أوبئة بلاد العرب.. تاريخ أخطر الطواعين منذ عهد عمر بن الخطاب

خاص-الوثائقية
لبلدان المنطقة العربية تاريخ طويل مع الأوبئة الفتاكة، حيث لا تكاد تخلو أي من جهات المنطقة من أوبئة كبرى حصدت آلاف الأرواح وكانت لها مخلفات اقتصادية واجتماعية وحضارية وخيمة.
على مرّ القرون، ومنذ ما قبل الميلاد، تكشف الدراسات التاريخية والآثار التي توثقها بعض الحفريات، وجود أوبئة كبرى ضربت المنطقة العربية من أقصى الشرق إلى أدنى الغرب، وهو ما احتفظت به الذاكرة التاريخية تحت مسميات ونعوت خاصة، تحيل على الخصوصيات الثقافية لكل منطقة، والآثار الخاصة التي خلفها الوباء في كل منطقة.
“طاعون عمواس”.. تاريخ السفاح الذي قتل الصحابة
يعتبر أشهر وباء مر على هذه المنطقة، هو الذي شهده عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ويحمل اسم طاعون عمواس، وقد ظهر هذا الوباء في العام 18 للهجرة، الموافق للعام الميلادي 640، وحمل اسم بلدة تقع بالقرب من مدينة القدس اسمها عمواس، باعتبارها كانت أول مكان ظهر فيه الوباء، ومن هناك انتشر المرض تدريجيا ليشمل منطقة الشام بكاملها. ورغم أن هذا الوباء لم تعرف بشكل دقيق طبيعته أو المرض الذي سبّبه، فإنه قد اشتهر تاريخيا باسم الطاعون، لكون هذا الوصف كان يطلق على جميع الأوبئة التي تنتقل عبر الهواء أو كثيرة العدوى أو التي تخلف وفيات كثيرة[1].
ففي تلك المرحلة كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد عزم على القيام بثاني زيارة له إلى الشام، وذلك بعد سنتين فقط من فتح القدس، فشدّ الرحال إليها، ليتوقّف في منطقة “حدودية” بين الحجاز والشام تسمى “سرغ”، وهناك تلقى أخبارا محذرة تقول بوجود وباء فتاك في الشام، وبعد تشاور واسع تناقضت فيه الآراء قرر العودة إلى المدينة المنورة، امتثالا لحديث نبوي يقول بعدم دخول البلاد التي يظهر بها طاعون[2].
في المقابل من ذلك رفض الصحابي أبو عبيدة بن الجراح الخروج من الشام، وقد كان واليا عليها، رغم أن عمر بن الخطاب بعث إليه يدعوه للالتحاق به في المدينة، وهو ما رفضه بشدة حيث تنسب إليه بعض المصادر تعليقه على الدعوة قائلا: غفر الله لأمير المؤمنين[3].
فقد تمسك أبو عبيدة بموقفه عملا بما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج من أرض الطاعون، واعتقادا منه أن في ذلك فرارا من قدر الله، وقال حينها مقولته الشهيرة: إني في جند المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم[4].
“عام الرمادة”.. أكثر من 20 ألف شهيد على الثغور
تتحدث بعض المصادر عن وفاة ما يفوق عشرين ألفا من المسلمين في الشام بسبب هذا الوباء وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجراح، وكان ممن قضوا جراء هذا الوباء إلى جانب أبي عبيدة معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان، حتى سمّي هذا العام في بعض المصادر بعام “الرمادة” نظرا إلى فداحة الخسائر البشرية التي حدثت.
وتقول بعض الروايات التاريخية إن حدة الوباء لم تنخفض إلا حين تولى عمرو بن العاص أمر المنطقة، ودعا الناس -بتوجيه من عمر بن الخطاب في بعض المصادر- إلى اللجوء إلى الجبال باعتبارها أقل عرضة للوباء[5].
ويروي ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” قصة تعامل الصحابي معاذ بن جبل مع هذا الوباء، وذلك فور توليه ولاية الشام بعد أبي عبيدة. ويروي ابن كثير كيف توجه معاذ بن جبل إلى أهل الشام قائلا: إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم[6].
