الأسطول الأصفر.. حكاية أطول رحلة بحرية في التاريخ

انطلقت بشكل اعتيادي من موانئ عدة في مشرق الأرض متجهة إلى مغربها، إلا أن رحلتها طالت وطالت بما لم يشهده تاريخ الرحلات البحرية، حين حُبست 14 سفينة شحن في بقعة ضيقة من الماء، في ميدان معركة تتابعت فيها ثلاثة حروب.

في أجواء الخوف وعدم اليقين بأجل الحبس، قضى طواقم السفن أيامهم وسنواتهم بما يشبه الحياة الاعتيادية. وباتت قصة من أغرب القصص التي لا ينساها من عاشها، ومن قرأ عنها.

في بقعة مائية صغيرة من العالم، وبالتحديد في منطقة “البحيرات المُـرّة” الواقعة في قناة السويس المصرية، ولمدة تزيد عن 8 سنوات تشكل كيان أممي قائم بذاته، وصل عدد سكانه إلى 3000 نسمة. أرضيته أسطول من أسطح 14 سفينة كوّنت كيانا شبه مستقل له أعرافه وتقاليده ونشيده الوطني وطوابعه البريدية ونظامه التجاري المحدد وألعابه الأولمبية، إنه كيان منعزل عن العالم، لكنه متأثر بأحداثه، كيان اكتسى سطحه الخارجي برمال الصحراء الصفراء، لذا أطلق عليه اسم “الأسطول الأصفر”.

فيلم “الأسطول الأصفر” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، حالة فريدة واستثنائية في عالم السفن، وواحدة من أطول رحلات الإبحار في التاريخ، إن لم تكن أطولها على الإطلاق، وقعت أحداثها على أرض ومياه مصرية، إلا أن أبطالها غربيون تشابكت مصائرهم مع تقلبات التاريخ والأحداث في المنطقة والعالم وعايشوا مسارات حروب ثلاثة، دارت جميعها على بعد أمتار من منطقة تمركزهم.

من هم أبطال القصة؟ ماذا حدث لهم؟ ما علاقتهم بالأراضي المصرية والحروب التي دارت فيها؟ وما سبب بقائهم فيها كل تلك السنوات؟ هذا ما يعرّفنا عليه هذا الفيلم، من خلال شهادات عدد من الطواقم الذين عاشوا التجربة الطويلة.

 

ظلال الحرب الباردة.. بداية الحكاية

في خضم الحرب العالمية الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي تنشط الحروب الاستخباراتية وتشتعل، ففي 13 مايو 1967 وصلت معلومات استخباراتية سوفييتية تكشف نية إسرائيل مهاجمة العرب ابتداء من الجبهة السورية التي حشدت على مشارفها 11 لواء إسرائيليا. في هذه الأثناء تفاعلت السلطات المصرية مع الأحداث بموجب ارتباطها باتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا الخارجة منذ سنوات قليلة من حرب وعدوان إسرائيلي على أراضيها عام 1956. جاوزت قوات برية مصرية كبيرة قناة السويس ورابطت في شبه جزيرة سيناء لإظهار حالة الاستعداد، مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى إعلان حالة التأهب بين صفوف جيشها.

في 22 مايو 1967 أعلنت مصر إغلاق مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية، وفي صباح 23 مايو أغلقت مضيق العقبة أمام جميع السفن التي تحمل العلم الإسرائيلي، مما وتر العلاقات المصرية الإسرائيلية بشكل بالغ، فحشد كل فريق كامل طاقاته وصُعّدت نبرات التحدي والاستعداد، وكانت الأجواء تنذر باندلاع المواجهة في أي لحظة.

يقول “هاينو كليمينس” وهو ضابط على السفينة الألمانية “نوردفيند”: دخلت قناة السويس وعمري 22 عاما، وبدأت عملي على متن السفينة في عام 1967، وكانت الرحلة باختصار تبدأ من الساحل الإنجليزي إلى الهند، ومن الهند إلى آخر ميناء في كراتشي، بينما العودة من كراتشي إلى عدن وجيبوتي ثم إلى قناة السويس، لكننا توقفنا في كراتشي لمدة ثلاثة أسابيع، ثم أبحرنا من كراتشي، وكانت محطتنا التالية هي عدن للتزود بالوقود، لكن الأوضاع في عدن كانت مضطربة جدا، فقد وصلتنا معلومات من وكلائنا، قبل وصولنا بأربعة أيام أن ميناء عدن مغلق ولا يمكننا التوقف هناك، ومن ثم علينا مواصلة الرحلة إلى جيبوتي، وكان هناك ازدحام شديد وعلينا الانتظار 24 ساعة للتزود بالوقود، حصلنا على الوقود في جيبوتي وأكملنا رحلتنا إلى قناة السويس ودخلنا منطقة البحيرات المرة، وأتذكر أنه في جيبوتي كانت هناك سفينة ركاب أمريكية حصلت على تعليمات واضحة بعدم دخول قناة السويس.

