نادي الخمسة الكبار.. هل تُفسد “كورونا” ثورة الفيل الهندي؟

مراد بابعا

قبل أن يدخل العالم في أزمة اقتصادية قد تكون الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، تمكنت الهند من إنهاء سنة 2019 على وقع إنجاز غير مسبوق، بدخولها لأول مرة في التاريخ نادي أقوى خمسة اقتصادات في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزة بريطانيا وفرنسا بحسب صندوق النقد الدولي.

وأكدت آخر أرقام المؤسسة المالية الدولية أن الناتج الداخلي الخام للهند وصل في 2019 إلى 2.97 تريليون دولار، مما يضعها في المركز الخامس عالميا، خلف الولايات المتحدة التي تتصدر التصنيف بناتج خام وصل إلى 21.34 تريليون دولار، متبوعة بالصين بـ14.21 تريليون دولار، تليها اليابان ثم ألمانيا.

وقد شهد الاقتصاد الهندي نموا متسارعا منذ الإصلاحات الكبرى التي شهدتها البلاد في 1992، ونهج سياسة التحرير التجاري التي تميزت بخفض الرسوم الجمركية والانفتاح التدريجي على الاستثمارات الأجنبية، مستفيدة من القوة الديموغرافية الهائلة التي وصلت حاليا إلى 1.3 مليار نسمة، لكن البلاد ستواجه تحديات كباقي الدول بسبب تداعيات أزمة “كوفيد 19” التي تسببت في صدمة اقتصادية غير مسبوقة بسبب توقف عدة قطاعات عن العمل، نتيجة الحجر المنزلي الذي فرضته السلطات سعيا لاحتواء تفشي الوباء.

فهل تستطيع الهند الاستمرار في مركزها الذي دخلته لأول مرة في تاريخها في ظل هذه الظروف التي يشهدها العالم؟ وما هو سر هذا النمو الاقتصادي السريع الذي تحقق في السنوات الأخيرة؟ وكيف يفسر هذا التحول الكبير رغم أن الهند ما زالت تصنف ضمن الدول الناشئة وتسجل مستويات فقر مرتفعة؟

 

خامس أكبر اقتصاد في العالم.. عقبات على الطريق

أشارت عدة تنبؤات منذ أشهر إلى أن العالم مقبل على أزمة اقتصادية غير مسبوقة، لكن لم يتوقع أحد أن تكون بسبب انتشار فيروس قاتل سيدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات حجر وإغلاق غير مسبوقة، وهذه الأزمة التي سببها فيروس كورونا المستجد والتي لا يُعرف كيف ومتى ستنتهي، زعزعت أقوى الاقتصادات في العالم، متسببة في انكماش لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.

وقد اتسم الاقتصاد الهندي بتسجيل معدلات نمو متسارعة تتجاوز 7% في السنوات الأخيرة، وتعد الأعلى بين الاقتصادات الصاعدة، وهو ما مكنه من أن يصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم بحلول العام 2020، لكن الهند لم تتمكن من الاحتفال بهذا الإنجاز غير المسبوق، حتى باغتتها الأزمة الحالية مع دخول العام الجديد، لتخلط جميع الأوراق داخليا وخارجيا، خصوصا بعد إعلان البلاد منذ 25 مارس عن “أكبر عملية حجر صحي” في الأرض تشمل أكثر من مليار شخص، وسط تخوفات من انتشار الوباء بشكل كبير بسبب الكثافة السكانية العالية، مما قد يؤدي إلى انهيار النظام الصحي.

وتسبب هذا الحجر الصحي -الذي اتخذ قرار فرضه بشكل مفاجئ- في توقف العديد من الأنشطة وخنق مصادر عيش الملايين من السكان خصوصا العاملين في الأعمال الصغيرة الذين اضطروا لترك المدن نحو القرى والمناطق الريفية. وحذر مراقبون من التبعات الاجتماعية لهذه الأزمة التي أصبحت أكبر تحد أمام حكومة “ناريندار مودي” الحالية، وقد تصبح أسوأ أزمة إنسانية منذ حل الإمبراطورية الهندية سنة 1947.