وبالفعل لقي معاذ بن جبل ربه بعد إصابته بالوباء، حيث احتفظت كتب التاريخ بقول منسوب إليه قبيل وفاته، حين أحس باقتراب أجله، حيث خاطب أصحابه قائلا: روحوني ألقى الله مثل سن عيسى ابن مريم ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة.
لم يكن خروج الخليفة عمر بن الخطاب إلى الشام مجرّد زيارة للنزهة، بل كانت زيارة دعم ومساندة للجيوش الإسلامية المحاربة لجيش الروم، وبينما تعتبر عودة عمر بن الخطاب إلى المدينة بمثابة نجاة للروم من شحنة الدعم المعنوي والعسكري التي كان وجود عمر بن الخطاب سيشكلها لجيوش المسلمين، فإن بعض المصادر تربط بين ظهور الوباء أصلا وبين هذه الحرب، حيث كانت جثث مقاتلي الروم قد تراكمت بأعداد كبيرة دون أن تدفن، ما يحتمل أن يكون وراء ظهور الوباء[7].
تسبّب هذا الوباء في استنزاف كبير لقدرات المسلمين العسكرية والبشرية في الشام، وهو ما دفع عمر بن الخطاب للخروج نحوه من جديد، حيث قام بسد الثغرات العسكرية في الجبهات المقابلة للروم وعيّن الولاة وحلّ المشكلات الاجتماعية التي ترتبت عن الوباء[8].
“الموت الأسود”.. طوفان قاتل يجرف ضفاف النيل
تحتفظ مصر بتاريخ طويل من الأوبئة والأمراض الفتاكة، وأكبر ذكرى لها في هدا المجال هي التي ترتبط بالطاعون الذي ضرب العالم منتصف القرن الـ14، ويعرف بلقب “الموت الأسود”، فرغم أن جل الكتابات التاريخية تتحدث عن مخلفات هذا الوباء في أوروبا، فإن المسلمين أيضا لم يسلموا من تبعاته.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى وصول “الموت الأسود” إلى البلاد الإسلامية، انطلاقا من منطقتي القسطنطينية شمالا ودلتا النيل جنوبا إلى جانب سواحل الشام، باعتبارها أقرب النقاط التجارية إلى الطرق النشيطة وقتها بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي. وترجح تلك المصادر وصول الوباء إلى ميناء الإسكندرية عام 1347، ثم انتقاله انطلاقا من الدلتا وعلى طول نهر النيل ليصل إلى القاهرة، وهي من كبريات المدن العالمية وقتها، حيث كان الوباء يحصد ما يصل إلى 300 وفاة في اليوم الواحد خلال فترة ذروته، وكان مجموع من ماتوا بسببه يفوق مئتي ألف.
وانطلاقا من القاهرة انتشر الوباء -الذي تحمّله المصادر التاريخية مسؤولية قتل قرابة ثلث البشرية- في باقي أنحاء منطقة الشرق الأوسط، ليصل إلى مكة المكرمة، وبعد انتشاره على نطاق واسع راح الوباء يتمدد غربا نحو الشمال الأفريقي عبر طرق الحج والتجارة، كما أن تونس وليبيا إضافة إلى ذلك كانتا على اتصال وثيق بسفن التجارة الإيطالية.
لكن القاهرة دخلت سجلات التاريخ وقتها كأكبر بؤرة عربية للموت الأسود، حيث شهدت في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين أول 1347م ويناير/كانون ثاني 1349م وفاة حوالي مائتي ألف نسمة، وذلك على طريق القوافل بين القاهرة وبلبيس شرق مصر فقط، وقد كان تعداد سكان بلبيس يقدّر بحوالي 8 ملايين نسمة قبل الطاعون الأسود، لكنها دخلت في مرحلة تناقص ديموغرافي على مدى القرون الموالية، ليصبح مجموع سكانها يقدّر بنحو ثلاثة ملايين في بداية القرن الـ19. وعلى غرار مخلفات الطاعون في باقي المناطق، فإن هذا الوباء سبّب انحدارا حضاريا لمصر مقارنة بماضيها المجيد[9].
