلى نصف ساعة على أقصى تقدير. تُرى في أي تصنيف كانت تقع خطب الشيخ كشك؟!

يستعرض الوثائقي الخاص بقناة الجزيرة الوثائقية “فارس المنابر” سيرة الشيخ عبد الحميد كشك في رحلة طويلة تبدأ مع الخطأ الطبي الذي أفقده بصره صغيراً، مروراً بحياته خطيبا على المنابر وسجينا خلف القضبان تزامنًا مع رحلة طويلة خاضتها مصر وتغيرت فيها ملامحها السياسية.

في أعقاب انقلاب يوليو/حزيران 1952 وتولي قيادات الجيش الحكم، لم تكن مساحات الحرية مفتوحة أمام المجتمع المصري للتعبير عن رأيه بكل حرية، فمن يمسك قلما أو ميكروفونا أو حظي بظهور إعلامي أو سينمائي؛ كان مقيدًا بسلاسل تفرضها الدولة على ما يقول ويفعل، لذا كانت السجون تمتلئ بأصحاب الأصوات والأقلام من كل تيار فكري، ولم يُسمع إلا صرخاتهم في ظلام السجون.

يحمل كل خطيب وإمام مسجد ميكروفونا يخطب من خلاله في جموع المصلين يوم الجمعة، وكان هذا حلم الشيخ كشك الذي تحقق بعد تخرجه من كلية أصول الدين. كانت السلطة تفرض سطوتها على الشيوخ والخطباء فرسمت لهم خطوطا ليسيروا عليها كي لا ينحرفوا إلى أمور دنيوية أبعد، فالحديث عن أحكام الوضوء والطهارة والغوص في الأحكام الفقهية وصلة الرحم وغيرها هي محور كل خطبة جمعة.

 لم يكن هذا النوع من الرقابة جديدا، بل مارسته الدولة على صُعد مختلفة وفرضته على الصحافة والسينما والأدب. يصف الشيخ كشك في يومياته الخطب غير الموجهة بالعَرَج، بينما الخطب الموجهة ناجحة ومرضي عنها، بهذا الحس الساخر استطاع كشك أن يقترب أكثر من العامة والبسطاء، فوجدوا في منبره كلاما لا يُقال في أي منبر آخر، لأن كشك لم يكن يخشى شيئا سوى الله.

 

في مواجهة الست

اللقاء المنتظر بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب يحدث الآن، الشوارع تخلو من المارة والناس تلتف حول الراديو لتستمع إلى حفلة أم كلثوم، “أنت عمري” هي ثمرة العمل المشترك الذي طال الشوق إليه، حالة من السعادة والنشوة تعم مع أول مقطع موسيقي تعزفه الفرقة، عبد الوهاب هرب من المسرح وراح يتجول في شوارع القاهرة خوفًا من مواجهة الجمهور بعمله الأول مع أم كلثوم، والشيخ كشك في بيته وحوله تلاميذه وأصدقاؤه يرتّلون القرآن ويسبحون ويستغفرون لجمهور الست.

في العهد الناصري لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة، بل رمزا مصريا وقامة لا تُمس، لكن الشيخ الذي تحكمه كلمة الإسلام لا تهزه التابوهات ولا تشغله. صعد بعدها على منبره وقال “خدني بحنانك خدني بعيد بعيد وحدينا.. بعيد بعيد.. النبي يقول ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”.

كان من الممكن أن يقف بثبات ليقول إن الغناء إسفاف، وإن الأغاني العاطفية خطر على عاطفة شبابنا ثم ينصرف، لكن الشيخ كشك لم يسر يوما على هذا النهج واختار أن يكون ناقدا لاذعا لكل ظواهر المجتمع المصري بأسلوبه الحماسي الذي ينشر هذه الطاقة الغاضبة المستنكرة في جموع الحاضرين لغيرته على الإسلام وحال المسلمين.

 

الضرير المبصر

لم يكن كشك ناقدا للفنانين والمشاهير فحسب، بل تجاوز الخطوط الحمراء في إحدى خطبه وهاجم قيادات الثورة بأسمائهم، وبعدها بأيام حل ظلام جديد على الشيخ الضرير أشد قسوة وعنفا، إنه ظلام المعتقل.

