أسد وفئران.. حين تفترس مدنيّة بيروت حضارتَها

سناء نصر الله

هذه رحلة لاكتشاف الفوارق الكبيرة التي تعيشها مدننا في ظل العولمة والنمط الاقتصادي الجديد، نسلط خلالها الضوء على أوضاع جديدة تجتاح مدننا العربية.

اختار الفيلم العاصمة اللبنانية بيروت نموذجا، وتتبع مصير آخر المحلات الصغيرة ومالكيها في ظل تزايد التجمعات التجارية الكبيرة وسيطرتها على النمط التجاري العام للمدينة، فهي رحلة للتعرف على الفأر عندما يسيطر الأسد.

 

فك الأسد الجائع.. بيروت التي نحبها ونكرهها

بيروت تلك المدينة التي تأكل أبناءها كأسد جائع، هناك حيث البنيان الشاهق الآخذ بالاتساع والانتشار أفقيا وعموديا جارفا معه إرث بيروت القديمة ببيوتها ومحلاتها وأسواقها وحتى أحلام أهلها.

بيروت صندوق العجائب، إنها مليئة بالفرجة والتناقضات والمفارقات، ما بين جديد وقديم وبين ثمين ورخيص وبين صغير وكبير، القوي يأكل الضعيف، هناك من يستغني وآخرون يغرقون بالفقر، أما قاطنوها فمنهم من يبقى ومنهم من يغادر بلا عودة.

تتجسد علاقة غريبة بين بيروت وأهلها فهم يحبونها ويكرهونها ويمدحونها وأوقات أخرى يذمونها، تتملك سكانها هواجس وأفكار وأسئلة لا يملكون إجابتها.

في هذا الفيلم يصحبنا الكاتب والممثل إدمون حداد يضع يده على الجرح، ويرصد نبض الناس في بيروت، ويحاول أن يستلهم من قصصهم العادية والبسيطة والمعذبة في الوقت ذاته ليكتب مسرحيته، فيتجول في أزقتها وزواريبها، هناك حيث المحال الصغيرة والبنايات القديمة الباقية، يتساءل إدمون ما الذي سيحل بأصحاب المحلات إذا أغلقت ومن سيشتريها.

يبحث عن من سماهم فئران المدينة الذين ينظرون إلى عين الأسد دون خوف أو رهبة، لأنهم أدركوا منطق الأشياء ونهايات القصص، يعلمون أن آلات الحفر والتجريف ستأكل محلاتهم بلا ريب، ستبقى مجرد ذكرى أو صورة في نهاية المطاف، وسيصبح أهلها في العالم المنسي.

النجار أبو عبد يقوم ببعض الأعمال البسيطة في مجل نجارته الذي يشكل مصدر دخل لتعليم أبنائه

 

حرب لبنان الأهلية.. أيام التعايش الغابرة

أول شخوص هذا الفيلم هو أبو عبد ذو الـ70 عاما الذي قدم إلى بيروت صغيرا، وعمل في البداية ببيع اللحوم لكن نفسه عافتها، فقرر أن يتبع حلمه ويعمل نجارا، وكان أجره وقتها لا يتجاوز الليرة أسبوعيا لكن كان عليه التكيف مع الدخل، أما حيّه فكان خليطا من المسيحيين والمسلمين والأرمن.

كانوا الجميع يعيش بمحبة معا، ولا يعلم إن كان هذا سنيا أو كان ذلك شيعيا، لكن خلال الحرب اللبنانية تغير كل شيء فطغى صوت الرصاص والقصف على المشهد، وتفرقت الناس بين تابع لهذا أو ذاك، لم يكن بمقدورهم النوم وكانوا يصلّون على الأدراج، تغيرت النفوس وتبدل الحال، إنها معادلة صعبة كان يحملها واقع تلك الأيام وعليك الاختيار بين أن تكون القاتل أو الضحية.

أما صالح الأليجاتي فهو صاحب صالون للحلاقة فتحه عام 1975، كان يستيقظ من الفجر يصلي ويحتسي القهوة مع زوجته على طرف السرير لأنه باختصار لا يملك إلا غرفتين واحدة له والأخرى لبناته. يتبادل صالح أطراف الحديث مع زوجته، ثم ينزل إلى عمله متوكلا على الخالق الذي بيده مفاتح الرزق، وفي الظهيرة يتناول الغداء في محله لأن تكلفة الصعود للمنزل عالية فعليه أن يصعد 111 درجة.

يرى صالح أن الحياة في الماضي كانت أفضل، فالناس تعيش في مهد عيسى، أي في جو من الراحة والاطمئنان متحابين ومتآلفين، وكانت الحلاقة بنصف ليرة، لكن الحياة وقتها كانت رخيصة وبسيطة، فقد تزوج وأنجب 13 طفلا.