أما “شون درينج” البحار على سفينة الشحن الإنجليزية “بورت إنفركارجل” فيقول: كنت أعمل على متن السفينة بورت “إنفركارجل” التي عادة ما كانت تنقل بضائع من المملكة المتحدة إلى أستراليا ونيوزلندا، وتحمل شحنات من الخضروات والفاكهة واللحوم إلى بريطانيا، وكان ذلك مسارنا الأساسي، وفي هذه الرحلة بالتحديد كنا قد اتجهنا إلى أستراليا ثم حمّلنا شحنات للعودة بها إلى المملكة المتحدة، غادرنا ميناء “فريمانتل” لعبور المحيط الهندي والمرور بعدن وقناة السويس، وعند وصولنا إلى المدخل الجنوبي كانت هناك مجموعة من السفن الراسية في أسطول مكون من 14 سفينة، فتوقفنا على أن نتمكن في اليوم التالي من التوجه تباعا إلى البحيرة المرة الصغرى، ومنها نستكمل الرحلة إلى بورسعيد، وكان ذلك يتطلب نحو 24 ساعة، صباح ذلك اليوم رفعنا المرساة وبدأ الأسطول التحرك إلى داخل البحيرة المرة.

الفرق بين مسار الأسطول البحري عبر قناة السويس وحول رأس الرجاء الصالح

رأس الرجاء الصالح.. خيار السلامة المرفوض

يستذكر مهندس الصيانة على السفينة الإنجليزية “ميلامبس “جون هيوج” بداية تلك الرحلة  في طريق العودة من الشرق الأقصى تجاه بريطانيا فيقول: كانت عدن محطتنا القادمة للتزود بالماء، وبالفعل توقفنا هناك، لنتزود بالوقود والماء العذب وبعض المستلزمات الأخرى، وفي هذه الأثناء سألنا القبطان إذا كان بإمكاننا النزول إلى الساحل لعدة دقائق لقليل من التسوق لأننا كنا متجهين إلى قناة السويس شمال البحر الأحمر، وهكذا التقينا على الساحل بجنديين من المارينز كانا على ظهر سفينة حربية. قالا لنا من الأفضل أن تعودوا إلى سفينتكم لأن الأجواء المحيطة بالمكان سوف تتوتر. في الحقيقة لم نستوعب ماذا كان يعني ذلك، لهذا عدنا إلى ظهر السفينة، وكنا على أي حال قد انتهينا في عدن من التزود بالوقود والماء والمستلزمات، وأبحرنا باتجاه البحر الأحمر.

ويضيف: أعتقد أننا قبل إبحارنا أو خلال فترة الإبحار، كان لدينا اجتماع مع مسؤولي السفينة والقبطان، وكانوا على علم أن الأمور لم تكن على ما يرام، وأجري التصويت على إذا ما كان عليهم استكمال الرحلة إلى قناة السويس أم العودة إلى الجنوب والمرور من طريق رأس الرجاء الصالح، أنا شخصيا اخترت مسار قناة السويس.

وعلى الخريطة مسار الخيارين، قناة السويس ورأس الرجاء الصالح، ففي حين تبلغ مسافة الخيار الأول 4,573 ميلا بحريا، تمتد رحلة رأس الرجاء الصالح إلى 10,008 ميلا بحريا.

حرب حزيران/يونيو أو حرب الأيام الستة التي دمرت فيها إسرائيل الطائرات المصرية واحتلت قناة السويس

حرب الأيام الستة.. سفن تجارية تحت الطائرات الحربية

أجواء التوتر في المنطقة وتسارع الأحداث باتجاه اندلاع الحريق كان الغالب على التغطيات الإعلامية، لذلك كان لدى “كليمينس” إحساس قوي أن مشاكل ستقع بين مصر وإسرائيل، ويقول: وصلنا بالفعل ورست سفينتنا مع سفن أخرى وكان مجموعنا 14 سفينة، أكلمنا عملية المراقبة البحرية وكانت الأمور تسير بشكل روتيني، لكن المنطقة كانت في ظلام دامس فلم يكن مسموحا لنا باستخدام الإضاءة حتى لا يتعرف علينا أحد، بدأنا يومنا في القناة برسم أعلام بلادنا على سفننا، للإيعاز للجميع بأننا على الحياد وغير تابعين لأي جهة، وبأنه لا دخل لنا بما يدور في المنطقة من توترات.