انقضى عهد عبد الناصر بوفاته، والشيخ أصبح حرا طليقا، لا ينسى الزنزانة رقم 13 بسجن القلعة، ولا ينسى الألم الذي حفر بأنيابه في جسده المسلوب، وعندما خرج إلى النور كانت حقبة السادات قد بدأت، ونصر أكتوبر تحقق، وشرائط الكاسيت أصبحت حديث الناس، والمنبر الجديد الذي تُذاع فيه أغاني أحمد عدوية.

لو فكرت أن تستمع الآن إلى خطب الشيخ كشك قد تختلف أو تتفق معه، لكنك ستدرك تمامًا أنك أمام مؤرخ لحال المجتمع المصري يسجل بصوته اعتراضاته على الأوضاع والأحداث التي ربما لن تجدها في الكتب التي تؤرخ لمصر بعد الثورة.

 في نظرية علم الاجتماع الإسلامي مبدأ هام هو أن فهم الواقع ينطلق من الوقوف على سنن التغيير الاجتماعي واستيعابها وتحليلها من أجل تشغيل حركة التغيير والنهوض والتجديد الإسلامي، ومن جهة أخرى فإن التحكم الثقافي من السلطة الحاكمة صاحبة القرار خلقت وجها جديدا للمجتمع المصري غريبا عنها تنتشر فيه ظواهر لا تمت للدين بصلة، فكانت مراقبة المجتمع وظواهره إحدى الغايات التي تساعد على استيعابه سعيا لتقويمه ثم تغييره.

 وعلى طريقته البسيطة التي تقربه من طبقات وفئات مختلفة من المجتمع أطلق كشك صوته ليصيح بما يراه، وهو بالفعل يؤكد أنه يرى، فهذا الضرير يمتلك بصيرة، ويستطيع أن يتنبأ بمستقبل غير مبشر في ظل حاضر يشتعل بالملذات والفساد وينبذ الدينَ وأهله.

في كتابه “الخطاب والتغير الاجتماعي” يتطرق نورمان فيركلف إلى مدارس مختلفة في تحليل الخطابات على مختلف أنواعها، فمثلاً في السبعينيات شكل فريق بحثي منهج “علم اللغة النقدي” بهدف الجمع بين التحليل اللغوي للنصوص وبين وظيفة اللغة في الخطاب الأيدولوجي، فيقول الباحث مايكل هاليداي “أصبحت اللغة على ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي، ولا بد أن ينجح تنظيم المعاني السلوكية في تبصيرنا إلى حد ما بأسسها الاجتماعية”؛ هنا يحاول هاليداي أن يربط بين اللغة والخطاب وطبيعتهما وعلاقتهما بالسياق الاجتماعي والأيدولوجية المطروحة، فمثلاً الطبيعة الحماسية في خطابات مالكوم إكس تنبع من شعاره وحديثه الدائم عن القوة التي يدعو الأمريكان السود للتحلي بها، في مقابل خطابات مارتن لوثر كنغ الهادئة التي تدعوهم في الأساس إلى الحب والتعايش.

والنموذج المصري (الشيخ كشك) مزج بين اللغة الفصحى واللغة العامية ليستقطب جميع الشرائح، اختار لغته وخطابه الصارخ من أجل شحذ الهمم وإيقاظ الأمة الغافلة بعيدا عن خطاب باقي الشيوخ الذين لا يُبدون حماسا في حديثهم عن أحوال المسلمين. ولأن كشك اختار الخطابة كان حديثه أشد قسوة من القلم.

 

“الشيخ عدوية”.. منافسة محتدمة

في مساء يوم الجمعة بقلب ميدان العتبة تنطلق المكبرات الصوتية في كل الأرجاء لتبث عبر المسجلات الصوتية خطبة الجمعة للشيخ كشك التي ألقاها في الصباح ليستمع إليها من لم يتمكن من حضورها، وعلى الأرصفة يتراص الباعة الجائلون ليبيعوا خطب الشيخ على شرائط الكاسيت.

