“شيفرة دافنشي”.. كيف أخفت الكنيسة زواج المسيح من مريم المجدلية؟

حسن العدم

إنها الرواية التي لاقت ردود فعل صاخبة ومختلفة من مختلف المستويات المجتمعية، فقد رفضها الفاتيكان وكانت له أسبابه، في حين رأت فيها مجموعة من المثقفين والعلمانيين حرية رأي، والأكثرية رأت فيها تجنيا واضحا على الكنيسة.

ومع تناول الجزيرة الفضائية موضوع هذه الرواية ضمن حلقة من برنامج (خارج النص)، أثارت الرواية مجددا جدلا قد يكون من المبكر إغلاقه.

 

شيفرة دافنشي.. دلالات لوحة العشاء الأخير

أكثر ما أثار الكنيسة في هذه الرواية الكلام عن مريم المجدلية التي تزوج المسيح منها وأنجبت له ولدا، إذ يصف بعض النقاد الرواية بأنها ادعاء صارخ على تصور الكنيسة الأرثوذكسية للمسيح وحياته وموته، وأن الرواية محض خيال، بينما يرى آخرون أنها رواية خلطت بين الخيال والواقع بأسلوب قصصي ممتع، حتى جعلت الناس تموج بين الخيال والواقع، وأنها مجرد قصة مسلية تحاكي أفلام جيمس بوند في التجسس والغموض.

أما مؤلفها “دان براون” فأكد أنها البديل الحق للإنجيل، وأنها قصة واقعية حقيقية، وقد أظهرت ما حاولت الكنيسة أن تُخفيه لقرون، وهي حقيقة أن يسوع تزوج مريم المجدلية، وعهد إليها أن تحرس الكنيسة من بعده، ولكن رجال الدين أزاحوها عن المشهد، وأهدروا دور المرأة الحقيقي في الكنيسة وفي الحياة بعامة، بل وأخفوا سلالة المسيح قسرا حتى لا تُهدم المبادئ التي قامت عليها الكنيسة فيما بعد، ألا وهي ألوهية المسيح وصلبه.

بدوره قال الدكتور ماجد درويش مدير مكتب مفتي طرابلس والشمال، أن الرواية مبنية على أن جماعة سرية -وهي منظمة جبل صهيون- تأسست حتى تحمي الكأس المقدسة وتتوارثها جيلا بعد جيل.

ويزعم “دان براون” أن لوحة “العشاء الأخير” للرسام “دافنشي” قد احتوت على رموز كثيرة، وأن الجالسة على يمين يسوع في اللوحة هي مريم المجدلية، وأن الحرف (V) المتشكل من جسديهما يرمز إلى الكأس المقدسة.

لوحة دافنشي “العشاء الأخير” وفيها يسوع ومريم المجدلية، يصنعان معا الحرف (V) الذي يرمز إلى الكأس المقدسة

 

جريمة التجديف.. حين تغضب الكنيسة

يناقش “ديفيد ناش” من جامعة أكسفورد الرأي التقليدي السائد بأن هنالك بعض الأواني التي بقيت بعد مأدبة العشاء الأخير، وأن الكأس المقدسة قد حوت فيما بعد سر “إِفْخارِسْـتِـيَّا” للعالم المسيحي حتى يتبعها بعد ذلك، بينما يرى “دان براون” أن الكأس ترمز إلى ذرية يسوع التي خلفها من بعده.

يضيف “ناش”: إذا أردت أن تثير بعض وجهات النظر عن ألوهية المسيح فعليك أن تعتبر أن ما ورد في الرواية هو محض تجديف (وهو الإهانة المنطوقة أو المكتوبة ضد اسم الله أو شخصيته أو عمله أو صفاته)، لأن طبيعة الإله تتناقض مع كونه رجلا له رغبات، ويتزوج وله ذرية.

ويقول “ناش” عن التجديف الذي كانت تستخدمه الكنيسة لقمع معارضيها: تجريم التجديف نابع من فرعين:

–       الأول معتقد التراث اليهودي والمسيحي الذي لا يعترف بتعدد الآلهة.