ولم يمضِ شهر على إعلان إغلاق المضيق حتى اندلعت حرب 1967 بين إسرائيل من جانب ومصر وشقيقاتها من الدول العربية من جانب آخر، في صباح الخامس من يونيو/حزيران.

وعن اندلاع الحرب يقول “درينج”: كنت أمارس عملي خلال نوبة المراقبة، وحينها سمعنا فجأة ضجيجا هائلا لطائرات نفاثة، وعندما رفعنا رؤوسنا لننظر رأينا سربا من ثلاث مقاتلات يعبر من جانب سيناء ويحلق على ارتفاعات منخفضة، حامت الطائرات فوقنا والتفت جميعها حول أسطح السفن الأربع في آخر الأسطول، ثم حلقت فجأة إلى ارتفاعات عالية، وبينما كنا ننظر إليها بدأت تطلق ما نعرف اليوم أنه كان كميات هائلة من الدخان على المدرج في مطار القاعدة الجوية الحربية، كان بإمكاننا رؤيتها باستعمال المناظير المكبرة، فقد كانت على مسافة أقل من ميل، شاهدنا الطائرات تقصف المدارج أولا، وبعد ذلك هجمت المقاتلات الإسرائيلية التي كانت مصفوفة قريبا، وبمجرد إلقاء المقاتلات الإسرائيلية الثلاث حمولتها من القذائف عادت متجهة نحو سيناء مرة أخرى، محلقة باستمرار على ارتفاعات منخفضة للغاية، عائدة في اتجاه سيناء وسرعان ما اختفت، ثم وصلت موجة أخرى من ثلاث مقاتلات وفعلت نفس الشيء تماما، ولقد ظللنا نشاهد هذه الأسراب على مدى الساعتين التاليتين، محلقة فوقنا كل أربع أو خمس دقائق محدثة أقصى ما يمكنها من تدمير للقاعدة الجوية المصرية التي محيت من على وجه الأرض، بالمعنى الحرفي للكلمة.

أما “مايك مايلز” مهندس الصيانة على السفينة الإنجليزية “بورت إنفيركارجل” فيقول: بينما كانت الحرب مشتعلة، كنا على بعد ميل واحد فقط من مطار الإسماعيلية، ولذلك كنا نشاهد الطائرات وكل ما يدور هناك، وفي أوقات المساء كنا نبقى على سطح السفينة نتابع المعركة الدائرة على امتداد سواحل الإسماعيلية والمناطق المحيطة، لذلك لم نتمكن فعلا من النوم جيدا طوال تلك الأيام الستة.

انقضت الأيام الستة، وبدا أن الحرب قد وضعت أوزارها واحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، وسيطرت على الجانب الشرقي من القناة، فأخذت السلطات المصرية قرارا بوقف الملاحة نهائيا في القناة، والسماح فقط بمرور سفن الركاب للعودة إلى بلدانهم، بينما تتوقف السفن الأخرى -سواء الحربية أو التجارية- بشكل مؤقت، وتحتجز داخل منطقة البحيرات المرة.

سفن من 8 دول غربية اجتمعت على غير ميعاد في البحيرات المرة

لقاء على غير موعد.. صداقة على ضوء شموع الحرب

في هذه النقطة بعينها شاءت الأقدار أن تتجمع 14 سفينة من جنسيات مختلفة (4 سفن إنجليزية، وألمانيتان، وبولنديتان، وسويديتان، وفرنسية، وتشيكية، وأمريكية، وبلغارية)، التقى الأسطول الغريب في البحيرات المرة، وتحتّم عليه التوقف والانتظار إلى أجل غير مسمى إلى حين معرفة آخر التطورات.

وأدرك “بيتر ريتشموند” وهو ضابط تحت التدريب على السفينة الإنجليزية “أجابينور” أن الأسطول جميعا علق في البحيرات المرة، وأن التفكير بالقيام بأي محاولة للهرب أو شيء من هذا القبيل في اتجاه الجنوب كان محكوما عليه بالفشل بكل تأكيد، لم يكن بوسعنا عمل أي شيء.