وفي الوقت الذي واجهت فيه بعض الأمم -خاصة منها الأوروبية- الطاعون بوسائل لا بديل عنها للحدّ من مخلفاته كالحجر الصحي، فإن مصر ومعها بقية المنطقة العربية لم تستطع تطوير أساليب للوقاية والحد من تفشي الوباء، مما جعل الخسائر وخيمة في المناطق التي وصل إليها، وهو ما يفسّر استمرار مخلفات الأوبئة على مدى عقود وقرون طويلة في جل المناطق العربية.

أعوام القحط.. عقبات تكسر قبضة السلطان الحديدية
تُعتبر المجاعات والأوبئة من عناصر تفسير التخلّف الذي سقطت فيه بلاد المغرب خلال القرنين الـ18 والـ19 مقارنة بأوروبا، حيث انقلبت موازين القوى ولم تعد المغرب تلك الإمبراطورية مهابة الجانب، بل باتت على العكس من ذلك فريسة للأطماع الاستعمارية.
يقول المؤرخون إن من أسباب هذا الاختلال في ميزان القوى أن أوروبا استراحت خلال تلك الفترة من ويلات الكوارث والأوبئة، وعرفت بالتالي تزايدا ديمغرافيا كبيرا ساعدها في إنجاز ثوراتها الصناعية والفلاحية، وعلى مد نفوذها نحو المناطق المجاورة لها، بينما ظل المغرب خاضعا لكوابح استهلكت رأسماله البشري وساهمت في تأخره[10].
إحدى أكبر فترات القحط والمجاعات هذه هي تلك التي عاشها المغرب في السنوات الخمس الأولى من العقد الثالث في القرن الـ18، فما بين 1720 و1724، توالت على المغرب سنوات من انحباس المطر، وهو ما سبّب انكسارا في مسار النهوض الذي كان السلطان المغربي مولاي إسماعيل يحاول إطلاقه بعدما تمكن من إخماد الحروب الأهلية واستعادة الاستقرار السياسي بقضبته الحديدية المشهورة تاريخيا.
بل إن هذه المجاعات والأوبئة التي أعقبتها استنزفت النظام السياسي بالنظر إلى مخلفاتها الاقتصادية والاجتماعية، وأدت إلى إطلاق سلسلة جديدة من الحروب الأهلية والصراعات حول السلطة، خاصة بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل وانقسام المغرب بين مناطق نفوذ موزعة بين أبنائه، إضافة إلى أن مجاعة شاملة أخرى ضربت المغرب في سنة 1737 والتي تليها[11].

طوفان المغرب.. ميلاد سلالات من الطواعين
كان عهد السلطان المغربي القوي مولاي إسماعيل قد شهد في بداياته ظهور طاعون فتاك بين سنتي 1678 و1680 استنزف نسبة كبيرة يقدرها البعض بالنصف من سكان المغرب، وبالتالي فقد استنزف مقدراته الاقتصادية ومناعته السياسية، لكن هذا الوباء أصبح منذ ذلك الحين جزءا من الماضي، وخطرا خارجيا يتطلب اليقظة والحذر من تسلله عبر المنافذ التجارية، خصوصا بالنسبة للجار الأوروبي.
لكن الوباء سوف يعود ليضرب بقوة أكبر منتصف القرن الـ18، وتحديدا عام 1742، حيث يقول المؤرخون إن كارثة طبيعية كبيرة ضربت المغرب وقتها، ممثلة في أمطار طوفانية استمرت أكثر من شهر متواصل، مما أدى إلى فيضان الأودية واجتياح السيول للمدن الكبرى، لينتهي الأمر بظهور الطاعون فوق أنقاض هذه الكارثة الطبيعية، حيث عمّ الحواضر الكبرى للمغرب وقتها، تتقدمها مدينة فاس[12].
