محمد عمارة.. من الثائر اليساري إلى فليسوف الحضارة ومحامي الإسلام

أمين حبلّا

بين ميلاده في العام 1931 ورحيله في ثاني أشهر 2020 تألفت قصة طويلة الفصول من حياة أحد أبرز مفكري مصر والعالم الإسلامي، فقد ملَك المفكر الراحل قلما فياضا كأمواج النيل وأملا مجنحا في صناعة وعي إسلامي عالمي يعيد اكتشاف الشريعة الإسلامية لدى أبنائها ولدى العالم.

محمد عمارة المفكر العصامي الذي عاش تسعا وثمانين سنة متوكئا على قلم فياض، رحل وهو في قمة المعارضة للأنظمة السائدة سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو أنماطا فكرية للتفسير والتأليف وبناء الرؤى.

لقد امتلك الأسمر الصارم الملامح عقلا تفكيكيا وآخرا تركيبيا، فأعاد تأسيس منظومة فكرية إسلامية ناقدة، بعد أن أعاد الاعتبار للتيار العقلي في تاريخ المسلمين بدءا بالمعتزلة وانتهاء بالتيار الإسلامي الحداثي الذي استنار بفكر عمارة دون أن يستطيع استيعابه في أي بنية حركية أو تنظيمية، فقد كان عمارة مصنّفا فوق التصنيف.

 

ابن الريف المصري.. بداية الرحلة من الكُتاب

ولد محمد عمارة مصطفى عمارة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1931 في قرية صرورة بمركز قلين (محافظة كفر الشيخ) بريف مصر، وكأبناء الريف الذي صاغت الشمس سحناتهم السمراء نهل محمد من معين القرآن الكريم حفظا وتجويدا وهو في العاشرة، فكان يغدو ويروح إلى الكتاب في جبة صعيدي صغير يحمل في قلبه المفعم بالبراءة آمال أمة تتقاذفها أمواج التاريخ والجغرافيا كما تتلاعب الرياح بالأشرعة فوق النيل.

في الكُتّاب تفتقت معارف الشاب ولم يكد يكمل عامه العاشر حتى كانت قضية فلسطين قد دخلت كل بيت مصري وعربي وربما إسلامي أيضا، ولأن الأطفال رقاق القلوب كأفئدة العصافير أخذت هذه القضية جزء أساسيا من تشكيل الوعي القومي والفكري عند محمد عمارة، فكتب مقالا بعنوان “جهاد” تحدث فيه عن واجب الدفاع عن فلسطين وقضيتها، ثم واصل الرجل جهاد الحبر ومعارك الفكر في رحلة قلم امتدت قرابة ستين سنة، ولا يزال صداها مستمرا في الآفاق.

مع كتاب النظرات للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي كانت بداية القراءات غير الدينية المباشرة لعمارة، وسرعان ما تفتحت آفاقه المعرفية وصقل البيان موهبته التعبيرية فانطلق يهز أعواد المنابر في قريته الصغيرة، وكان الخطيب الصغير يحصد كل يوم إعجابات واسعة ودعوات بأن يفتح الله له الطريق البيضاء نحو السمو والإيجابية والرفعة وقد استجيبت الدعوات.

 

في حضن المعارف.. أسوار السجن تعيق المسيرة

بعد المرحلة الابتدائية، ولج عمارة إلى التعليم الثانوي من بوابة المعهد الأحمدي الثانوي الأزهري بمدينة طنطا، حيث حصل فيه على الشهادة الثانوية، ثم التحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة التي حصل بها على الليسانس في 1965، وكان الشاب العشريني يومها يخطو بعنفوان الثورة وأحلام الشباب ووهج الأدب في عمق النقاش والنضال السياسي فانتسب أثناء فترته الجامعية إلى قوى سياسية وثورية.

ولكنه واصل مساره الدراسي حتى حصل على الماجستير في العلوم الإسلامية وفي تخصص الفلسفة بشكل محدد سنة 1970، عن أطروحة بعنوان: “مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة”، وأكمل المسيرة التعليمية بالدكتوراه عام 1975 برسالته “نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة”، من نفس الكلية التي صحبها تلميذا فأستاذا محاضرا وفيلسوفا ومؤلفا ومحققا.

لم تكن الرحلة الطويلة بين الثانوية والدكتوراه إخفاقا من عمارة في مسيرته الدراسية، ولكن سنوات السجن الخمس اقتصت من مسيرته الجامعية، وإن كانت قد وهبته حدة وصلابة فكر وانسياب قلم، فأخرج من زنازين السجن أربعة كتب مهمة وتأسيسية في فكره والفكر العربي الإسلامي.

تعززت المسيرة العلمية والتعليمية لمحمد عمارة، واكتشف الناس بسرعة أنهم أمام ظاهرة علمية فريدة، فالتحق بالأزهر وتولى فيه مواقع هامة، فيما كانت كتبه ومحاضراته تفتح له الأبواب إلى القلوب والعقول والمكتبات في أنحاء العالم.

