“الاستبدال الكبير”.. خيوط التأصيل الفكري لإبادة الآخر

حسن العدم
يقول “رونو كامو”: “لقد أبدت الحكومات الأوروبية تساهلا كبيرا، وحاولت التهوين من غياب الوعي إلى أبعد الحدود في ما يتعلق بالاستبدال الديموغرافي الذي تتعرض له القارة، بل إنها كانت تشجعه في كثير من الأحيان، والمخرج من الأسلمة وتمدد الغزاة هو أن تتضافر جهود كل أوروبا وليس فرنسا فقط للوقوف في وجه هذه الغزوة الشرسة، وإلا فهو الانتحار المجنون”.

بهذه العبارات المستفزة استهل الكاتب نظريته، ولك أن تتخيل ما يدور بخلده، أو ربما أنه كان يعلم أن دماء غزيرة ستهدر حول العالم، وأن سفاحي الدماء سوف يستلهمون من عبارات “كامو” وأطروحاته صك براءة لجرائمهم.

 

وقد أفردت قناة الجزيرة الفضائية حلقة من برنامج “خارج النص”، واستضافت من خلالها المؤلف “كامو” وبعض الباحثين والإعلاميين الذين تصدوا لأفكار الكتاب ونظرياته العنصرية.

دعاة تفوّق العرق الأبيض.. تملص من الجريمة

تصدّر مفهوم الاستبدال الكبير الذي طرحه الكاتب الفرنسي المثير للجدل “رونو كامو” صفحات وسائل الإعلام الأوروبية والعالمية، عندما أقدم متطرف أسترالي على قتل 51 مصليا مسلما في مسجدين بمنطقة “كرايستشيرش” في نيوزيلندا في مارس 2019، وذلك عندما أشار ذلك المسلح في بيانه المطول الذي حمل نفس عنوان الكتاب إلى أسباب ارتكابه لجريمته، وأثار الشكوك حول علاقة الجريمة بآراء كامو.

تتلخص نظرية كامو في أن قارة أوروبا تتعرض لهجمة ديموغرافية شرسة من الأفارقة والمسلمين، وسيكون من أهم نتائجها الكارثية اختفاء سكان القارة الأصليين من الجنس الأبيض، على حد زعمه.

يقول كامو: لقد تفاعلتُ برعب عند سماعي بخبر المجرزة، وبنفس الرعب كانت ردة فعلي عندما علمت أنهم يربطون بين هذه الجريمة وبين كتابي، هذه علاقة مغلوطة، فلم يشر أحد من القتلة إلى اسمي. كتابي لم يترجم بعد إلى الإنجليزية، فكيف تسنّى للقاتل أن يقرأه؟ لو قرأه لما تصرف بهذه الطريقة.

أكثر من 90% من المسلمين والأفارقة الذين يحلمون الجنسيات الأوروبية هم مواليد تلك البلدان وليسو نازحين إليها

 

ويعلق سلام الكواكبي مدير المركز العربي للأبحاث والدراسات في باريس، على كلام كامو قائلا: تأثر المجرم حرفيا بنظرية الاستبدال الكبير، وذكر ذلك أثناء التحقيق، وقال إنه كان في زيارة لفرنسا واطلع على هذا الكتاب، وهناك الكثير من المتطرفين الذين يتبنون هذه النظرية، ويقومون بأعمال عدائية ضد المهاجرين والملونين والمسلمين.

ويؤكد ذلك “باتريك سيمون”، مدير البحوث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية، حيث يقول: النظرية مصدر إلهام للمؤمنين بتفوق العرق الأبيض، وإعادة بناء المجتمع بسيادة البيض على الآخرين تصل إلى حد التصفية والقتل، وتتعدى رسائل الكراهية إلى حد التصرف بشكل عملي ضد التجمعات غير المرغوبة في دول مثل نيوزلندا وفرنسا وأمريكا.

محاور الكتاب.. مظلة الخوف الزائف على القيم

كان الكتاب قد صدر في عام 2011 بعد أن كان المؤلف قد طرح هذه النظرية في “مؤتمر ليونيل” بفرنسا عام 2010. ويصفه “جان بول غوريفيتش” -وهو مستشار دولي في دراسات الهجرة- قائلا: يتحدث الكتاب عن ثلاثة محاور:

–       المحور الأول: التحول الكمي، أي أن المجتمع الفرنسي المنحدر من أسلاف فرنسيين أصليين سيستبدل بشعب من أصل أجنبي قادم بشكل رئيسي من المغرب وجنوب الصحراء الكبرى.

–       المحور الثاني: أن المجتمع التقليدي المسيحي المعجون بالقيم الأخلاقية العلمانية سوف يستبدل بأغلبية مسلمة يسيطر عليها مع مرور الوقت مسلمون غير معتدلين أي متطرفون.