في عصر الانفتاح عرف السوق المصري المسجلات والشرائط وأصبحت لديه منصات جديدة يسجل عليها أي شيء لتنتشر بين الناس. الرقابة رفعت يدها قليلاً عن مساحات الرأي في إنذار لعهد جديد تنفتح فيه مصر على كل شيء، وهذا الانفتاح ساهم في بزوغ نجم الشيخ كشك من جديد بعد أعوام الخسوف في المعتقل الناصري، فأطلق صوته من جديد وسرد تجربة الاعتقال فسُجلت وانتشرت في الأسواق وأصبح المنافس الأول للمطرب أحمد عدوية.

وبمراجعة تاريخ تلك الفترة نجد أن سوق شرائط الكاسيت كان ناجحا لسنوات طويلة، والأكثر تنافسا من حيث الأرقام هما المطرب أحمد عدوية والشيخ عبد الحميد كشك.. معادلة تبدو غريبة لكنها تعكس وجه المجتمع المصري المنقسم بين عالمين؛ الغناء الشعبي والدعوة الإسلامية.

طريقان مختلفان ومساران فكريان متناقضان، لكنه يعكس سمات الشعب الذي يعاني من التخبط بعد النكسة والنصر والانفتاح.

لُقب كشك بـ”الشيخ عدوية” إشارة إلى منافسته للمطرب الأول وقتها في الأسواق. وفي إحدى خطبه سخر الشيخ من عدوية ومن كلماته التي رأى أنها لا معنى لها لكنها مكّنته من شراء عقار بحي المعادي وسيارة مرسيدس، وهذا يلفت الانتباه للمقارنة الدائمة التي يعقدها كشك بين حال الشيوخ والفنانين، وكيف أن الاحتفاء المجتمعي بالفنان أكبر من الشيخ، وأن غِنى الأول يقابله فقر الأخير.

 

الفارس عندما ترجَّل

في نهايات عهده ضاق السادات ذرعا بالمعارضين وبالأصوات المرتفعة، ففتح أبواب السجون من جديد على مصاريعها، وجمع الإسلاميين وغيرَهم بداخلها.

عُرف السادات بتصالحه مع الإسلاميين بعكس سابقه عبد الناصر، لكنه لم يعد يتحمل النقد ظنا منه أن كلمات المدح ستنهال عليه ليل نهار خاصة في أعقاب معاهدة السلام مع إسرائيل التي خيّبت ظنه فقوبل بهجوم شديد ومقاطعات وتظاهرات من الداخل والخارج. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتفق فيها خطاب كشك مع خطاب اليسار والشيوعيين في رفض المعاهدة كليًا.

مرت السنوات وتبدل الحال بمصر وجاء حسني مبارك رئيسا للبلاد وخرج كشك من ظلام السجن إلى ظلام البيت حيث أوقفه نظام مبارك عن الصعود إلى المنابر.. هنا انتهى كل شيء، واختار ألا يخوض معارك جديدة ويغلق الميكروفون.

وفي عصر الفضائيات ظهر العديد من الشيوخ الذين ينحون نفس الطريق، يلمزون المشاهير وينتقدون ظواهر المجتمع، لكن أحدا لم يجرؤ على تخطي الخطوط الحمراء في السياسة كما فعل الشيخ كشك، لأنه اختار منذ البداية أن يثبت على كلمة واحدة وهي الحق، وبالاتفاق أو الاختلاف معه سنعترف أن هذا المنبر لم يشغله أحد غيره ومن حاول هبط منه مسرعا.

الشيخ عبد الحميد كشك فارس المنابر الذي لم يخش في الله لومة لائم

 

إن الخطاب الحماسي أيا كانت طبيعته في كل مجتمع يجد من يلتف حوله ومن يهتف باسمه، هناك أناس متعطشة لسماع ما يروق لهم وما يؤجج شيئا بداخلهم، كالأبطال الخارقين يشاهدون أسلحتهم الخارقة وقواهم السحرية وهم يخوضون معاركهم، وهم في النهاية يستمتعون بانتصارات صغيرة يشاهدونها ولا يخوضونها، ويكتفون فقط بسماع أصدائها والتهليل لها.

توفي الشيخ عبد الحميد كشك في بيته وهو في سجوده كما كان يدعو الله دائما حيث كان يتنفّل قبيل ذهابه لصلاة الجمعة يوم 6 كانون أول/ديسمبر 1996.


إعلان