 

قطاع السيارات والنسيج.. كسر في العمود الفقري

واجه اقتصاد الهند في الفترة الأخيرة تحديات كبيرة حتى قبل تفشي فيروس “كورونا المستجد”، ليتراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 5%، ويخشى محللون أن يشهد النمو مزيدا من التراجع وصولا إلى ما بين 1.5 و2% هذا العام، وهي نسبة لن يستطيع معها سوق الشغل استيعاب ملايين الطلبات المتزايدة للهنود الذين يطرقون أبواب سوق العمل كل شهر.

وظهرت أولى بوادر الانكماش في الربع الأخير من السنة الماضية، فبعدما كانت معدلات النمو تفوق 7%، أو حتى 8%، جاءت توقعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في نوفمبر 2019 لتخفض من توقعات النمو للعام 2019 إلى 6%.

وخلال شهر أغسطس/آب 2019 لوحده سجل النشاط الاقتصادي الهندي أضعف مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية في أواخر عام 2008 بحسب شركة الخدمات المالية “نومورا”، كما انخفض الإنتاج الصناعي في البلاد إلى أدنى مستوى له في نحو سبع سنوات، وتأثرت بشدة قطاعات بعينها على رأسها قطاع صناعة السيارات الذي فقد حوالي مليون وظيفة، وتضرر أيضا قطاع النسيج الذي هو ثاني أكبر قطاع في الهند، إذ يوظف ما يقرب من مئة مليون شخص، فلم يعد يستوعب إنتاج مزارع القطن.

وقد وضعت هذه التحديات حكومة “ناريندرا مودي” أمام تحديات كبيرة، خصوصا حول مدى نجاعة بعض القرارات التي اتخذتها، إذ يرى محللون اقتصاديون أنها ساهمت في تدهور الوضع الاقتصادي، وعلى رأس تلك القرارات سحب فئات من عملة البلاد “الروبية” (500 و1000 روبية) من التداول بشكل مفاجئ عام 2016، مما تسبب في تراجع السيولة بحوالي 85%، بالإضافة إلى سن نظام جديد للضرائب في 2017، وهو ما أثر سلبيا على سوق التجارة الصغيرة والمتوسطة التي تستوعب 45% من التصنيع المحلي.

المخاوف من كارثة إنسانية وشيكة تتعاظم لفقدان الغطاء الصحي الذي يكفل الجميع

 

هشاشة النظام الصحي والغذائي.. تهديدات تسبق الفيروس

أجمعت جل التقارير على أن إجراءات العزل المنزلي المفروضة على كامل التراب الهندي ستطلق العنان لأزمة غذاء غير مسبوقة بين العمال ذوي الدخل اليومي في دلهي ومومباي والمدن الكبرى، إذ وجدوا أنفسهم عاطلين وبدون أي إمكانيات لشراء الطعام، خصوصا أن 90% من الهنود يعملون في القطاعات غير المهيكلة، أي ما يعادل نصف مليار عامل حسب منظمة العمل الدولية.

وتتعاظم المخاوف من كارثة إنسانية وشيكة حذرت منها جل المنظمات غير الحكومية، رغم الإعلان منذ بداية الأزمة عن خطة اقتصادية تحفيزية بقيمة 22.6 مليار دولار، لتوفير التحويلات النقدية المباشرة، ودعم ومساعدة الأسر الفقيرة غذائيا.

وحذرت تقارير إعلامية من أن “فيروس كرورنا” في الهند قد يقتل دون أن ينتشر، بسبب توجيه جل الطاقة الاستيعابية للمستشفيات لعلاج مرض “كوفيد 19″، وإهمال باقي الأمراض المزمنة كالسرطان أو الأمراض المعدية كالسل، ليتحول أصحابها إلى ضحايا غير مباشرين للفيروس المستجد بسبب هشاشة الأنظمة الصحية.

وفي إجراء لاحتواء الوضع ما أمكن قررت سلطات السكك الحديدية في البلاد تحويل 20 ألف عربة قطار إلى أجنحة صحية لعزل مرضى “كورونا”، وحولت القطارات إلى مستشفيات متنقلة قادرة على الوصول إلى المناطق الريفية الفقيرة.

