الناجون من إيبولا.. انتصار سيراليون في معركتها الكبرى

خاص-الوثائقية

ضرب فيروس “إيبولا” بعنف الساحل الغربي من أفريقيا، وكانت سيراليون من أكثر الدول تضررا مع جارتيها ليبيريا وغينيا، وظهرت حالات كثيرة في نيجيريا. كان ذلك في 2014 عندما أودى هذا الوباء القاتل بحياة نحو 3500 شخص في سيراليون وحدها، وخلَّف أكثر من 9 آلاف مصاب، مما اضطر حكومات هذه الدول لفرض حالة الطوارئ واتخاذ إجراءات صارمة للحد من انتشار المرض.

“آرثر برات” واعظ مسيحي ومخرج أفلام وثائقية، أراد أن يسجل بالكاميرا حالة التحدي التي عاشتها سيراليون بأسرها من أجل الانتصار على هذا الوباء، وأن يتابع أيضا معاناة عائلات عديدة فقدت أعز أفرادها في مسلسل الصراع مع هذا المرض القاتل، جمع كل هذا في فيلم وثائقي متميز، وعرضته قناة الجزيرة الوثائقية مؤخرا تحت عنوان “الناجون من إيبولا”.

 

إيبولا يضرب بعنف.. غرب أفريقيا يحتضر

كان مشهد إخراج جثة أحد الضحايا مروعا، فالناس في سيراليون لديهم عاطفة من نوع آخر تجاه الموت، لكن الحقيقة المُرَّة هي أن هذا المرض الخطير قد حصد عددا كبيرا من الأرواح في وقت قصير، لقد دخل الموت كل بيت تقريبا، ولم يفرق بين كبير وصغير، تكاد أن تقول إن كل سيراليون بل كل دول أفريقيا الغربية قد عاشت مأتما حقيقيا طويلا وكابوسا ثقيلا أقض مضجعها.

كانت إحداهن تضطر للسير خمسة أيام متواصلة حتى تصل إلى أقرب مستشفى، وهذا آخر قد أودع زوجته الحامل المستشفى وعاد إلى البيت ينتظرها، وهو لا يعلم ما إذا كانت ستعود أم لا، وقلبه المفطور يكاد يتوزع بين زوجته والجنين الذي في بطنها، ففي بلاد فقيرة كهذه تكون الاحتياطات الطبية التي تضمن سلامة المرضى الآخرين من الوباء شحيحة ومحدودة.

قدّم المجتمع الدولي بعض المساعدات العينية إلى سيراليون من أجل السيطرة على الوباء، منها 15 سيارة إسعاف وبعض التجهيزات الطبية ومواد التعقيم والحماية، ولكن العامل الحاسم كان تضحيات المواطنين وتطوُّع العديد منهم للعمل كممرضين أو مسعفين أو سائقي سيارات إسعاف.

ومثل بقية بلدان أفريقيا فإن العاطفة الدينية ملتهبة لدى المواطنين هنا، ويتشارك المسلمون والمسيحيون في أداء الصلوات والدعاء من أجل أن يشفي الله مرضاهم ويبعد عنهم هذا الوباء، ومثل بقية البسطاء في كل مكان في العالم هنالك من يعتقد أن المرض جاء بسبب الأرواح الشريرة أو الشياطين، بينما يحاول الدارسون في المقابل أن يوضحوا للناس أسباب المرض الحقيقية وطرق الوقاية منه.

ممرضون متطوعون يضحون بحياتهم من أجل إنقاذ البلد من الوقاء المتفشي

 

أبطال سيراليون.. جنود عزّل في مواجهة محارب شرس

محمد بابا بنغورا هو واحد من الشباب المتطوعين لسياقة سيارة إسعاف، وهو فخور بخدمة الناس، ويقول إنه لم يركض وراء هذه الوظيفة، وإنما جاءته دونما طلب منه، ولكنه الآن يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على كاهله، يشعر أنه في حرب ضروس ضد هذا المرض، ويسعى بكل قواه لنقل أكبر عدد من المصابين إلى المستشفى.