ونال عضوية مجامع كبيرة في العالم الإسلامي كما نال عضوية هيئة كبار العلماء في الأزهر، وتولى لفترة رئاسة تحرير مجلة الأزهر التي نقلها من مجرد إصدار علمي هادئ إلى مجلة سيارة وصل توزيعها إلى عشرات آلاف النسخ.

تضم مكتبة الدكتور عمارة أكثر من 4000 كتاب من بينها 240 كتابا من مؤلفاته

 

على أمواج الفكر.. تقلبات العصر الناصري

شهدت مسيرة محمد عمارة تقلبات متعددة، فابن الكُتاب ورفيق القرآن وخطيب القرية تحول في عنفوان شبيبته الفكرية إلى يساري مناوئ لسيطرة اليمين وللتفاسير الدينية والتراثية للحضارة، ومعيدا صياغة الأسئلة المركزية للعالم العربي وفق النظرية اليسارية وفكرها السيار في مصر الناصرية يومها.

كانت رئتا مصر تستقبلان كل يوم آلاف العواصف الفكرية والثقافية والنسمات الحضارية القادمة من أنحاء العالم، لكن التوجهين العلماني والإسلامي غرسا أقدامهما بقوة في حقول مصر ووديانها واستظل بهما الآلاف من شباب الجامعات القاهرية.

وكان محمد عمارة أحد الذين تنقلوا بين الظلين واستقر أخيرا تحت راية الدفاع عن الإسلام فكان محاميه الأبرز في مصر، وكان صوته الفكري الأكثر صدوعا بما يراه حقا وفكرا.

عمارة يعيد النظر في مشروع رفاعة الطهطاوي الفكري ويحوله إلى “ظلال الإسلام”

 

نفض الغبار عن التراث الإسلامي

سبر عمارة أغوار الفكر الإسلامي وتراث المدرسة العقلية ومدرسة الاعتزال بشكل خاص، فنفض الغبار بعمق المفكر وإبداع المحقق عن كتب كثيرة ورسائل كانت مطمورة في رفوف المخطوطات، وأعاد تقديم مدرسة الاعتزال في التاريخ الإسلامي.

كما اهتم بشكل خاص برسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، تلك الرسائل الخالدة في تراث العقلانية الإسلامية رغم أنها مجهولة المؤلفين، كما كتب عن مختلف رموز الفكر الإسلامي ومدارسه المختلفة، جامعا بين التيارات العقلانية والسلفية، فكتب عن الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز وغيلان الدمشقي والحسن البصري وأنصف ابن تيمية ورآه حامل مشروع ضخم كان يحتاج إلى دولة سياسية لتغير به وجه العالم الإسلامي.

وكتب أيضا عن زعماء الإصلاح في العصر الحديث مثل الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ومحمد الغزالي وعبد الرزاق السنهوري وقاسم أمين وجمال الدين الأفغاني وأبي الأعلى المودودي وعلي مبارك وغيرهم.

مرافعات لإنصاف المظلومين في التاريخ

لم يكن عمارة في كتاباته عن أعلام الفكر الإسلامي سلفا ومعاصرين كاتب سيرة ولا روائيا، بل كان جراحا ناقدا وفقيها من فقهاء التاريخ يبني من ركام السيرة المتناثرة أسس المشاريع التي قامت عليها أفكار أولئك الأعلام، فأنصف بذلك كثيرا من المظلومين في التاريخ الفكري الإسلامي سواء كانوا مدارس فكر أو رموز تجديد، وبشكل خاص أنصف المعتزلة وابن تيمية.

كما صحح كثيرا من الأغلاط المؤسسة والمحمية حول شخصيات مؤثرة في مسيرة النهضة العربية المعاصرة وخصوصا رفاعة الطهطاوي الذي أعاد عمارة مشروعه الفكري إلى “ظلال الإسلام” والدفاع عنه بعد أن كان السائد عند كثير من مؤرخي ومنظري عصر النهضة أنه كان طليعة التيار العلماني.

وقل الأمر نفسه مع الفقيه الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري، وكذا الإمام محمد عبده الذي أنصفه صاحب القلم السيال بعد أن أظهرته المدرسة العلمانية مجرد مردد لأفكار سائبة في الفضاء الفكري الفرنسي، لكن عمارة أعاد بناء الصورة من مصادرها الأصلية وأثبت أن ما روجته الأقلام اليسارية لم يكن هو الحقيقة.

للدكتور محمد عمارة نحوا من 240 مؤلفا في الفكر الإسلامي

 

فارس الردود.. مناظرة رفقاء الدرب السابقين

مثلما كان عمارة رأسا في اليسار ومتحدثا باسمه ومناظرا قويا بفكره، تحول إلى رأس وزعيم فكري للفكر الإسلامي الوسطي، وكان أغزر المفكرين الإسلاميين إنتاجا وأكثرهم جرأة وتصديا للتيار العلماني وأطولهم مبارزة في ميدان الفكر.

