الأمن المائي في الدول العربية.. مستقبل يدق ناقوس الخطر

مراد بابعا

في الوقت الذي يغرق فيه العالم في أزمة فيروس كرورنا المستجد، يأتي اليوم العالمي للمياه الذي يصادف الـ22 من مارس/آذار، ليذكرنا بأخطر التحديات التي ستواجه العالم مستقبلا، وهو تحدي شح المياه وتزايد الضغط على مواردها، حيث تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أزمة مياه شديدة، نبّه إليها التقرير الأخير لـ”معهد الموارد العالمية” (World Resources Institute) الذي حذر من أن 12 دولة عربية من أصل 17 دولة حول العالم مهددة بشح المياه، وذلك بسبب درجات الحرارة المرتفعة والجفاف المتزايد نتيجة ضعف التساقطات المطرية وارتفاع الطلب على الماء.

وقد دق المجلس العربي للمياه من جهته ناقوس الخطر بخصوص الموارد المائية للدول العربية التي تتوفر على 1% فقط على من المياه العذبة على مستوى العالم، وتتعرض لضغط متواصل بسبب زيادة عدد السكان مع ثبات الموارد المائية.

وبمناسبة اليوم العالمي للمياه تعود “لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية” لتسلط الضوء على الضغط الكبير والاستنزاف الذي تتعرض له الموارد المائية حول العالم والحرمان الذي يعانيه ملايين الأشخاص من مياه الشرب النقية والصرف الصحي.

فما هو حجم الخطر الذي يتهدد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بسبب شح المياه؟ وهل هناك استراتيجيات للحد من هذا التراجع الخطير في الموارد المائية؟

 

حقوق الإنسان.. دول عربية على حافة العطش

أقرت الأمم المتحدة منذ 2010 بأن “الحق في الحصول على مياه الشرب، وخدمات الصرف الصحي، هو حق من حقوق الإنسان، وهو أساسي للتمتع بالحياة، وبجميع الحقوق الأخرى”، ويلزم هذا القرار الدول الأعضاء بتهيئة الظروف المواتية لضمان حصول الجميع على المياه العذبة، وخدمات الصرف الصحي دون أي تمييز، خصوصا الفئات الأكثر حرمانا.

وقد وضعت المنظمة الأممية عام 2030 كهدف من أجل ضمان هذا الحق في جميع الدول، ولا يبدو تحقيق هذا الهدف سهلا على الإطلاق، ونحن الآن في منتصف الطريق، خصوصا مع تزايد الضغط على الموارد المائية في جميع أنحاء العالم، بسبب الأنشطة البشرية والنمو الديموغرافي المتسارع، وأيضا التغيرات المناخية التي انعكست على حجم التساقطات المطرية وانتظامها.

وتعتبر الدول العربية من بين أكثر الدول المهددة، فقد قدّر التقرير الأخير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تتجاوز الساكنة معدل 360 مليون نسمة تقريبا إلى أكثر من 634 مليون نسمة بحلول عام 2050، كما توقع معهد الموارد العالمية أن يعاني ما لا يقل عن 14 دولة في الشرق الأوسط من نقص المياه في الـ25 سنة القادمة، ومنها الكويت وقطر والإمارات والسعودية والأردن ومصر وغيرها.

كثير من شعوب العالم لا تجد الماء النظيف الصالح للشرب، على الرغم من أنه بند من بنود حقوق الإنسان

 

كوارث الطبيعة وحروب الإنسان.. قشة قصمت ظهر البعير

يتزايد الاستهلاك العالمي من الماء سنويا بنسبة 1% سنويا، وذلك منذ 1980 بحسب تقرير لمنظمة التربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” صدر العام الماضي 2019، وتوقع أن يتزايد الطلب في سنة 2050 بما بين 20 إلى 30% عن المستوى الحالي.

وأكد التقرير أن الدول العربية هي الأكثر عرضة لأزمة المياه، خصوصا مع تزايد عدد السكان ومعاناتها من تأثير التغيرات المناخية، ومن أصل 20 دولة مهددة بالعطش حول العالم توجد 14 دولة عربية، كما أن 51 مليون شخص في المنطقة لا يتحصلون بعد على الماء الصالح للشرب.