ودق البنك الدولي أيضا ناقوس الخطر مرجحا أن تشهد هذا العام منطقة جنوب آسيا -التي تضم الهند وباكستان وبنغلاديش والنيبال وسريلانكا ودولا أخرى- أسوأ أداء اقتصادي لها منذ 40 عاما، مما سيؤثر على جهود الحد من الفقر في المنطقة، وقلل البنك من انعكاس الإجراءات المتخذة من طرف حكومات هذه الدول على السكان الأشد فقرا بسبب عدم المساواة في المنطقة، سواء تعلق الأمر بالنظام الصحي أو بالمساعدات الاجتماعية.

ثلث السكان الهند يعانون من الفقر بجميع أبعاده مما يضطرهم للسفر للمدن البعيدة للعمل

 

400 مليون فقير.. تحدي الهند في الماضي والحاضر

استطاعت الهند إبهار الجميع في السنوات الأخيرة، بمعدلات نمو اقتصادها العالية والسياسات الناجحة التي نقلت البلاد إلى مصاف الاقتصادات الكبرى، لكن الجانب الاجتماعي في البلاد يعتبر من بين الأسوأ في العالم، وتصنف الهند ضمن البلدان الخمسة التي لديها أكبر عدد من الفقراء إلى جانب نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وبنغلاديش، إذ يعيش في هذه الدول الخمس نصف عدد فقراء العالم، ويقدرون بحوالي 736 مليون نسمة حسب آخر أرقام البنك الدولي.

وقدرت الحكومة الهندية في 2014 عدد الأشخاص الذي غادروا وضعية الفقر بحوالي 137 مليون شخص من أصل 400 مليون جرى إحصاؤهم في 2004، بينما أثنى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي السنة الماضية على جهود الهند في الحد من “الفقر متعدد الأبعاد” الذي يأخذ بعين الاعتبار مؤشرات تتعلق بالصحة والتعليم ومستويات المعيشة، وهو ما انعكس إيجابا على حياة 271 مليون شخص بين عامي 2005-2006 و2015-2016، وهذا ما يعني أن الهند خفضت بشكل كبير نسبة فقرها من 55 إلى 28% خلال عقد من الزمن.

ورغم أن البلاد قللت من أعداد الفقراء بشكل كبير، فما زال انتشار الفقر أكبر تحد يواجه الحكومات المتعاقبة، على اعتبار أن حوالي ثلث السكان ما زالوا يعانون من الفقر بجميع أبعاده، وتسجل الهند أحد أضعف مستويات الدخل السنوي الفردي المقدر بحوالي 4077 دولار حسب أرقام الأمم المتحدة، مما يضعها في المرتبة الـ133 عالميا.

 

تكنولوجيا المعلومات.. واجهة الاقتصاد المهددة

بعيدا عن الصورة القاتمة المرتبطة بمعضلة الفقر، فإن للهند وجها مشرقا في تاريخها الحديث، ويرتبط بقطاع تكنولوجيا المعلومات الذي أصبح يوصف بواجهة الاقتصاد الهندي الحديث، ويعد أسرع القطاعات نموا في البلاد، ويدر على البلاد حوالي 13 مليار دولار سنويا.

وقد بزغت الهند كمورد عالمي للبرمجيات مع نمو شركاتها في قطاع تكنولوجيا المعلومات، خصوصا بعد بداية الألفية الجديدة، بفضل زيادة الطلب من الولايات المتحدة وأوروبا، فارتفعت إلى 150 مليار دولار قيمة الخدمات التكنولوجية التي أنجزتها الشركات الهندية في العام 2019 نيابة عن شركات أجنبية، انطلاقا من مدن مثل دلهي وبنغالور وحيدر آباد.

واستطاعت الهند أيضا أن تصبح ثالث دولة على الصعيد العالمي من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية في هذا المجال، مستفيدة بالأساس من مواهبها التكنولوجية المميزة التي أثارت اهتمام الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، رغم المنافسة القوية من دول أخرى كالصين وتايلاند وبنغلاديش، كما نجحت الهند في تحقيق نقلة نوعية في مؤشر الابتكار العالمي، إذ انتقلت من المرتبة 81 عام 2015 إلى المرتبة 52 عام 2019.