كما أن محمد يُرشد زملاءه السائقين إلى الاحتياطات الواجب اتخاذها عند نقل المرضى، ويوصيهم بارتداء القفازات والكمامة واللباس الواقي، وأن يتخلصوا منها بعد نقل المصاب، إن الفدائية التي يُظهرها هؤلاء الشباب والفتيات، وهذا التفاني في خدمة المصابين وتقديم العون للمحتاجين يستحق كل الثناء وأن تُرفع لهم القبعات.

كل هذا لا يعني إغفال دور السلطات الحكومية والمنظمات الدولية مثل الجيش والشرطة والصليب الأحمر الدولي، فقد ساهموا أيضا بفاعلية في ضبط الأمور وتسهيل وصول سيارات الإسعاف إلى المصابين وتأمين تدفق المواد الغذائية والصحية إلى الأهالي.

“مارغريت كاباسيسي” هي ممرضة متطوعة تعمل في خدمة المجتمع المحلي، وهي مؤمنة بشدة بقدرة الله على إشفاء المرضى، ولذلك فهي تدعو لهم وتصلي من أجلهم، إلى جانب عملها المهني كممرضة، ولكنها تعترف أن هذا المرض جديد بالنسبة لهم، حتى أن كثيرا من الجهاز الطبي في البلاد ليس لديهم دراية تامة بهذا الوباء ولا بطرق الوقاية منه، ولا حتى كيف تنتقل العدوى على وجه التحديد.

تتقاضى ماغريت ما يعادل 100 دولار أسبوعيا لقاء عملها كممرضة، وهذا مبلغ زهيد جدا في مقابل ما تتعرض له من مخاطر انتقال المرض إليها، فبماذا تنفعها الدولارات إذا أصيبت، بل إنها لم تخبر ابنها ولا عائلتها أنها تعمل كممرضة، حيث أنها تخشى أن تمنعها العائلة من ممارسة هذا العمل الإنساني حرصا عليها وعليهم من أن تصاب أو تنقل لهم المرض.

المناطق الوعرة تحتاج مشيا طويلا على الأقدام لإخراج المرضي

 

نقص الرعاية الطبية.. أين المجتمع الدولي؟

كشف وباء إيبولا هشاشة النظام الصحي في البلدان النامية وخصوصا دول غرب أفريقيا، وإذا علمت أن طبيبين فقط يخدمان 100 ألف إنسان فسوف تتخيل حجم الكارثة، وإذا علمت أن بعض النساء يمشين خمسة كيلومترات على الأقدام من أجل الوصول إلى مستشفى فسوف تعلم مدى بؤس الناس وفقرهم وحاجتهم إلى المرافق الصحية.

يتعرض المتطوعون إلى مواقف إنسانية يتفهمونها، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا حيالها، كم هو صعب أن يأخذوا رضيعا لا يتجاوز السنتين من بين يدي أمه، يريدون أن يذهبوا به إلى مركز العزل الصحي كي يعالجوه، ومن أجل حماية والدته من الإصابة بالعدوى، إنهم يبذلون جهدا كبيرا للتغلب على العواطف من أجل حماية الناس هناك.

يتحدث “آرثر” عن التحديات الاجتماعية التي تواجه الطواقم الصحية في مكافحة المرض، فالروابط الأسرية والاجتماعية تحول بشدة دون التباعد الاجتماعي المطلوب للوقاية من العدوى، والاكتظاظ البشري في المدن والتجمعات الفقيرة من شأنه أن يساعد على تفشي المرض، كما أن المجتمعات الأفريقية المتدينة بالفطرة يصعب إبعادها عن دور العبادة والمناسبات الدينية المتكررة.

“آرثر” متزوج منذ سنتين من الممرضة “فاليري”، وهي الآن حامل على وشك الولادة، والأمور تبدو صعبة في ظل تفشي الوباء، ويبدو أن حمل “فاليري” لا يسير على ما يرام، ترى هل يمرض الأطباء والممرضون؟ هل يموتون من الأمراض مثلنا؟ يسأل “آرثر” نفسه بينما يصلي ويدعو الله أن تضع “فاليري” مولودها معافى وبولادة طبيعية، وأخيرا وضعت “فاليري” مولودها بشكل طبيعي، وهما يتمتعان بصحة جيدة.