وقد تسببت الكوارث الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية -خصوصا الجفاف- برحيل أكثر من 240 ألف شخص في الدول العربية جُلهم في السودان والصومال واليمن، بالإضافة إلى معاناة اللاجئين من أزمة المياه بسبب الحروب في سوريا واليمن والعراق.

شعوب لا تملك منابع مائها.. بوادر ثورة العطش

تعاني الدول العربية إضافة إلى الجفاف والصراعات من عدم تحكمها في منابع مياهها الرئيسة، إذ أن 67% من مياه الأنهار تنبع من خارج العالم العربي، كما تتحكم ثماني دول مجاورة للدول العربية بأكثر من 85% من منابع المياه الداخلية.

ويزيد من تعقيد الوضع اشتراك دول عربية في الأنهار نفسها، كما هو الحال بالنسبة لمصر والسودان المهددتين بسد النهضة الإثيوبي على نهر النيل، والأردن وسوريا ولبنان التي أصبح منسوب أنهارها متقطعا بسبب إسرائيل، وأيضا معاناة سوريا والعراق مع تراجع صبيب نهري دجلة والفرات بسبب سدود تركيا.

وبما أن الماء هو مادة حيوية وتوفيرها بشكل مستدام هو حق من حقوق الإنسان الأساسية، فإن الأمر لم يعد اختيارا أو ترفا، بل أمرا حاسما للدول من أجل ضمان أمنها واستقرارها، فليس هناك ما يهدد مستقبل الدول حاليا أكثر من ثورة العطش التي يحذر منها العديد من المتتبعين.

دول الخليج وعشرات البلدان الأخرى في العالم تحصل على مياه الشرب من محطات تحلية مياه البحر

 

محطة “رأس الخير”.. استنجاد البر بماء البحر

تفاديا للوصول إلى مرحلة العطش، دُفعت العديد من دول العالم خصوصا التي تعاني من شح المياه، إلى وضع استراتيجيات على المديين المتوسط والبعيد، ورصدت من أجل ذلك مليارات الدولار. وكما هو معروف فإن الماء لا يُصنع، لكن يمكن جلبه من أماكن أخرى أو تخزينه أو إعادة استعماله أو حتى تحويله من ماء مالح كماء البحر إلى ماء عذب.

وبما أن أغلب الدول لم تصل بعد إلى مرحلة استيراد المياه من الخارج باستثناء مياه الشرب المعبأة، فإن التخزين وإعادة الاستعمال يبقى من أهم الوسائل المعتمدة حاليا، خصوصا عن طريق المنشآت المائية وعلى رأسها السدود المقامة على الأنهار والأودية، التي تعتمد عليها في السقي قرابة 30% من الأراضي الزراعية في العالم، بالإضافة إلى توليدها للطاقة الكهرومائية.

كما تستثمر بلدان المنطقة ملايين الدولارات لبناء محطات لتحلية مياه البحر التي ما زالت تكلفتها المادية والبيئية مرتفعة، وتحظى هذه التقنية بأهمية كبيرة إذ تستحوذ الدول العربية -وعلى رأسها دول الخليج- على حوالي 60% من الاستثمارات في هذا المجال، كما تعتمد دول مجلس التعاون الخليجي على التحلية بنسبة تصل إلى 80% كمصدر أساسي لمياه الشرب.

وقد أنفقت دول الخليج العربي مجتمعة حوالي 35 مليار دولار من أجل إنشاء 550 محطة للتحلية خلال العشرين سنة الأخيرة، وتعتبر محطة “رأس الخير” السعودية أكبر محطة لتحلية ماء البحر في العالم بقدرة إنتاجية تقدر بأكثر من مليون متر مكعب يوميا.

تكرير المياه العادمة يوفر ميزانية كبيرة على الدول خاصة الزراعية منها، إذ يذهب 70% من المياه لصالح الزراعة

 

ترشيد الموارد وإعادة تدويرها.. حلول المستقبل المستدامة

بالنظر إلى التكلفة الباهظة لجلب المياه أو تخزينها أو تحليتها يبقى الحل الأمثل والأرخص هو ترشيد الاستعمال وتقليل الاعتماد على المياه العذبة في الأنشطة الصناعية والزراعية، وتعتبر الزراعة أكبر مستنزف للمياه حول العالم، إذ تستهلك 70% من إجمالي مياه الأرض، تليها الصناعة بـ20%، وأما الـ10% المتبقية فهي تذهب للاستهلاك البشري.