فرضت أجواء الحرب إجراءات أمنية من قبل السلطات المصرية على الأسطول، مما صعّب على السفن التواصل مع الخارج. وعن ذلك يقول “جون ماكفيرسون” الضابط على السفينة الإنجليزية “ميلامبس”: في تلك الأيام لم تكن هناك اتصالات بالأقمار الصناعية ولا إنترنت ولا هواتف، لكن الشيء الوحيد الذي كان بحوزتنا هو المذياع المركزي للسفينة الذي كنا نتواصل من خلاله مع جميع أنحاء العالم، وقد أغلقته السلطات المصرية ومنعتنا من استخدامه، لأننا ربما كان بإمكاننا إرسال الكثير من المعلومات عن الأحداث الجارية، ومن ثم لم يكن مسموحا لنا باستخدامه، فقد كان معنا شرطي على متن السفينة، وكانت مهمته الحفاظ على مصالح السلطات المصرية، والتأكد من عدم استخدامنا ذلك المذياع.

بعد مرور فترة قصيرة على توقف السفن في البحيرات المرة، رأى بعض قادة السفن الحاجة للتواصل مع السفن الأخرى، وعن ذلك يقول “برندان مولهول”، مهندس الصيانة على السفينة الإنجليزية “بورت إنفيركارجل”: أمرنا قائد سفينتنا بإنزال قارب النجاة الذي كان بمثابة التاكسي لنا وتجولنا على جميع السفن الأخرى، واقترحنا على الآخرين أن نتواصل ونتكاتف، فرحب الجميع بذلك، ومن هنا بدأت تتوالد أفكار جديدة تهدف جميعها إلى تحسين حياتنا جميعا.

حرب الـ67 حاصرت السفن الدولية ثماني سنوات في بقعة مائية صغيرة ومنعتها من الحركة والتنقل

خطر من الجبهتين.. تدخل الصليب الأحمر

يستحضر “مولهول” في المقابل أجواء الخطر التي عانى منها الأسطول من الجانبين المتحاربين مصر وإسرائيل، فيقول: عندما ذهب أحد البحارة وأحد ضباط السفينة إلى الجانب الإسرائيلي قامت القوات الإسرائيلية بترحليهما إلى لندن، لذلك سعينا بكل السبل إلى عدم الاقتراب من الجانب الإسرائيلي. وعلى الجانب الآخر وصلتنا تعليمات من الجانب المصري تقول إن أي قارب من القوارب يبحر خارج محيط السفن سنطلق عليه النار.

ولضمان سلامة الطواقم العاملة على السفن، تدخل الصليب الأحمر بعد شهرين من الأزمة، لدى مصر وإسرائيل للنظر فيما يمكن القيام به من أجل الطواقم العالقة. وهو ما يؤكده “درينج” بقوله: قرر قائد السفينة الاحتفاظ بالحد الأدنى من العاملين على ظهر السفينة، مع إرجاع بقية الطاقم إلى البلاد، ووافقت السلطات المصرية والإسرائيلية وسمحوا لهم بجسر جوي من أثينا مرورا بالقاهرة، وكنت أحد أفراد الطاقم المصغر، كنت شابا وكان هناك 20 بحارا، ورأى جميع قائدي السفن أنه في حالة فتح القناة فقط سنحتاج إلى طاقم كافٍ لصيانة السفينة والإبحار بها إلى بورسعيد ثم إلى البحر المتوسط.

ويتابع: حقيقة، لم أدرك أو أقدر مدى الخطورة عند تلك النقطة، لقد فكرت فقط هكذا: حسنا لا بأس، أنا أصغرهم سنا، أنا غير متزوج، وليس لدي أولاد، نعم أنا من يجب عليه البقاء هنا للأبد أو للمدة التي تستغرقها هذه الأزمة حتى تنتهي، لم تكن لدي فكرة ما الذي كان سينهي الأزمة بالطريقة التي حدثت.

بسبب كميات الطعام الهائلة التي تحملها السفن كان البحارة يأكلون وجبات كبيرة، واضطروا للتخلص من أكثرها

فيض الطعام ونقص الماء.. أن تكون على سفينة بضائع

انتهى القتال وبات من شبه المؤكد احتجاز سفن الأسطول الأصفر وطواقمه في القناة لأجل غير معلوم، ومع مرور الوقت وغموض المصير قررت الشركات المالكة اعتماد العمل بنظام تبديل الطواقم، على أن يبقى الفريق أربعة أشهر، وبعدها يحل مكانه فريق جديد، وبذلك انغلقت الدائرة على الأسطول بإحكام فتقلص تواصله مع العالم الخارجي، إلا في أضيق الحدود كحالات المرض الشديد مثلا، أما شؤونه الداخلية فقد تحتم على الجميع التواصل فيما بينهم لتدبير احتياجاتهم الضرورية، بالاعتماد على أنفسهم دون أدنى استعانة بالخارج.