–       المحور الثالث: أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة تسمح بذلك التحول أو تشجع عليه، من خلال السماح للمسلمين بالتكاثر على الأراضي الفرنسية.

يقول الإعلامي “إيمريك كارون”: المؤلف معروف بانحيازه إلى الجبهة الوطنية اليمينية، طرح نظرية الاستبدال الكبير ليقول إن المجتمع الفرنسي أصله مسيحي أبيض، وأن هذا النسيج مهدد بوصول سكان جدد من أصول مختلفة، ويخص بالذكر العرب والمسلمين.

وينفي الكواكبي أن يكون “كامو” هو من وضع هذا المفهوم قائلا: هذه النظرية لم يكتشفها المؤلف من خلال أبحاثه واستقرائه الشخصي، ولكنه استعارها من نظريات سابقة، أثارها كتّاب متطرفون في القرن التاسع عشر ضد الأرمن واليهود.

اندثار الثقافة الأوروبية.. استبدال تكذبه الأرقام

يقول المؤلف عن الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، إنه وجَّه إلى زيادة معدلات المواليد من الجزائريين على الأرض الفرنسية ليضاهي أو يتفوق على معدلات المواليد الفرنسيين، أو بعبارة أخرى فإن انخفاض معدلات المواليد الأصليين في فرنسا وأوروبا سيكون السبب الرئيسي لتعجيل الاستبدال الكبير.

ويطرح الإعلامي والكاتب يوسف الهلالي أنَّ “فكرة المؤلف هي الخوف من اندثار الثقافة الأوروبية وتلاشيها، وذلك بفعل انخفاض المواليد الأوروبيين الأصليين، وازدياد معدلات المواليد من أصول أجنبية وإسلامية، مما يؤدي إلى استبدالها بحضارة وثقافة مسلمة”.

ويدافع المؤلف عن وجهة نظره، ويقول: النسب والأرقام مضللة، أنا لا أفهم بالأرقام ولست إحصائيا ولا عالِم اجتماع، أعتقد أن التوصيف التاريخي للعالم عن طريق علم الديموغرافيا والإحصاء والأرقام هو توصيف مضلل وكاذب.

الأرقام تكذب ادعاءات اليميني المتطرف “كامو” بشأن الاستبدال الكبير الذي سيتحقق بالمسلمين في أوروبا

 

ويرد عليه “باتريك سيمون”: المهاجرون يشكلون 9% من السكان في فرنسا، وهناك 12% آباؤهم مهاجرون، وهذه نسب اعتيادية وغير مخيفة، ثم إن الـ12% ليسوا كلهم من أصول مسلمة أو أفريقية، بل إن كثيرا منهم مهاجرون من داخل أوروبا نفسها.

وبنفس منطق الأرقام يقول “إيمرك كارون”: النظرية مبنية على الخيال والخوف والهلع وليس على مخاوف حقيقية، أنا بنفسي قمت باستقراء لنسب المسلمين في جميع أوروبا، ووجدت أن النسبة الحالية هي 6% فقط، وستصل إلى 8% في 2030، وهذه أرقام لا تشي باستبدال كبير ولا صغير.

أسس الجمهورية.. نقمة اليمين على الإسلام

لاقت هذه النظرية رواجا لدى اليمين المتطرف في فرنسا، فهل كان لها دور في تعاظم حجم الأحزاب الشعبوية في أوروبا؟

يجيب الهلالي على هذا التساؤل قائلا: لا يمكن الاستهانة بتأثير هذه النظرية على المجتمعات الأوروبية، فقد شهدت السنوات العشر الأخيرة صعودا لافتا لليمين المتطرف، ولنا في إيطاليا خير مثال، وفي ألمانيا بدأ اليمين النازي يعود إلى الواجهة، وتذكرون كيف أن “ماري لوبان” وصلت للدور الثاني.

خطاب لـ”مارلين لوبن” مرشحة الرئاسة الفرنسية تطالب فيه بمحاربة الإرهاب الإسلامي في فرنسا

 

وعن نظرية الخوف التي يدين بها كامو، يقول “غوريفيتش”: كامو لديه فكرتان مختلفتان:

–       الأولى: أن هؤلاء القادمين لديهم ثقافة مستوردة لا تتفق مع الثقافة الفرنسية الأصيلة.

–       الثانية: أنهم يأتون بتقاليد دينية لا تتماشى مع العلمانية الفرنسية.

