“الإبرو”.. روحانيةُ سِباحة الألوان على الماء

سناء نصر الله
فن رقص الألوان على الماء يحمل في ثناياه تجليات روحية شرقية الطابع، وتمتزج فيه مشاعر الإنسان وتكامل الطبيعة مع وحدانية الخالق.
إنها صورة راقصة تحركها إبرة الفنان على سطح الماء المهتز سامحا للألوان بالتشكل بإرادة الفنان الجزئية، لكن الإرادة الكلية تبقى لله سبحانه، وهذا ما عرفه القدماء حين قالوا أنتم تضعون الصباغ في الماء، وهذه إرادة جزئية، ومن ثم يخرج الأمر من يدكم ولا يعود بوسعكم عمل شيء، إذ الأمر بعد ذلك بيد الله، وتلك هي الإرادة الكلية.
إذا فـ”الإبرو” يعتمد على التربية الروحية، وينزع إلى نظرة صوفية عميقة لفهم الحياة، وليس مجرد فن مادي جامد.
شبيه الغيم.. فن السطح المتموج
تقول الفنانة “فسون بارودجي”: بعد أن عرفنا الفاعل الحقيقي وهو الله، تعلمنا أننا لا ينبغي أن نعترض على كل التجليات، وهو يبين بوضوح وجوب التسليم للإرادة الكلية.
إذا فهو لا يشبه أي فن، أما كلمة “الإبرو” فترتبط في معناها إلى حد كبير بهذا الفن، فهي كلمة من لغة “جغطاي” وهي إحدى اللغات التركية، وتعني السطح المتموج، ويقال إن هذا الفن جاء إلى إيران عبر خط الحرير، وسمي أيضا “إبري” أي شبيه الغيم أو وجه الماء.

تُلخص عملية “الإبرو” تقنيا برش الألوان على سطح الماء وتشكيلها ثم نقلها إلى الورقة، يبدو الأمر سهلا لكنه فعليا بعيد من ذلك، فرغم القدر الذي يعطيه الماء من انسيابية في الحركة للإبرة فإن الفنان لا يستطيع التحكم بشكل كامل لا بالقطرات الصبغية ولا بتداخلها ولا بالمسافة بين الألوان، فهو لا يعتمد فقط على رمي الألوان على رأس الحوض ثم التقاطها بالورقة، بل إن الوصول لنتيجة مرضية يحتاج إلى سنوات من الخبرة.
يقول الفنان المعاصر “حكمت بارودجي كيل”: إذا كنا نعمل نظيرا للأعمال السابقة ونقلدها فهذا أمر سهل يستطيع الجميع القيام به، وبهذا يكون “الإبرو” حرفة، لكن إذا عملنا أشياء مبتكرة ذات قيمة جمالية فهذا هو الفن.
حراسة رسائل السلاطين.. سحر الفيزياء
حين نقارن بين الفنون الشرقية والغربية فإن الفرق يبدو جليا، ففنون الشرق تعتمد على المشاعر والعشق وقوة الخيال دون القدرة على وصف الأشكال وكيف تكون ولماذا جاءت. ولقد قال القدماء “إن الفن على ما تسير”، ففيه اللامحدودية وفيه الأسرار المطوية، فحاول حلها إن استطعت، أما الفنون الغربية ففي طبيعتها تخاطب العين، وهذا يعني أن ما تراه العين هو الأساس ووجهة النظر هي الحاكمة.