وفي العالم العربي يقدر الاستهلاك السنوي من المياه بحوالي 230 مليار متر مكعب، منها 43 مليار متر مكعب تستهلك في الشرب والصناعة و187 مليار متر مكعب في الزراعة، وتؤكد هذه الأرقام أن الجهد الأكبر في اقتصاد الماء يجب أن يبذل في الجانب الزراعي، من خلال تطوير الأبحاث العلمية والتوجه نحو الزراعات الأقل استهلاكا للمياه، واعتماد التقنيات الحديثة كالري بالتنقيط، وتخفيف الضغط على المياه الجوفية ومياه السدود.

كما يشكل تدوير المياه العادمة حلا حقيقيا لري بعض المساحات الخضراء، لأن السقي لا يتطلب كثيرا من المعالجة مقارنة بالمياه الموجه نحو الشرب، بالإضافة إلى أن هذه المياه العادمة تشكل المورد الطبيعي الوحيد الذي يزداد مع نمو المدن والسكان.

ويسعى المغرب مثلا إلى إعادة استعمال ما يناهز 325 مليون متر مكعب سنويا في أفق 2030، بينما أطلقت مصر والأردن ولبنان في 2018 مشروعا إقليميا يمتد على مدى 4 سنوات لإعادة الاستخدام الآمن لمياه الصرف المعالجة، وتسعى هذه المبادرات جميعها إلى تقوية القدرات في هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على اعتبار أن 82% من إجمالي المياه المستخدمة تبقى بلا إعادة تدوير، مقارنة مع حوالي 70% في بعض الدول الغربية.

 

حرب الماء.. صراعات الماضي والمستقبل

يشكل الصراع على المياه أحد أسباب اندلاع الحروب على مر التاريخ، فقد قدر معهد بحوث المحيط الهادي عدد الاشتباكات والتحركات العسكرية التي تخص المياه منذ العام 3 آلاف ما قبل الميلاد بأكثر من 400 حرب أو اشتباك، أما في العصر الحديث فقد سجل المعهد 222 تحركا عسكريا بين 2000 و2017 بهدف السيطرة على مورد مياه أو تدميره، ومنها 123 عملا عسكريا بمنطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا.

وقد شكلت المياه أحد الأسباب غير المباشرة في اندلاع حرب الأيام الستة عام 1967 بين الدول العربية وإسرائيل، وبعد “النكسة” اختصت إسرائيل نفسها بأكثر من 60% من صبيب نهر الأردن، بينما يحصل الأردن على 20%، وسوريا على 15%، على الرغم من أن مياه النهر تنبع من سوريا.

وبما أن الدول العربية تشترك في العديد من الأنهار، فهي مهددة دائما بنشوء صراعات أو حروب، كوضعية إيران والعراق بسبب النزاع على مياه شط العرب، رغم توصّل الطرفين إلى اتفاق بشأن تحديد الحدود النهرية بينهما عام 2014، بالإضافة إلى الخلاف التاريخي بين تركيا وسوريا والعراق على مياه دجلة والفرات، منذ بناء تركيا للسدود التي قلصت من كمية المياه المتدفقة إلى سوريا بنسبة 40%، ومن حصة العراق بنسبة 80%.

ويبقى أحدث وأخطر هذه الصراعات الخلاف الحالي على مياه نهر النيل -أطول نهر في العالم- بين مصر وإثيوبيا، بسبب بناء سد “النهضة الإثيوبي”، ويهدد هذا المشروع الضخم بسحب كمية كبيرة من مياه النيل الذي تعيش على ضفافه ساكنة تقدر بـ280 مليون نسمة، ويوفر 98% من المياه السطحية في مصر. كما ستتأثر السودان بهذا المشروع الضخم نتيجة نقص المياه المتوقع في حالة قيام الجانب الإثيوبي بملء وتشغيل خزان السد دون التوصل إلى اتفاق نهائي عادل يراعى مصالح الدول الثلاث.

 


إعلان