ترعب المؤلف فكرة أن المهاجرين يقولون: “نحن من صنعنا فرنسا وبنيناها، نحن وقودها ولن تكون من دوننا، نحن فرنسيون مثلكم تماما إن لم نكن أكثر”. ويضيف: في فرنسا نحن مستعمرون بشكل أساسي من قبل الأفارقة، فهنالك شعوب بأكملها تنزح إلى هنا، وليس الخطر متمثلا في الإسلام فقط، وإن كان ما يزال يمثل الكتلة الأكبر تنظيما ومتانة، بعكس المسيحية المتراجعة التي يتمسك بها القلة من الناس، وعكسها الإسلام الديناميكي الحي ذو العلاقة المتينة بين أفراده، وهو ما يشكل قوة كبيرة في الغرب بشكل عام.

ويعارضه “كارون” في ذلك قائلا: الفكرة برمتها مبنية على الخوف من الآخر، مع أن الغالبية من المهاجرين تندمج بشكل سلس في المجتمع الفرنسي، وتحترم الأسس التي قامت عليها الجمهورية، هناك أقلية لا تحترم هذا النظام، علينا توعيتهم وتثقيفهم، ولكنهم لا يمثلون حالة عامة.

ويصرخ المؤلف برعب: لماذا هذا القبول السلبي لهذا التدفق المستمر منذ 40 عاما؟ إنهم يستقرون مع أسرهم وينشئون أحفادهم، بحيث يغيّرون المظهر العام، ويقتحمون شوارعنا، الأمر الذي دافعنا مدة 15 قرنا لنتجنبه.

“رحلنا من بلادهم وليرحلوا من بلادنا”.. كذبة الاستعمار الكبرى

يرى “كامو” أن فرنسا تتعرض لاستعمار عكسي من المهاجرين، وأنه أكثر ضررا من استعمار فرنسا لهذه الدول، ويكثر من استخدام مصطلحات المستعمرين والغزاة والفتح في كتابه، ويطالب المهاجرين صراحة بالعودة إلى أوطانهم. ويفرق “كامو” بين الاستعمار الإمبريالي والسياسي والاقتصادي الذي ينتهي في آخر الأمر برحيل المستعمر، وبين الاستعمار الديموغرافي الذي يستقر ولا ينتهي.

ويرد عليه الكواكبي قائلا: “كامو” هذا إما جاهل أو أنه يتجاهل، ألم يقرأ تاريخ المجازر الفرنسية للجزائريين والسود؟ ألم يقرأ عن أرقام النمو الاقتصادي لدول أوروبا التي زادت بفعل ثروات أفريقيا؟ ألم يقرأ أن كل مناجم المعادن الثمينة التي تُستخدم في التكنولوجيا الأوروبية والثورة النووية موجودة في القارة السوداء؟ ثم يأتي ليقول لنا استعمار عكسي.

كتاب “كامو” كان سببا في جريمة نيوزيلندا التي اقترفها متطرف أبيض وذبح فيها المصلين بمسجدين هناك

 

ويقول “إيمريك”: إننا مدينون كثيرا لهذه الدول التي استعمرناها، مدينون لها بعدد الأرواح التي أزهقناها، وبحجم الثروات التي نهبناها من بلادهم، لقد كذبنا عليهم عندما قلنا إن الاستعمار كان لنقل المعرفة وبناء المستشفيات، ولكن الحقيقة المرة أن هذا الاستعمار كان لاستغلال أراضيهم، واستخدامهم فيها كعبيد لنا.

والحل بسيط بنظر “كامو”، ويتمثل في الهجرة العكسية، وأن يعود الغزاة من حيث أتوا، “يقولون إننا استعمرناهم، وها قد رحلنا عن بلادهم، فليرحلوا هم إذن عن بلادنا.

إثارة الكراهية.. دعاية المجتمع الفرنسي المنفتح

لم تكن أفكار “كامو” ذات تأثير كبير في الشارع العام الفرنسي، وإنما انحصر تأثيره في التجمعات اليمينية، وأولئك الذين يؤمنون بنظريته، ومنهم “إيريك زيمور”، وهو معادٍ للسامية ويصف المسلمين باليهود الجدد، ويثير قضية الرُهاب من الإسلام بشكل يومي على وسائل الإعلام.

بسبب كتابه العنصري، أُدين كامو بإثارة الكراهية ضد المسلمين

 

ما زالت نظرية “كامو” متداولة في الإعلام وبين النخب، ولا يعرف الناس العاديون الكثير عنها، وخصوصا الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا وأوروبا، وليس لها علم بهذا التراشق بين من ينادون بمجتمع فرنسي منفتح على الآخر، ومن ينادون بمجتمع فرنسي منغلق وعنصري ضد ثقافة الآخر.

في النهاية فقد أُدين كامو بإثارة الكراهية ضد المسلمين، ولكن هل تكفي هذه الإدانة لنزع أفكاره من عقول المتطرفين؟ وهل تكفي الإدانة لوقف سفك دماء المسلمين في شرق الأرض وغربها بحجة الرهاب من الإسلام؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة.

 


إعلان