بالطبع كانت السفن تحمل من المؤونة وماء الشرب وباقي الاحتياجات ما يكفي لانقضاء الرحلة والوصول إلى بلد الوجهة، إلا أن التوقف عالقين كل هذه المدة فرض على الطواقم، كما يقول “بيتر ريتشموند”: الحذر والحرص في استهلاك الوقود وفي استخدام المولدات الكهربائية وكل الإضاءات وجميع هذه الأمور، وفي استهلاكنا للماء العذب والمحافظة عليه لأقصى درجة ممكنة، أما الطعام فكان متوفرا بكثرة، وكنت أنهي وجباتي عن آخرها، لأننا لم نكن نعلم ما الذي يمكن أن يحدث، لذلك فكل وجبة كانت كالوجبة الأخيرة لنا، أو كانت إن شئت العشاء الأخير.

وبخلاف ماء الشرب وبعض الاحتياجات فقد كانت على متن السفن كميات هائلة من الطعام الصالح للاستخدام، كجزء من شحنات البضائع على ظهر السفن، وعن ذلك يقول “ماكفيرسون”: السفن كانت قادمة من كل أنحاء الشرق الأقصى، من فيتنام وهونغ كونغ والفلبين وأستراليا، وجميعها كانت محمّلة بكل أصناف البضائع، وقالت الشركة المالكة للسفينة، إن كل تلك البضائع سيكون مصيرها التلف، ولن تستخدم مرة أخرى فكان مصرحا لنا باستهلاكها، ومن ثم كان علينا التفتيش في الحاويات، فقد كانت إحدى السفن كانت قادمة من فيتنام مليئة بالجمبري المجمد، أما السفينة القادمة من أستراليا فكانت مليئة باللحوم المجمدة ولحوم الخراف ومثل هذه الأشياء، لذلك لم نواجه نقصا في الطعام على الإطلاق.

بعد عامين من التوقف في البحيرات كانت البضائع في حاويات السفن قد بدأت تتلف، خاصة تلك السفن القادمة من أستراليا فقد كانت محملة بمواد غذائية مجمدة، وهو ما يرويه “ماكفيرسون” بقوله: كان الإبقاء على ثلاجات التجميد في حالة تشغيل والحفاظ على الطعام باردا يكلف الكثير من المال كل يوم، وكان هناك حد زمني لحفظ هذه الشحنات في ظروف ملائمة، وقد طلبوا بالفعل تصريحا لمحاولة نقل تلك الحاويات برا إلى الإسكندرية وشحنها من هناك، ولكنني كنت أعلم أن السلطات الإسرائيلية لن تسمح بذلك، لذلك اتخذ القرار بالتخلص من تلك الأطعمة التي ستكون غذاء للأسماك، لكن لم يكن هناك خيار آخر.

للمحافظة على السفن كانت تجرى لها أعمال صيانة دورية كتفقد المحركات ودهان الجدران من الصدأ

تحدي الحفاظ على السفن الرواسي.. حرب الاستنزاف

لم يكن توفير الطعام والمحافظة على سلامة الأفراد التحدي الوحيد أمام الأسطول، بل المحافظة على سلامة السفن أيضا، كصيانة المحركات وتنظيف الأسطح وإصلاحها، في الوقت الذي يجب فيه الحفاظ على الوقود، والاعتماد على ما هو موجود بالفعل.

وعن ذلك يقول “أويه كارستينس” البحار على السفينة الألمانية “نوردفيند”: كنت بحارا وتمثّلت مهمتي في صيانة سطح السفينة الخارجي، وتوجيه السفينة إذا ما أبحرت، وكنت أقوم بأعمال الطلاء للمحافظة على نظافتها؛ فجزء أساسي من أعمال الصيانة هو طلاؤها باستمرار واستخدام دهانات جديدة، خاصة على الأسطح المعدنية لوقايتها من الصدأ، وتلك هي أهم المراحل، إلى جانب إزالة العوائق الترابية خاصة مع هبوب العواصف الرملية المتكررة، وكان أهم شيء هو عمل المحرك ليمكننا من العودة إلى بلادنا إذا حان الوقت لذلك، لذلك كنا نحرك السفينة مرة واحدة كل شهر، متجولين داخل البحيرة قبل العودة إلى مكان تمركزنا، الهدف من ذلك كان التأكد من صلاحية المحرك، حتى نضمن الإبحار لبلادنا عند عودة الملاحة للقناة.