شمل هذا الطاعون بلاد المغرب الكبير كلها، إذ تتحدث كثير من المصادر التاريخية عن آثاره المدمرة في الجزائر، حيث كان المصابون يعانون في البداية من قشعريرة ودوار ثم يأخذون في التقيؤ ليفارقوا الحياة بعد وقت قصير، أما المتمتعون بمناعة قوية منهم فكانوا يعانون من حمى شديدة وعطش دائم لا ينطفئ مهما شربوا، كما كانت سيقانهم تتصلب وتظهر بعض التورمات والدماميل في أنحاء من أجسامهم، وغالبا ما ينتهي الأمر بالمصاب إلى الوفاة وإن طالت مقاومته[13].

جيوش لنقل الطاعون.. قد يقتل الجندي بغير سلاح
بعد انتقال الطاعون إلى بلاد المغرب الأقصى، وجدها منشغلة في حروب أهلية حول السلطة، خاصة بين المولى عبد الله والمولى المستضيء اللذين كانا يتنافسان حول العرش، وكانت حركة الجيوش هذه وسيلة فعالة لنقل الوباء، إذ كان الجنود ينقلون الطاعون خلال تحركاتهم العسكرية بين المناطق، وتتحدث بعض المصادر التاريخية عن تسجيل الجيوش المتقاتلة خسائر في الأرواح بسبب الوباء، بأعداد تفوق ما تخلفه المعارك[14].
بدأ هذا الطاعون انتشاره في المغرب الأقصى من الشمال، ليمتد بسرعة نحو بقية المناطق، وتميّز بقوة تدميرية لا مثيل لها لدرجة تتحدث معها بعض المصادر عن إبادة بعض المدن بالكامل، مثل مدينتي “وزان” و”القصر الكبير”. وعلى غرار بعض الأوبئة الكبرى التي عرفها التاريخ، انحسر هذا الطاعون في صيف العام 1742 بعدما كان قد ظهر في شتائه، لكنه عاد بقوة أكبر في الخريف، حيث كانت بعض المدن تحصي وفياتها بالعشرات يوميا، وبعد اختفائه في العام 1744، عاد هذا الطاعون ليظهر من جديد في بلاد المغرب سنة 1747، وكانت نقطة انطلاقه هذه المرة من الجنوب، لكنه كان هذه المرة أخف وطأة من سابقه[15].
بعد نصف قرن آخر من الهدنة عاد الطاعون ليضرب بقوة وعنف غير مسبوقين في تاريخ المغرب، وذلك في نهاية القرن الـ18 وبداية القرن الـ19، إذ أن “الطاعون الكبير” -كما تنعته بعض المصادر التاريخية- كان يخلّف آلاف القتلى في اليوم الواحد، وقد لعبت جيوش السلطان مولاي سليمان مرة أخرى دور ناقل الوباء من خلال تحركاتها الرامية إلى إخضاع المناطق المتمردة شمال البلاد وجنوبها، كما كانت هذه التحركات العسكرية سببا في نقل الوباء من مدينة فاس مثلا إلى مدينة الرباط، كما ورد في كتاب “تاريخ الدولة السعيدة” لصاحبه محمد الضعيف الرباطي[16].
وما إن مرّ أقل من ثلث القرن الـ19 حتى ظهر في المغرب وباء لا يقل فتكا، وهو وباء “الكوليرا” الذي اجتاح العالم في تلك الفترة، وأطلق عليه المغاربة لقب “بو كليب”، وقد ظهر هذا الوباء أول مرة في عاصمة المغرب وقتها مدينة فاس عام 1834، لينطلق في رحلة قاتلة لم تتوقف إلا مع نهاية العام 1836[17].

“عام الرحمة”.. وباء الأنفلونزا الإسبانية في جزيرة العرب
بينما يعرف الوباء الذي ضرب العالم في نهاية الحرب العالمية الأولى باسم “الأنفلونزا الإسبانية”، فإنه قد اشتهر بأسماء مختلفة في البلاد العربية، أبزرها اسم “الصخونة” (السخونة) الذي أطلق عليه في الجزيرة العربية، وذلك إشارة إلى الارتفاع الكبير في سخونة الجسم التي كان يسبّبها للمرضى، بينما يفضّل آخرون استعمال اسم “عام الرحمة” للإشارة إلى هذا الوباء، بالنظر إلى شدة ترديد عبارة “رحمه الله” في تلك الفترة تأبينا لضحايا الوباء.