ويعول على قطاع تكنولوجيا المعلومات في دعم وتيرة نمو الاقتصاد الهندي خلال الأشهر الصعبة المقبلة، خصوصا أنه من أكثر القطاعات اعتمادا على تقنية العمل عن بعد، مما يعني أنه سيستمر في العمل نسبيا في ظل إجراءات العزل المنزلي المتخذة، عكس قطاعات أخرى تعتمد على الحضور الفعلي إلى مقرات العمل والمصانع والحقول وتتأثر مباشرة بانعكاسات الركود الاقتصادي العالمي.

ورغم الآمال المعلقة على قطاع البرمجيات الذي يوظف حوالي 4 ملايين شخص، فإنه لن يستطيع لوحده إنقاذ النمو الاقتصادي للبلاد، أمام الخسائر الفادحة المرتقبة في قطاعات الخدمات والصناعة والفلاحة.

في غضون ثلاثة عقود أصحبت الهند “صيدلية العالم”، فهي تصنع واحدا من أصل أربعة أدوية تباع حول العالم

 

صيدلية العالم.. هل تنقذ صناعة الدواء الاقتصاد الهندي؟

تتجه الأنظار حاليا في الهند إلى قطاع صناعة الأدوية واللقاحات لتعويض بعض الخسائر وتحقيق إقلاع إضافي من خلال الاستفادة من الأزمة الحالية، فالبلاد تحولت في ظرف ثلاثة عقود إلى “صيدلية العالم”، وأصبحت تصنع واحدا من أصل أربعة أدوية تباع حول العالم، لتصبح ثالث أكبر منتج للأدوية خصوصا الأدوية الجنسية رخيصة الثمن، وتصدر المختبرات الهندية لوحدها 40% من الأدوية التي تستهلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد توقعت تقارير اقتصادية أن تصل قيمة المنتجات الدوائية الهندية هذا العام إلى 55 مليار دولار، بعدما كانت في حدود 36 مليار دولار عام 2017، رغم أن شركات صناعة الأدوية الهندية تستعد لاضطرابات محتملة بسبب أزمة كورونا، نتيجة تعطل إمدادات المواد الخام المستوردة من الصين.

لكن رغم ذلك فأزمة “كوفيد 19” العالمية يمكن أن تفتح آفاقا كبرى لهذه الصناعة، على اعتبار أن الهند تستحوذ أيضا على نصف إنتاج العالم من اللقاحات، مما يعني أن اكتشاف لقاح فعال ضد المرض، سيشكل فرصة ذهبية للمختبرات الهندية لإنتاج مليارات الجرعات من اللقاح الذي سيكون مطلبا عالميا وبأي ثمن كان.

وحتى قبل إنتاج اللقاح تستفيد الهند حاليا من الطلب المتزايد على نوعية من الأدوية التي أظهرت فعاليتها نسبيا في محاربة فيروس كورونا المستجد، وعلى رأسها “هيدروكسي كلوروكوين” وهو أحد أقدم العقارات المستخدمة للوقاية من الملاريا وعلاجه.

ورغم أن البلاد حظرت في البداية تصدير الدواء بدون أي استثناء بعد ارتفاع حالات الإصابة بـ”كوفيد 19″، فإنها لم تتأخر في رفع الحظر عن “هيدروكسي كلوروكين” بعد اتصال أجراه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” برئيس الوزراء “ناريندرا مودي” الذي أكد أن القرار اتخذ بعد التأكد من وجود إمدادات كافية لاحتياجات الهند الداخلية.

لا شك إذن أن أيام الأيام المقبلة لن تكون سهلة، وخصوصا على اقتصادات الدول النامية ومن بينها الهند التي وصلت مجددا إلى مفترق طرق جديد، فكما كان “مانموهان سينغ” مهندسا لعملية الإصلاح الاقتصادي التي أيقظت الفيل الهندي من سباته في تسعينيات القرن الماضي، فإن البلاد تبحث الآن عن منقذ لها يساعدها على تجاوز هذه المرحلة الصعبة، ويؤكد فرضية “الفيل الهندي” الذي قد يتباطأ، لكنه لا يسقط.


إعلان