ولأن طواقم السفن كانوا يتوقعون مغادرة القناة في أي وقت، فقد كان عليهم التأكد من أن جميع المولدات الكهربائية والإلكترونية الموجودة على ظهر السفينة في أعلى درجات الكفاءة، لذلك يقول “مولهول”: لو ذهبنا إلى ميناء آخر من القناة، فإن ضباط السفينة كانوا سيتوقعون أن جميع المعدات الإلكترونية وغير الإلكترونية جاهزة لتفريغ الحمولة، لذلك رغم توقفنا في القناة ظل لزاما علينا القيام بما كنا نسميه المهمات الاعتيادية للتأكد أن كل شيء مطمئن ويعمل في حالة جيدة.

وظل الجميع في حالة ترقب واستعداد وانتظار للحظات المغادرة الوشيكة التي لا يعرف متى ستأتي، فقد دام التوقف سنوات قبل أن تنعم المنطقة بالهدوء، فبمجرد انتهاء حرب 1967 واستمرار احتلال إسرائيل للأرض وتعنّتها واستهانتها بالقرارات الأممية الداعية إلى الانسحاب دخلت المنطقة مرحلة نوعية مختلفة من الحروب، فاستمرت المعارك وحرب الاستنزاف لثلاث سنوات، وأدت إلى استمرار إغلاق القناة وبقاء الأسطول.

بعد انتهاء الحرب سمحت السلطات الإسرائيلية للمحاصرين بالعودة إلى بلادهم عبر جسر جوي يمر بالقاهرة وأثينا

كيان موحد من جنسيات متناحرة

انشغل العالم لاحقا بأحداث الحرب الباردة والمناطق المشتعلة فيه، ولم يكن موضوع الأسطول معروفا له ولا مُدرجا على قائمة أولوياته، فما كان من سكانه المعزولين إلا محاولة تذكير العالم بوجودهم وبأحوالهم بشتى الطرق، مكوّنين رغم جنسياتهم المختلفة كيانا موحدا وهوية مستقلة، مع أنهم ينحدرون من دول يعادي بعضها بعضا خلال حقبة الحرب الباردة.

يقول “مولهول”: كنا مجتمعا متجانسا للغاية، لأن سفينتنا كان على متنها 27 فردا فقط، وكانت كثير من السفن الأخرى قد قلصت من أعداد طاقمها مثلنا، فلم يكن لدى الشركة التشكيل الكامل الذي كان يتألف من 70 فردا، لكننا وصلنا إلى 28 فردا، وكان ذلك ضروريا لنقيم علاقات صداقة مع السفن الأخرى الأمريكية والسويدية والبولندية والسفن الإنجليزية الأخرى، لذلك كان مهما جدا أن نتواصل معهم وأن نقيم بيننا علاقة وطيدة.

ولم يقتصر الأمر على التواصل بين طواقم السفن، فلم يمر وقت طويل على وصول السفن إلى هناك حتى شرعوا في تشكيل ما أسموه “جمعية البحيرات المرة الكبرى”، كما يقول “ماكفيرسون”: نشأت الفكرة من خلال أحد مسؤولي شركة “بلو فانل” للسفن ومسؤول السفينة السويدية “كيلارا”، وسوف تكون هذه فكرة جيدة كما قالوا للترفيه عن الطواقم بمجرد توفير شيء لهم ليفعلوه.

وكان بإمكان أي شخص عاش تجربة حبس السفن في القناة أن ينضم إلى جمعية البحيرات، ويقول “ماكفيرسون”: لا بد أن نحو ألف شخص على مرّ هذه السنين ممن كانوا عالقين هناك دعوا جميعا للانضمام إلى هذه الجمعية، كان هناك دبلوماسيون وسياسيون رفيعون، والعديد من الفرق الإعلامية جاءوا للقاء بنا، وكان هناك وكلاء وشخصيات في كل المجالات، وكان وجود هؤلاء السياسيين أمرا طيبا بالنسبة لنا، لأننا تحدثنا إليهم عن أمور لم تكن تعجبنا وأمور كنا نود أن نراها تتغير هناك، ونقلوا أسئلتنا إلى رئاسة الحكومة في المملكة المتحدة، وحصلنا على إجابات من اللوردات وغير ذلك الكثير، فكان هناك جوانب إيجابية.

أقام الأسطول الأصفر بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية 1968 دورة مصغرة وأعطى للفائزين جوائز يدوية الصنع

إدارة دولة السفن.. فيدرالية الأسطول الأصفر

يواصل “ماكفيرسون” حديثه عن تلك التجربة: استمرت الجمعية طوال السنوات التي ظلت فيها السفن عالقة في القناة، وكان هناك أنواع مختلفة من الأنشطة التي نظمت في ذلك المحيط الاجتماعي، عندما عقدت دورة الألعاب الأوليمبية في المكسيك عام 1968 على ما أعتقد، ومن ثم قررت السفن البولندية إقامة دورة أولمبية مصغرة.