تتحدث الروايات -التي جرى نقلها شفهيا قبل أن تدوّن في كتابات بعض المؤرخين- عن مئات الوفيات التي كانت تسجل بشكل يومي في كثير من المدن والقرى الخليجية، لدرجة أن النعوش التي كانت توفرها المساجد للاستخدام في الجنازات، تكسّرت وعجزت عن نقل جميع الجثامين، ليلجأ سكان الكثير من البلدات إلى نزع الأبواب الخشبية لبعض البيوت، واستعمالها كحمالات لنقل الجثامين، بينما تورد الكثير من المصادر أن بعض المشتغلين بحفر القبور كانوا يقضون يومهم كاملا في الحفر، لا يكفون عن ذلك إلا للصلاة وتناول الطعام، من أجل توفير ما يكفي من القبور لإيواء جميع الجثامين، حتى أن عدد الجنازات التي كانت تشيع في الفرض الواحد من الصلاة فاقت السبع في بعض الأحيان[18].
وتكشف الآثار الشفهية والمكتوبة التي خلفها عرب تلك الفترة مستوى الخراب الذي سبّبه هذا الوباء المتمثل في الأنفلونزا التي ظهرت أول الأمر في الصين ثم انتقلت إلى أمريكا قبل أن تنتشر في جميع أنحاء العالم، ويوصف هذا الخراب بكونه أدى إلى فناء بعض البلدات بشكل كامل وإخلاء بيوت بعض العائلات، وهو ما أسفر عن تحوّل بعض المساجد إلى بنايات مهجورة، وهملت بعض القطعان من المواشي في الخلاء بعدما لقي رعاتها حتفهم بسبب وباء “الصخونة”.
ورغم أن الأنفلونزا الإسبانية استمرت لفترة طويلة تمتد على ثلاث سنوات، فإن المعطيات الخاصة بمنطقة الجزيرة العربية تفيد أن الوباء انتشر لثلاثة أشهر فقط، وقد وثّق ذلك المؤرخ إبراهيم بن عبيد في بداية العام 1337 للهجرة، الموافق للعام الميلادي 1918، وهو العام الذي شهد تفشي وباء الأنفلونزا الإسبانية في العالم، وكان انتشار هذا الوباء في الجزيرة العربية عامّا في نجد والأحساء والخليج والعراق، حسب المؤرخ بن عبيد “واستمر ثلاثة أشهر والعياذ بالله، وبسببه هُجرت مساجد وخلت بيوت من السكان وأهملت المواشي في البراري، فلا تجد لها راعيا وساقيا، فكان يصلى في اليوم على 100 جنازة بسبب هذا المرض، ولقد تكسَّرت النعوش، وجعلوا عنها عوضًا الأبواب لحمل الموتى”[19].

“أطباء من أجل المملكة”.. علاج بالصديد
لمواجهة هذا الوباء الفتاك لجأ عرب الجزيرة العربية إلى بعض الأساليب الخاصة بالوقاية والعلاج، ومن بينها عزل المرضى في بيوتهم ومنع مخالطتهم، وكانوا أحيانا ينقلون إلى مناطق في أطراف البلدات أو خارجها منعا لانتشار المرض بين السكان، كما كان البعض يقومون بأخذ عينات من صديد المرضى، ويقدمون على تلقيح الأصحاء به في محاولة لتمنيعهم ضد المرض والرفع من مناعتهم. أما العلاج فكان يقوم على استخدام بعض الأعشاب والمواد الطبيعية مما تناقلته الأجيال عبر التاريخ.