–       الثاني أن التدين الكلاسيكي في ذلك الوقت اقتضى أن يدين الناس بدين الدولة الرومانية حفاظا على السلم المجتمعي.

ويدحض الكاهن “ستيفن سايزر” مدير جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا فكرة “أخوية صهيون”، ويقول إنها جمعية حديثة تأسست في عام 1957، وليس في القرون الوسطى كما يزعم “براون”، وأن ما أحاط بها من غموض وتحريات قد حولها إلى قصة شعبية مسلية للجميع.

أما بسام شابورة -وهو ناشر النسخة العربية من الرواية- فيقول: صدرت الرواية عام 2003، وكان لها وقع الصاعقة على المجتمع المسيحي، وقد ترجمت إلى 44 لغة، وأصبحت من أكثر الروايات مبيعا في العالم، وأنا اشتريت الرواية حتى أترجمها للعربية، ولم يكن “دان براون” مشهورا آنذاك، ولم أكن أتخيل حجم المبيعات التي وصلت إليها هذه الرواية، ولم يخطر ببالي أن المؤلف سوف يبيع 400 مليون نسخة من هذه الرواية حول العالم.

وقفت الطوائف المسيحية ضد الرواية خصوصا في لبنان، ومُنعت من النشر والبيع في العديد من الدول

 

مصادرة الرواية.. كل ممنوع مرغوب

تقول البروفيسورة “هيلين بوند” أستاذة أصول المسيحية بجامعة إدنبره: أشخاص كثيرون أزعجتهم فكرة أن يكون المسيح متزوجا، وأزعجهم أكثر انشغال الكنيسة بالسلطة والسيطرة على المرأة. ورغم كل ذلك، فهو كتاب صيغ بعناية ورشاقة، تجعلك تستمتع بقراءة فصوله دون ملل، وهو مبني على عقدة المؤامرة التي يعيشها ويفضلها كثير من الناس، وإذا نجح الكتاب في إثارة الفاتيكان بهذه الطريقة، فالأظهر أن عقدة المؤامرة فيه قوية ومشوقة للغاية، أما ما أثارته الرواية عن نظرة الكنيسة إلى المرأة آنذاك، فهذا أيضا مما أعطى الكتاب زخما آخر لقراءته.

ولكن في نفس الوقت فقد أثارت الرواية حفيظة كثير من المؤمنين حول العالم، وسارعت السلطات في لبنان إلى حظر بيع الكتاب، تلبية لدعوات رجال الكنيسة الكاثوليكية هناك، ثم سارعت الكويت وفلسطين ومصر إلى منعه أيضا، ويعلق شابورة على قرار المنع قائلا: رُبَّ ضارة نافعة، فقد بيع من الكتاب أكثر من خمسة أضعاف ما كنا نحلم ببيعه.

وبخصوص قرار المنع، يعلق الكاهن “سايزر”: الدول التي حظرت بيع الكتاب تعاملت مع المسألة بقصور نظر، وكان الأجدر بيان الحقائق الراسخة عن الكنيسة والمسيح للناس، ودحض شبهات الرواية بالعقل والمنطق.

وفيما يتعلق بكون الكتاب مجرد قصة، يقول عبدو أبو كسم رئيس المركز الكاثوليكي في لبنان: حتى وإن كان الكتاب من نسج الخيال فنحن لا نقبل بما جاء فيه، وقد جاءنا دعم من سائر الطوائف في لبنان ومنهم طوائف المسلمين، ونحن أسسنا مع سائر الطوائف في لبنان “جمعية صون القيم” وهي تتداعى إلى الاجتماع وتُدين أي رأي يمس أيا من هذه الطوائف في لبنان، ونحن نعلم أن الكتاب قد يلاقي رواجا أكثر عند منعه، ولكن هذا لا يمنعنا من القول عن الشي الخاطئ إنه خطأ.