أنطوانيت في بقالة والدها التي امتلكها منذ نحو 60 عاما

 

مشقة البحث عن الرزق.. بين خيارات الاحتيال والاستقامة

لا تختلف قصة أنطوانيت كثيرا عن واقع غيرها إلا بالتفاصيل، فقد بدأت العمل في محل البقالة الذي يمتلكه والدها وهي في سن مبكرة قبل نحو 60 عاما، وتصف قصتها بأنها مقبولة إذ كانت تساعد والدها في كل شيء ولم تحصل على التعليم، وأما والدها فكان صعب المراس فإذا أرادت المال، يقول لها “لشو؟” (أي من أجل ماذا)، وقد أحدثت هذه الكلمة عندها عقدة، لذا قررت أنطوانيت تعلم الخياطة لتوفر حاجياتها، وأصبحت تصنع الملابس لصديقاتها ومعارفها وتتكسب من ذلك، وبعد أن تزوجت قام زوجها بالعمل في المحل.

عاش أنيس في أسرة مكونة من أربعة أولاد، وبدأ العمل في مشغل للخياطة داخل الببت، وكان الإخوة يتشاركون العمل الذي يديره أخوهم الأكبر، وحين بلغ من العمر إحدى عشرة سنة تمكن أنيس من إتقان عمله، وكانت الحياة جميلة بنظره وقتها، وعندما جاءت الحرب كان لديه دافع للحياة والعيش، وعندما توقفت أصبح الملل يخيم عليه نظرا لظروف عمله الصعبة، فهو لا يستطيع أن يأخذ إجازة ليوم واحد وإلا فإنه سينكسر، أما أولاده فيعيشون الحياة الحديثة. يقول إن “الحياة لم تمنحه إلا احتمالين؛ إما أن يكون نصابا أو أن يهرسه العمل” وكان الأخير خياره.

الإسكافي أبو علي مبتسم للحياة لم يندم فيها على شيء

 

إسكافي.. لم يندم على شيء

أما أبو علي فهو أصغر إخوته، وكان أخوه الأكبر إسكافيا وكان يذهب إليه كل يوم بعد المدرسة، ومع الوقت تعلم منه الصنعة، وعلى الرغم من بساطته فهو صاحب فلسفة ونظرة عميقة، فهو يقول إنه يستطيع معرفة الزبون وأخلاقه من خلال حذائه، فهناك من يعيشون على المظاهر الكاذبة، وأناس يعيشون ضائقة مادية، وبعضهم يجلب إليه حذاء يقدر ثمنه بنحو 500 دولار ولا يمتلك أجر تصليحه. تمر عليه أشكال وألوان من البشر منهم أصحاب شركات يساومونه على ألف ليرة وفقراء يزيدونه الضعف، حياة زائفة يعيشها الناس هناك فيدعون ما لا يملكون.

يذهب إدمون متجولا بين الناس يسألهم فيجيبونه بما يريده، يخلطون المواضيع بعضها ببعض كلوحة سريالية ليعبروا عن مكنوناتهم ودواخلهم المبعثرة المتناقضة بين الرضى واليأس، وبين الابتسام والخوف، ببساطة الكلام وتعقيدات الواقع ينتظرون أسد المدينة ليبتلعهم.

الحلاق صالح الأليجاتي يعتبر قصات الشعر الحديثة “قلة عقل”، ورغم أنه يتقنها فإنه لا يفضلها

 

احتضار طويل.. جيل ينظر إلى نفسه وهو يتهاوى

حزن أنطوانيت الأكبر كان على زوجها المتوفى وأولادها الذين تزوجوا وتركوها وحيدة تستنجد بالجيران في سهراتها وتدعوهم لبيتها حتى تمنع شبح الوحدة من أن يسكنها، وتقارن في حديثها بين نساء اليوم والماضي حتى في طريقة زينتهن، فقد كانت النساء تتزين ببساطة وهن أكثر براءة وحشمة، فهي لا تحب كل تلك المساحيق التي تضعها النسوة اليوم ولا صبغة الشعر، وترى أن نساء هذه الأيام لا يتقنّ عمل شيء ويفضلن الراحة والكسل.

أما أبو علي فكان شعاره في الحياة ابتسم تبتسم إليك، وارمِ الهموم خلفك، ويعلم جيدا أنه وعند موته سيغلق المحل وسينساه الناس، وله بنت وولدان، أما أحد ولديه فقد سافر إلى نيجيريا بينما التحق الآخر بالجيش، وأما ابنته فهي طالبة جامعية، ولم يتقن أحد منهم مهنته، ولكنه قانع بما رزقه الله، ولم يندم على شيء بل يحب الحياة ويتأمل فيها خيرا.

أما أنيس فيحلم أن يعيد معمله، ويشغّل فيه 50 عاملا ليرتاح من العمل المتواصل، لذا لا يحب أن يحذوا أولاده حذوه، فهو يشعر بالإحباط لأنه لا يجد نتيجة تعبه وينساه عند النوم، ويعتبر أن بيروت لا راحة فيها.