ومما عرفت به منطقة الخليج وقتها جمع عينات من جميع الأطعمة المتوفرة في البلدة وطبخها في إناء واحد، وتسمى “القِرُو”، يأكلها المريض أو يشرب ماءها المطبوخ، اعتقادا منهم بأنه في حال تناول أصناف أخرى من الأطعمة التي لم تطبخ في القرو فإن المريض ينتكس[20].
وقد سجّل الرحالة الأوروبي “جون لويس بوكهارت” بعض تفاصيل “عام الرحمة” في الجزيرة العربية، حيث أصيب بالحمى الفتاكة خلال تنقله بين القاهرة وجدّة مسجلا ملاحظاته. وتوقف “بوكهارت” عند رفض سكان الجزيرة العربية اعتبار الوباء بمثابة طاعون بالنظر إلى الإرث الديني الذي يعتبر بعض البقاع المقدسة محصنة ضد هذا الوباء، في الوقت الذي كان فيه الفيروس قد تفشى على نطاق واسع في مصر[21].
وفي الوقت الذي صادف هذا الوباء المرحلة التأسيسية في مملكة آل سعود، نقل طبيب أمريكي يدعى “بول أُرميردينغ” في كتابه بعنوان “أطباء من أجل المملكة” كيف كان مؤسس المملكة العربية السعودية عبد العزيز آل سعود يستدعي الأطباء الأجانب بهدف علاج المرضى، لكنه فقد ابنه تركي الذي توفي بسبب الحمى الفتاكة هو وزوجته جوهرة بنت مساعد[22].
المراجع
[1] https://blogs.aljazeera.net/blogs/2019/12/31/إدارة-الأزمات-في-عهد-سيدنا-عمر-بن-الخطاب-طاعون-عمواس
[2] https://www.youtube.com/watch?time_continue=127&v=vFDPNqBtR-0&feature=emb_logo
[3] https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2020/03/22/516734.html
[4] https://www.elbalad.news/4223383
[5] https://blogs.aljazeera.net/blogs/2019/12/31/إدارة-الأزمات-في-عهد-سيدنا-عمر-بن-الخطاب-طاعون-عمواس
[6] “البداية والنهاية”، إسماعيل بن عمر بن كثير، مكتبة المعارف ببيروت، نشر عام 1990
[7] “طاعون عمواس”، مجلة جامعة تكريت للعلوم، العدد 1، المجلس 20، يناير-كانون الثاني 2012
[8] “طاعون عمواس”، مجلة جامعة تكريت للعلوم، العدد 1، المجلس 20، يناير-كانون الثاني 2012
[9] https://www.almasryalyoum.com/news/details/1225286
[10] “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19″، محمد الأمين البزاز، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 18، صدرت عام 1992
[11] “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19″، محمد الأمين البزاز، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 18، صدرت عام 1992
[12] “الدر المنتخب المستحسن، في بعض مآثر أمير المومنين مولانا الحسن”، تأليف احمد بن محمد بن حمدون السلمي الفاسي (ابن الحاج )، صدر سنة 1899
[13] « la peste en Afrique septentrionale ; histoire de la peste en algerie de 1363 à 1830 » ; Jean Marchika ; alger 1927
[14] “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19″، محمد الأمين البزاز، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 18، صدرت عام 1992
[15] “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19″، محمد الأمين البزاز، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 18، صدرت عام 1992
[16] https://archive.org/details/tarikh-adda3if/page/n1/mode/2up
[17] “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19″، محمد الأمين البزاز، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم 18، صدرت عام 1992
[18] https://www.al-jazirah.com/2015/20151122/wo1.htm
[19] “تذكرة أولي النهى والعرفان”، إبراهيم بن عبيد، الطبعة الأولى، سنة 2007، الرياض، مكتبة الرشد.
[20] https://www.al-jazirah.com/2015/20151122/wo1.htm
[21] “ترحال في الجزيرة العربية”، جون لويس بوكهارت، ترجمة صبري محمد حسن، الطبعة الأولى سنة 2007، القاهرة، المركز القومي للترجمة
[22] “أطباء من أجل المملكة”، بول أرميردينغ، ترجمة عبد الله السبيعي، الطبعة الأولى 2004، دار الملك عبد العزيز