الأجواء التي عاشها سكان مجتمع السفن العالقة، شجعتهم على التفكير بخطوة متقدمة من المشاركة الجماعية، وهو ما يرويه “أوريه كارستينس” بقوله: “عندما علمنا بأمر دورة الألعاب الأوليمبية، قررنا عمل ذات الشيء على أسطح سفننا، وكان من ضمن الألعاب التي نظمناها رفع الأثقال والقفز العالي وسباقات الزوارق الشراعية، إضافة لمباريات كرة القدم، وكان هناك جوائز وميداليات للفائزين، وأنا أحتفظ بميدالية فضية ظفرت بها بعد فوزنا بأحد سباقات الزوارق الشراعية، وكنا مجموعة من 6 لاعبين على متن القارب، ولصنع تلك الميداليات استخدمت مادة الرصاص وتكفل بتنفيذها طاقم السفينة البولندية ورسمها على الجهتين، إضافة إلى الميداليات الذهبية والبرونزية التي طليت بما لدينا من دهانات ووزعت بالفعل على الفائزين.

وتظهر في الفيلم لقطات من مباراة لكرة القدم ومسابقة رفع الأثقال على مساحة ضيقة على سطح إحدى السفن ومسابقة الوثب العالي وكرة الماء.

مجموعة من الطوابع البريدية التي أصدرتها جمهورية البحيرات المرة، مرسومة وملونة يدويا من قبل البحارة

بريد جمهورية البحيرات

ولأن سكان دولة السفن العالقة كانوا يعالجون المشاكل التي تواجههم في يومياتهم الطويلة جدا، فقد كانوا يديرون أمورهم وكأنهم في دولة بالفعل، فبعد وقت من تأسيس جمعية البحيرات المرة الكبرى واجهوا مشكلة المراسلات البريدية مع بلدانهم، حيث كانت المراسلات تعتمد على البريد التقليدي في ذلك الحين، لكن كيف يحصلون على طوابع وأختام بريدية؟

يقول “ماكفيرسون”: أصدر أفراد الطواقم الموجودين بعض الطوابع البريدية، لأننا غير تابعين لإسرائيل ولا لمصر، فقد كنا كيانا مستقلا، وكان ذلك محاولة لإثبات هويتنا، فأصبحت لنا طوابعنا البريدية الخاصة بنا. وعلى مر السنين أصبح هناك المئات من هذه الطوابع البريدية التي أصدرتها الطواقم، صُممت في البداية بالرسم اليدوي فقط، ولوّنها البحارة الجدد في السفن بألوان متعددة، ولكن بعد ذلك خلال فترة وجودي صمّمناها إما على قطعة من المشمع، أو على ممحاة مطاطية، كنا نقطعها ونطبعها على متن السفينة، ووضعنا هذه الطوابع البريدية على رسائلنا البريدية المرسلة لبلداننا.

وانتشرت تصميمات هذه الطوابع بمستوى عالمي إلى حد كبير، فوصلت إلى دول مثل أمريكا وأستراليا وجميع أنحاء بريطانيا وفي ألمانيا وفرنسا، ويستذكر “ماكفيرسون” تلك الأحداث بقوله: لم نكن على يقين أن رسائلنا تصل إلى بلداننا باستخدام طوابع الجمعية فقط، لذلك كانت هناك طريقتان أخريان اتبعناهما في إرسال الرسائل، إما بوضع الطوابع المصرية إضافة إلى طوابعنا الخاصة ثم دمغها بواسطة السلطات المصرية وإرسالها إلى هيئة البريد المصرية، وإما باستخدام طوابعنا الخاصة وإعطائها لأحد أفراد الطاقم الذي يكون عائدا إلى ألمانيا أو الولايات المتحدة أو أي بلد آخر ليرسلها هو من تلك البلاد.