كان أولاد أبو العبد كل همه، لقد تزوج متأخرا وهو منصب اليوم على تعليمهم ومصاريفهم يقوم ببعض الأعمال البسيطة في محل النجارة، وكان قديما يصنع عشرين خزانة مغلفة كل أسبوع ولم يساعده في ذلك سوى عامل واحد، لكنه لا يزال واقفا على قدميه، يشعر بالحزن على المستقبل وأبناء وطنه لأنهم عزفوا عن هذه المهن المتوارثة فأصبح سوق النجارين أثرا بعد عين.

أما صالح الأليجاتي فيعتبر قصات الشعر الحديثة “قلة عقل”، ورغم أنه يتقنها فإنه لا يفضلها، أما الزبائن فهم قليلون، وهو لا يستطيع إجبار أحد على دخول محله، ويعتبر أن هذا هو حال الدنيا، فهو الآن لا يستطيع تغير مهنته لأن نظره أصبح ضعيفا، ولم يورث عمله لأولاده لأنهم يفضلون الربح السريع، وهذا العمل لا يوفر لهم ما يطمحون إليه.

الخياط أنيس لا يجد في لبنان أملا لأن فيها من الناس من يبحث عن رغيف خبز

 

بيروت الجديدة.. مدينة على أنقاض الذكريات

بيروت بالنسبة لشخوص هذا الفيلم لم تعد هي بيروت نفسها التي عرفوها، لا يستطيعون التعرف عليها بتلك المباني والأبراج العالية، ويرون أن غلاء العقارات والإيجارات أشد فتكا من الحرب، لذا فهو سبب ليهجرها أهلها بلا عودة.

صالح الأليجاتي لا يحب بيروت الجديدة ويقارنها بالماضي ببيوته القديمة وحدائق تلك المنازل وأشجارها، فهو لا يرى في العمران أي سوء لكنه يحن لذلك الماضي، ويتحسر على الأماكن التي كانت موجودة مثل باب إدريس وسوق إياس وسوق الطويلة، ويعتبرها من الأماكن التي لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، لذا يخونه التعبير عند ذكرها ويبكي حرقة عليها.

أما أبو العبد فهو يرى بيروت بجمالها وتراثها لا بمبانيها ومصارفها، يتساءل أين سيمشي الشعب؟ لقد غدت هذه المدن سجنا وذلا يعيشون فيه كعصفور داخل قفص، يعرف أن محله سيغلق لا محاله، لكن لا يزال عنده أمل أن يعمل حتى يعيل أسرته.

كما أن بيروت الجديدة لا تعني شيئا لأنطوانيت ولا تُسعدها، فهي لا ترى فيها صورة بيروت القديمة الجميلة البسيطة، أما الناس فيها فقد توجهت للرفاهية والمظاهر، ولم يعد في قاموسهم وجود للحب والتواضع والطيبة.

وأما أبو علي فهو لا ينكر جمال بيروت الجديدة، لكنه يحتاج إلى جمال يستطيع العيش فيه، ويراها مثل قصر بديع يمنع الولوج إليه، ويصيبه الحزن عندما يتذكر أن محله سيغلق بعد موته.

ولم يعد عند أنيس وقت للسهر لأنه كبر وتغيرت طبيعته، وعند انتهاء عمله كل ما يحلم به هو النوم، ورغم توقف الحرب إلا أنه يجد نفسه في قمة العذاب اليوم، ويعتقد أن البلد لا أمل فيه وهناك من يبحث عن رغيف خبز.

الصحفية ميسلون نصار تصف بيروت بكلمات مؤثرة كيف كانت وأين صارت

 

“ننساها ولا ننسى ما فعلناه بها”.. هل تعود بيروت أبدا؟

لا وسطية في بيروت إما قمة وإما قاع، أسود أو أبيض، بلد متلون فيه كل أنواع الاستثمارات تنتصب شامخة مكان أحيائه ومحلاته التجارية القديمة، ومهن صغيرة اقتلعت، حتى الذاكرة والإرث الإنساني في المدينة اندثر، وتغيرت كل الأنظمة الاجتماعية فيها.

وكما تقول الصحفية ميسلون نصار: بيروت التي لم أعد أعرفها منذ مدة باتت أكثر لا مبالاة، تكره الفقراء وتنبذ الزوار، تراكم الأبنية والقمامة، وتنسف قلوبا وعقولا، هي بيروت التي ننساها أحيانا ولا تنسى ما فعلناه بها.

في النهاية هذه هي بيروت وهؤلاء هم شخوصها، قصة تراجيديا أو كوميديا سوداء يهلك فيها الجميع، لأن بيروت تحتها حفرة عميقة تُسد بالمتاجر الكبيرة والبنايات الشاهقة والإسمنت.