وتحت راية الدفاع عن الإسلام خاض عمارة مناظرات قوية مع أبرز رموز اليسار، فناظر فرج فودة وجابر عصفور ونصر حامد أبو زيد ونوال السعداوي وفؤاد زكريا وكمال زاخر ومحمد أحمد خلف الله وحمدي الأسيوطي.

كما جرد قلمه للرد على المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فأصدر كتابه “رد افتراءات الجابري على القرآن الكريم”، ورغم أن المفكرين يلتقيان في مشرب واحد وهو حقل الدراسات الإسلامية فإنهما لم يكونا دائما صادرين بنتيجة واحدة.

رد عمارة كتابيا أيضا على حسن حنفي ونصر أبو زيد ومراد وهبة، وعلى عبد الكريم سروش، وكان فارس الردود بشكل خاص، وهو في ردوده يناقش المضامين واللغة والأسلوب ولكنه ينسف الحجة بأخرى دامغة وقاهرة.

أحد المؤلفات التي تميز بها فكر الدكتور محمد عمارة الإسلامي ضد المعتقدات الشرقية الدخيلة

 

“التفسير الماركسي للإسلام”.. فليسوف الحضارة

تكشف خارطة كتب محمد عمارة أنه كان بحق فليسوف الحضارة الإسلامية الذي جمع بين تحليل التراث واستخراج كنوزه وتثمين قيمه وبين استشراف المستقبل وبناء زوارق العبور إليه.

وقد وصلت مؤلفات محمد عمارة خلال ستة عقود إلى نحو 240 مؤلفا ما بين كتاب ودراسة، ومن هذه المؤلفات: “التفسير الماركسي للإسلام” و”معالم المنهج الإسلامي” و”الإسلام والمستقبل” و”نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام” و”الغارة الجديدة على الإسلام” و”التراث والمستقبل” و”الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين” و”الجامعة الإسلامية والفكرة القومية”.

فكر الشيخ محمد عمارة كان إسلاميا عاما، لكنه كان أيضا مؤيدا للإخوان المسلمين

 

معارك السياسة.. راية المفكر الثائر

آمن محمد عمارة بالثورة منهجا وطريقا، ولكن كانت ثورته واعية وكانت معاركه تأسيسية لأنها تعيد البناء وتضع معالم النظرية التي يؤمن بها، وفي مجال السياسة آمن بالدولة الديمقراطية ولم ير بينها وبين الإسلام أي تعارض، بل حرر القول في المسألة الديمقراطية والقضية الشورية بما أفاد الإسلاميين في مختلف أقطار العالم الإسلامي لأنه ساهم في حل إشكال العلاقة بين تراثهم الإسلامي وبين أهم وسيلة لممارسة الشعب لدوره في الحكم وحماية مصالحه.

وكان محمد عمارة من أوائل المساندين والداعمين فكريا وسياسيا للحراك الشعبي الذي حمل اسم الربيع العربي وخصوصا في مصر بعد أن تمكنت صرخات الشباب من دك نظام حسني مبارك الذي لم يكن يخفي في أي وقت ولا موقف معارضته له بل كان يعبر بوضوح عن أن مبارك يكره الإسلام حقيقة ومنهجا وليس مجرد موقف من شعارات أو جماعات أو أشخاص.

وكما وقف إلى جانب الثورة، فقد وقف أيضا بقوة ضد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، وأصدر بيانا انتقد فيه بقوة العدوان على الديمقراطية والإطاحة برئيس منتخب، دون أن يغفل الطبعة العلمانية للانقلاب والسعي إلى الحرب ضد كل ما يمت للهوية الثقافية والدينية لمصر.

رغم أن عمارة كان محسوبا على التيار الإسلامي إلا أنه كان أكبر من التصنيفات رغم أنه كان متهما دائما بأنه قريب من الإخوان أو متأثر بهم، لكن فلسفة عمارة كانت القرب من الإسلام وقيمه بغض النظر عمن يحملها أو يدعو إليها.

 

رفيق القرآن.. تموت الأجساد وتبقى الأفكار

في سنواته الأخير عزز محمد عمارة صداقته مع القرآن، وخصوصا بعد أن اقترب من الثمانين وظل أكثر وقته بين مصحفه ومكتبته التي كانت تحوي أكثر من أربعة آلاف عنوان من بينها نحو 250 عنوانا من مداد قلمه وحصيلة رحلته الطويلة مع الفكر والعلم.

وقد استجاب ملايين المسلمين لطلب عمارة بأن يصلوا عليه ويترحموا عليه بعد موته، أما طلبه الآخر بأن ينشروا فكره ودعوته فلا شك أنه سينال هو الآخر نصيبه الكبير من الاستجابة خصوصا أن فكر عمارة أصبح جزءا أساسيا من عمارة الفكر الإسلامي والإنساني.

 


إعلان