لم يحدد بالضبط تاريخ نشأة هذا الفن ولا المكان الذي جاء منه، لكن المؤرخين يرجعون جذوره الممتدة إلى آسيا الوسطى وهو فن تركي قديم يزين به الورق، وفي أواخر القرن السادس عشر دخل إلى أوروبا وعرف بـ”الماربلنغ”، وفي العربية عرف بالورق المجزّع، وله آلاف النماذج في الحضارة العثمانية.
وقد أدخل هذا الفن في تجليد الكتب وتزين أرضيات الصفحات واللوحات الكاليغرافية وحوافها، كما كان له وظائف أخرى في الحياة السياسية والإدارية في الدولة العثمانية، وكان يُستخدم في وثائق الدولة والمكاتبات الرسمية ليس بهدف الأناقة لكن بغرض منع التحريف والتزوير.
يتأثر “الإبرو” بمؤثرات خارجة عن سيطرة الفنان، وليس هناك مجال للتراجع وهو يشبه إلى حد كبير الفن التشكيلي الحديث، إذ أنه ظاهرة فيزيائية تعتمد على التوتر السطحي لقيم السوائل، لذا لا بد من مراعاة المقادير الحساسة عند إعداد الماء، كما تحضر الأدوات والصبغات بكل دقة، وقبل البدء تسحق الصبغات لساعات عدة، وقد يستغرق سحقها يوما كاملا، فكلما سحقت أكثر كانت النتيجة أكثر إرضاء، وتحتاج العملية للصبر والخبرة رغم أن تحول الصبغات على الورقة لا يحتاج إلا لبضع دقائق.
حمرة الورد العابرة للقرون.. تجليات تنتهي بالتوحيد
يقول الفنان “حكمت بارودجي”: عندما ينظر الفنان للون واحد طوال الوقت وإيقاع حركي واحد فلعله ينطق بكلمة التوحيد من أعماقه ليؤسس رابطة معنوية بينه وبين العمل، لذا نقوم بنظام تعليمي فعال يقوم الطالب فيه بتجهيز كل شيء بنفسه من أوله إلى آخره.
تجهيز الطالب لكل شيء بنفسه من بداية العمل إلى آخره في سحق الأصباغ هو اختبار مفصلي له لتحديد مدى صبره، لهذا فإنه يتعلم احترام العمل الذي يقوم به، وهذه المرحلة هي التي تحدد إن كان يستطيع الاستمرار أم لا.
لا يقل الماء أهمية عن الأصباغ، ويفضل استخدام المياه العذبة الخالية من الكلس، أو الماء المقطر وتفضل الأصباغ الترابية، ولذا قد يصل عمرها مئات السنين كحمرة الورد التي أضحت تقليدا في هذا الفن.

كان المحترفون يصنعون الإبر من ذيول الخيل وعيدانها من أغصان شجرة الورد، والذي سن هذا النوع هو الفنان “نجم الدين أوكياي” الذي كان شغوفا بالورد واستخدم الأغصان لخفّتها ومرونتها، واحتراما له واصل طلابه صناعة الإبر على نهجه.
لا تدوم النقوش طويلا لذا يجب نقلها إلى الورق مباشرة، وتفضل الأوراق الطبيعية الخالية من الحمض، وعند عمل “الإبرو” تشكل الأنماط وترش الأصباغ، وقد جرب الفنانون أدوات كثيرة من أجل سباحة الصبغات، فاستخدموا السحلب والسفرجل وبذور الكتان وماء الباميا، وفي أوروبا استخدموا قطائف البحر، لكن الأتراك يفضلون “الكثيرا” المستخرجة من عشب “الاستراغالوس” لأجل تكثيف الماء.
أما الإكسير الساحر فهو مرارة البقر التي تعمل على وضع حد خفي بين الألوان وتمنع اختلاطها، وكذلك تؤمن التصاق الألوان بالورق، ولأجل اشتقاق تدرجات لونية من خلال زيادة أو تنقيص المرارة نسبة لمقدار الماء، وعرف هذا عبر سنوات طويلة من ممارسة هذا الفن الذي ينتقل من جيل لآخر من خلال معلمين وتلامذة توارثوه جيلا عن جيل.
“إبرو البطال”.. سلالة الأب الروحي للفن
طورت أنواع “الإبرو” عبر التاريخ، ولكنها جميعا اشتقت من “إبرو البطال” فهو الأب الروحي لها جميعا، فمرحلة التكوين تتشكل حسب مقدار المرارة في الأصباغ، ويبدأ بالألوان الخفيفة ثم الصبغات ذات المرارة الكثيفة، وتكون من لون واحد أو عدة ألوان تنثر على سطح الحوض.
لقد طُور الإبرو بحسب النمط الذي يظهر على يد صاحبه، وبحسب الطريقة التي يتبعها، وهناك إبرو المشطية والوشاح وذي الطباعتين والكأس الأبيض وعش البلبل والرملية والمد والجزر والخفيف.