كشفت الرواية عن دور المرأة في المسيحية قبل أن تدخل عليها الوثنية الرومانية التي جعلت المرأة سلعة تباع وتشترى

 

مكانة المرأة في الكنيسة.. خلط بين التوحيد والوثنية

تقول “هيلين بوند” عن مريم المجدلية: لا نعلم الكثير عن مريم المجلية، فالعهد الجديد لم يشر لها إلا نادرا، ونجد في “إنجيل لوقا” أنها أصيبت بالمس من قِبل سبعة شياطين، وأن المسيح قد خلصها منهم، وقد كانت ممتنة ليسوع ورافقته في رحلته من الجليل إلى القدس، ووهبت حياتها له.

بينما يرى الكاهن “ستيفن سايزر” أن أطروحات “دان براون” على أن مريم المجدلية كان لها دور كبير في الكنيسة المبكرة قد بُنيت على وثائق متأخرة، وهذا يضعف مصداقيتها.

وعن مكانة المرأة في الكنيسة المبكرة تقول “هيلين بوند”: يخطئ “دان براون” حين يصور للناس أن الأناجيل “الغنوصية” وهي أناجيل متأخرة، قد تكلمت عن تفاصيل يسوع في بداية حياته، والحقيقة أن الأناجيل “الغنوصية” قد تحدثت عن موت المسيح وعودته للحياة. ولكن الروايات سلطت الضوء على شيء مهم يتعلق بمكانة المرأة في المسيحية، فنحن نتفق مع “براون” أن مكانة المرأة أيام يسوع كانت عَليَّة ومساوية للرجل، وهو الأمر الذي لم ترض به الكنيسة المبكرة بعد المسيح، وحاولت طمسه.

ويتفق الباحثون على أن دور المرأة تقلص في المسيحية مع مرور الوقت، ولكن ليس بسبب الكنيسة نفسها، ولكن محاولة منها في البقاء على قيد الحياة في ظل المجتمع الأبوي الروماني.

وعن تأثر الكنيسة الأولى بسيطرة الإمبراطور الروماني يقول الشيخ درويش: جاء الخلط على الكنيسة المسيحية بعد مؤتمر “نيقية”، حيث فرض الملك قسطنطين بعض العادات الوثنية الرومانية في العقيدة المسيحية، ومن ذلك ما يتعلق بالمرأة التي كان ينظر لها على أنها شيطان حسب المعتقدات الرومانية.

الكنيسة تتهم كاتب الرواية بالتجديف، كما فعلت من قبل مع “كوبرنيكوس” الذي قال بدوران الأرض وثبت بعد ذلك صدقه

 

وصايا المسيح.. “ليس الله بحاجة إلى أحد”

أظهرت الرواية مدى القصور المعرفي لدى كثير من المسيحيين عن دينهم، وخصوصا ما ورد منه في العهد الجديد، ومع أن الرواية قد خلقت شبه إجماع على رفضها، فإنها تركت تساؤلات كثيرة في أذهان قارئيها.

وعلى هذا يعلق “ياش” قائلا: كتاب “دان براون” هو في النهاية قصة، والكنيسة قد تبعثرت أوراقها في مواجهة هذه القصة، فكيف لو جاء “براون” بوثائق حقيقية تثبت صحة ما ذهب إليه؟ الفتوى جاهزة، وستصدر الكنيسة بحقه جريمة التجديف، ولكن لتتذكروا معي أن “كوبرنيكوس” عندما قال “إن الأرض ليست مركز الكون” صدرت بحقه جريمة التجديف، ولكن عندما أصبحت نظريته من المسلمات العلمية سقطت الجريمة.

في النهاية، يرى الكاهن “سايزر” أن الله ليس بحاجة لأحد حتى يدافع عنه، وردود الفعل المتشنجة من رجال الدين تجاه الرواية لم تكن في محلها، ولو أنهم بدل ذلك صرفوا جهودهم لتعليم الناس حقيقة المسيح كما وردت، وتجاهلوا الرواية، بل وتجاهلوا “دان براون” نفسه، والتفتوا إلى ما طلبه المسيح منهم، فأطعموا الجوعى وداووا المرضى لكان خيرا لهم.

 


إعلان