بعد حرب أكتوبر 1973، سمح السادات بفتح قناة السويس وعودة السفن، وبذلك انتهى عهد جمهورية البحيرات المُرّة

انفراج الأزمة.. عوائق مخلفات الحروب

في أكتوبر 1973 تحقق عبور القناة واستعادة الأرض، واكتملت ثلاثية الحروب التي خيّمت على أرجاء المنطقة، وتسببت في إغلاق القناة كل تلك السنوات وبات ملحّا فتحها من جديد فتنفس الأسطول الصُّعَداء، وأصبح مستعدا للعودة كل إلى وطنه، إلا أن الأمر لم يكن بتلك السهولة، فقد تطلب الأمر عامين آخرين لإزالة العوائق الغارقة من مخلفات الحروب، وكانت التوقف لثماني سنوات في وسط رمال الصحراء ومناخ المنطقة الحار كفيلا بإضعاف المحركات وتدهور حالة السفن، وبات مستحيلا عودتها دون سحبها أو قطرها بسفن أخرى أو رافعات، وحدها السفن الألمانية التي تمكنت من العودة بمفردها بعد عملية إحياء للمحركات في شهور التوقف الأخيرة ووصول طاقم جديد لهذه المهمة.

وبعد انفراج الأزمة واستعداد السفن العالقة للعودة للديار، بدأ تحدي إعادة الحياة للسفن قبل رحلة العودة، وعن ذلك يقول “فيلهيلم شيفيرديكير” وهو فني راديو وإشارة: ذهبتُ إلى قناة السويس وأنا ابن 35 عاما لأداء مهمة محددة على متن السفينتين الألمانيتين “مونسترلاند” و”نوردفيند”، وتمثلت مهمتي في إعداد وتجهيز السفينتين لإعادتهما إلى ميناء هامبورغ بطواقمهما، ونظرا لطول فترة توقف السفن فقد احتفظنا بالحد الأدنى من أفراد الطاقم بعدما عاد الكثير منهم لعدم الحاجة الملحة إليهم، أما من بقي على السفن فكانت مهمتهم الوحيدة تأمين السفن ومنع الغرباء من التسلل إليها. حرّكنا السفن يوميا في المساء لمسافة 30 مترا إلى الأمام وإلى الخلف للتعرف على حالة المحركات وهل بها أعطال أم لا.

ويضيف مداعبا: الفترة التي قضيتها لم يكن فيها أي ألعاب أولمبية بل فقط العمل، وقد أتممنا مهمتنا بنجاح وصارت السفن جاهزة للإبحار، وذات يوم تلقينا الخبر السعيد من شركة الملاحة في هامبورغ، وهو قرار الرئيس السادات استئناف الملاحة وفتح قناة السويس، ولذلك علينا أن نستعد وطواقم السفينتين ونكون جاهزين للإبحار.

في هامبورغ الألمانية، ألوف الناس وعشرات الصحفيين يستقبلون قادة الأسطول الأصفر ويحتفلون بعودتهم سالمين

عودة السفن إلى مراسيها.. ذكريات محفورة في الذاكرة

بعد الغياب الطويل عن الوطن وجد طواقم السفن استقبالا حافلا في بلدانهم، كما يذكر “شيفيرديكير”: عند وصولنا كان بانتظارنا مئات الصحفيين ممن صعدوا على ظهر السفينة لتغطية هذا الحدث المهم، وبعد عبورنا الممر المائي المؤدي للميناء فوجئنا بحشد كبير من الجمهور للاحتفاء بنا، استقبلونا بحفاوة شديدة وكانت فرحة عظيمة وعيدا للجميع، فرحتنا كانت أكبر وكنا فخورين بإتمام عملنا وإعادة السفن سالمة إلى قواعدها.

استؤنف الإبحار في قناة السويس في 7 مايو/أيار 1975 ووصلت السفينتان إلى ميناء هامبورغ 24 مايو/أيار 1975، لكن التجربة المرة والطويلة جدا بقيت محفورة في ذاكرة ووجدان من عايشوها.

يقول “مولهول”: بعد عودتي إلى وطني لم تفارق قناة السويس مخيلتي أبدا، فقد أثرت فيّ كثيرا وصارت جزءا من حياتي، فتجربتي في البحيرات المرة أحملها معي على مدار اليوم والأسبوع والعام، فقد كانت الفترة التي قضيتها في قناة السويس تجول بخاطري، وكانت في معظمها تجارب طيبة جدا جدا بالنسبة لشاب صغير في عامه الـ23، فأن تكون في محيط خطر مثل هذا، ثم مع الجميع نُحول ذلك المحيط الخطر إلى مكان نستجم فيه ونواصل البقاء ونمتّع أنفسنا، فتلك تجربة لا ينبغي لأحد أن يفرط فيها، وما كان ينبغي لي أن أفرط في أن أكون موجودا في قناة السويس، تحت أي ظرف من الظروف، فقد أضافت كثيرا إلى حياتي، وأعتقد أنها ساعدت في تكويني على المستوى الشخصي.

 


إعلان