الطفل إبراهيم يعود بعد الحجر إلى حضن والده والدته بفضل جهود الأطباء والممرضين

 

المجتمعات الفقيرة.. والحاجة إلى أنسنة النظام العالمي

تعاني “مارغريت” والطاقم المرافق لها كثيرا في إسعاف المصابين القاطنين في المناطق الوعرة، إذ يصعب على سيارات الإسعاف الوصول إليها، ويُضطر الممرضون إلى حمل المريض مسافات طويلة في طرق خطرة من أجل الوصول إلى سيارة الإسعاف، وفي هذه الحالة يضطر السائق محمد إلى حمل المريض على ظهره مسافة حتى يصل إلى سيارة الإسعاف التي يسوقها.

تقول مارغريت: تبا للبيروقراطية المقيتة، في أحلك ظروف الوباء تتنازع وزارة الصحة وبعض المنظمات الدولية الولاية على سيارات الإسعاف والطواقم الطبية المتطوعة، هذا ليس الوقت المناسب لهذا. وتصرخ مارغريت في وجوه بعض الموظفين البيض من منظمة دولية، وهي تخاطبهم: الآن أتيتم؟ تتركوننا في أحلك الظروف، ثم بسبب حادث سيارة بسيط، تقيلون محمد من عمله؟! تستولون على الأموال الكثيرة وتعطوننا الفتات، وترمون بنا في الجبهة الأمامية نواجه الموت وأنتم تستمتعون في مكاتبكم الفارهة؟

أخيراً عاد الطفل الصغير “إبراهيم” إلى حضن أمه، لقد تعافى من المرض، ولكم أن تتصوروا مدى الفرحة التي يعيشها والدا إبراهيم الآن، أبوه لم يتمالك نفسه من البكاء، يقول إنه فقد أحد أطفاله ولا يريد أن يفقد إبراهيم كذلك، يقول: شكرا لكل أبطال سيراليون الذين أنقذوا طفلي الثاني من الموت، إنهم بحق أبطال.

وها هو “ديغو” صديق “مارغريت” قد تعافى أيضا من المرض، وهو فخور بصديقته وبكل الأبطال الذين قهروا المرض بإرادتهم الجبارة وعزيمتهم الصلبة. يقول ديغو: سأعود إلى التمارين وأتدرب وآكل كثيرا، أريد أن أبني عضلاتي من جديد، لا يهمني إن كانت كل الفتيات ينظرن إليّ بإعجاب، المهم أن تراني “مارغريت” رجلها المنتظر.

سيراليون تخرج تكريما للعاملين في القطاع الصحي الذين أخرجوا البلد من هذا الوباء

 

انتصار سيراليون في الحرب.. صلاة جماعية على أرواح الضحايا الجنود

الآن بعد ما يقرب من سنتين من الصراع مع المرض، يعلن رئيس سيراليون -بعد التفاهم مع البرلمان- إنهاء حالة الطوارئ في البلاد، والإعلان رسميا عن انحسار وباء إيبولا عن أراضي سيراليون نهائيا، ويقدم الشكر لشعبه على وقوفهم صفا واحدا والتصدي لهذه المحنة بعزيمة وإصرار قلّ نظيرهما.

أما البطل محمد سائق سيارة الإسعاف المقال، فيستقل دراجته النارية وهو يتمتم بثقة: إذا لم تكافئني الحكومة فسأنال أجري من الله العظيم، أنا فخور بما قدمت ولست نادما على أي لحظة قضيتها في خدمة الناس، فقمة سعادتي أن يشفى الناس من هذا المرض، سأجد عملا آخر، وسأبني بيتي على هذه الأرض، وسأجلب زوجتي وأولادي ووالديّ ليعيشوا جميعهم معي.

خرجت فريتاون عاصمة سيراليون عن بكرة أبيها من أجل إقامة الصلوات والدعاء لأفراد الطواقم الطبية الذين ماتوا بسبب المرض، خرجوا عرفانا بالجميل وشهادة حية لهؤلاء الجنود الأبطال الذي قضوا في أشرس حرب خاضتها سيراليون منذ عشرين عاما، خرجوا ليعلنوا انتصارهم على المرض، وليعلنوا حبهم للحياة وتشبثهم بها رغم كل المنغصات.


إعلان