وإلى جانب هذه الأنماط حاول الفنانون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين ابتكار أنواع جديدة كتبت فيما بعد بأسمائهم، مثل إبرو الخطيب نسبة لخطيب جامع آيا صوفيا محمد أفندي، وإبرو نجم الدين الذي طور في فن الزهور، وجعل هذا الفن يتبوأ مكانه في الفنون البلاستيكية.
وقد خلف نجم الدين ولداه اللذان مارسا عمله، كما حاز ابن اخته “مصطفى دوسكنمان” على شهرة تضاهي خاله، وأضاف زهرة البابونج على شكل باقة.
“حكمت خُدا”.. بحث عن الجمال الإلهي
من الفنانين المعاصرين الذين اشتهروا بممارسة “الإبرو” الفنان “حكمت بارودجي كيل” وسمي نوع جديد في الفن باسمه وهو “إبرو بارودجي”، فلقد أضاف تقنيات جديدة ورسم على الخشب والسيراميك والزجاج والقماش، وأدخل “الابرو” في فن النسيج والمعمار.
يقول الفنان “حكمت بارودجي”: “الإبرو” من الفنون الشرقية التي تبحث عن الجمال الإلهي ولا يحق للفنان أن يقول فعلت هذا وخلقت هذا، لذا لا يوقع على عمله، وهي طريقة متبعة من الماضي، ويُعرف العمل فقط من خلال طريقة اختيار الألوان والأسلوب.

ويتابع: اختلفت مقاييس الحكم في زمننا بحيث أصبح العمل بدون توقيع لا قيمة له، لذا أنا أوقع بعبارة “حكمت خُدا” ولا أقصد بذلك اسمي، لكن أعني حكمة الله أي أسرار الله الخفية، وهو من تعبيرات “الإبرو”.
ألوان الطبيعة.. صوفية تشفي المرضى
يبحث المختصون النفسيون عن ماهية العلاج من خلال ممارسة فن الإبرو، وتقول د. سويم جسور: أصبح هذا الفن في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم وسيلة للعلاج، إلا أن تاريخ استخدامه كعلاج بدأ قبل ذلك بكثير.
وتتابع: لقد أقمنا دراسة لمدة ثمانية شهور على مجموعة من الأشخاص وخرجنا بنتائج جيدة اعتمادا منا على فلسفة هذا الفن التي تقوم على أننا لا نستطيع التحكم بكل شيء، وبالتالي يقلل من الشعور بالإحباط لدينا ويكون مدعاة للتسليم والسلام الداخلي، والنظرة للحياة بشكل أكثر هدوءا والتخلص من القلق والكآبة والخوف لأن الاشياء قد تحدث بأي لحظة.

وبما أن الألوان المستخدمة في هذا الفن هي ألوان اعتاد الاشخاص على رؤيتها في الطبيعة، ومن خلالها يرتبط الانسان بالطبيعة ومحاولة محاكاتها، فإن هذه الصورة تخلق حالة من الراحة والاطمئنان.
تجليات الانعكاس الروحي.. ظلال أغصان الفن
قام العديد من المنتسبين للفن بالحديث عن تجربتهم الشخصية، إذ تقول “أيتول سبتجي” مديرة تسويق “الإبرو”: بالنسبة لي هو العشق والمودة والإيمان والانتظام والتبادل والنماء، لقد بدأت أحب نفسي وازداد تفهمي للناس.
وتقول “د. فليا باتوراي”: يعتمد عملي على المناوبة، مما يسبب التوتر والضغط، لذا أذهب إلى المحترف مرة كل أسبوع أنسى تعبي وتوتري.

أما “آمنة اكشي” -وهي مديرة بنك- فقد أخبرت أصدقاءها أنها ستمارس “الإبرو”، فردوا عليها بأنها غير جاهزة له، فردت قائلة: لكن الماء يسهّل كل شيء في الحياة، كذلك يسهل علي الرسم.
وتقول الفنانة “نور كوكلب”: يتشكل “الإبرو” وفق حالتنا الروحية، فعندما نتفاءل نستخدم اللون الوردي والألوان الفاتحة، وعندما نستخدم الأسود فذلك يعكس حالة التشاؤم التي نمر بها.
ولعل من طبيعة شجرة الفن أن يعبّر كل غصن عن الطموح والتجدد والاتجاه المختلف، وهذا ينطبق على “الإبرو”، لذا ظهرت أعمال لعدة فنانين يشتركون في عمل واحد، مثل المُنمنمات مع “الإبرو”، وكذلك الرسم والخط والكتابة على الماء بعدة لغات بطريقة خلاقة ومبتكرة وجذابة ومثمرة، فهذا ما سيحقق لهذا الفن الاستمرارية لأجيال قادمة.