ألعاب الفيديو في زمن “كورونا”.. مصائب قوم عند قوم فوائد

 مراد بابعا

اصطدم سوق ألعاب الفيديو بداية سنة 2020 بأزمة فيروس كورونا المستجد الذي أدى إلى إلغاء العديد من التظاهرات العالمية، وتأجيل طرح الجيل الجديد من أجهزة رائدة مثل سوني “بلاي ستيشن” الذي يترقب العالم طرح جيله الخامس، وأيضا جهاز مايكروسوفت “إكس بوكس سيريز” (Xbox Series X).

في المقابل تزايد الإقبال على ألعاب الفيديو بسبب إجراءات الحجر في المنازل، وهناك من ذهب أبعد من ذلك واستغل هذا الظرف العالمي، للترويج لألعاب لها علاقة بانتشار مرض “كوفيد-19” كلعبة “بلايغ إنك”، المحاكية لطريقة انتشار “كوفيد19″، ويقوم فيها اللاعب بتوجيه فيروس وهمي قاتل في الصين ثم نشره في جميع أنحاء العالم لمحو البشرية، وقد جذبت هذه اللعبة أكثر من 130 مليون لاعب، وتصدرت مبيعات الألعاب الإلكترونية في الآونة الأخيرة.

 

تسارع في ظهور ألعاب الفيديو

قبل بداية أزمة “فيروس كورونا”، حقق سوق ألعاب الفيديو حول العالم رقم معاملات وصل إلى 152 مليار دولار في 2019، مما يجعله أحد أكثر النشاطات انتعاشا في الآونة الأخيرة بحسب موقع “نيوزو” (Newzoo) المتخصص في سوق الألعاب الالكترونية.

ويقدم لنا الفيلم الوثائقي “أسطورة ألعاب الفيديو” الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية قبل حوالي سنتين، أهم المحطات التاريخية التي مرت بها “ظاهرة ألعاب الفيديو”، والتي انتشرت بشكل سريع في غضون أقل من أربعين عاما.

وتتوقع جل التقارير أن يواصل هذا السوق الترفيهي تطوره في المستقبل مع إطلاق مجموعة كبيرة وقوية من الألعاب، بالتزامن مع الكشف عن أجهزة جديدة متخصصة قي الترفيه واللعب المنزلي.

 

فترة الحجر المنزلي.. إقبال متزايد على اللعب

ساهمت فترة الحجر الصحي المنزلي التي شملت تقريبا نصف سكان المعمورة، في تزايد الإقبال على وسائل الترفيه المنزلية وفي مقدمتها ألعاب الفيديو، وقبل أزمة فيروس كورونا، بلغ عدد اللاعبين الرقميين حول العالم أكثر من ملياري شخص، من بينهم من يلعبون مجانا على الهواتف وأجهزة الحاسوب، ومن يشتري الألعاب من المتاجر والمنصات الرقمية.

وفي إيطاليا -وهي إحدى الدول الأكثر تضررا في أزمة “كورونا”- سجل ارتفاع بنسبة 70% في استعمال الإنترنت منذ قرار السلطات تعطيل الدراسة وبدء إجراءات العزل الصحي، وربطت شركة الاتصالات في البلاد هذا الارتفاع بالإقبال على لعبة “فورتنايت” التي تُلعب مباشرة على الإنترنت.

وفي الصين تزايد عدد اللاعبين على الهواتف المحمولة بحوالي 48% منذ بداية انتشار الوباء في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وذلك بسبب تراجع الأنشطة المهنية والالتزام بتدابير الحجر المنزلي ومنع التجمعات، وفي الغالب لا يتطلب شراء الألعاب الجديدة أي انتقال للمتاجر إذ أنها متوفرة للتحميل إلكترونيا، وقد أصبحت لعبة “Honor of Kings” من أشهر الألعاب بين الصينيين في خلال فترة الحجر الصحي، وحققت أرباحا قدرت بنحو 286 مليون دولار يوميا وعدد مستخدمين يفوق 100 مليون.

كما حققت منصة الألعاب الجماعية على الإنترنت “ستيم” (Steam) رقما قياسيا خلال فترة الحجر الصحي من حيث عدد اللاعبين المرتبطين في الوقت نفسه بالمنصة، وفاق العدد 20,6 مليون شخص. كما حافظت لعبة “PUBG” على ريادتها للتطبيقات التي يجري تحميلها في أكثر من 100 دولة، ومن بينها بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

أما شركة “مايكروسوفت” فقد كشفت عن تعرض خدمتها “إكس بوكس لايف” (Xbox Live) لمشاكل تقنية بسبب الضغط الكبير على خوادمها في فترة العزل بالمنازل، نتيجة رغبة عدد كبير من المستخدمين في تسجيل الدخول للخدمة في آن واحد، مما أدى إلى توقف خدمة اللعب المتعدد التي توفرها “XboxLive”.

بسبب فيروس كورونا الذي يجتاح العالم، ألغت شركة سوني مشاركتها في المعرض الدولي “باكس”

 

صناعة الألعاب الإلكترونية.. دجاجة تبيض ذهبا

قبل أن يتوقف العالم عن التوقع في انتظار ما ستؤول إليه أزمة “الفيروس التاجي”، كان أغلب المتتبعين يشيرون إلى أن بداية سنة 2020 ستكون استثنائية في قطاع ألعاب الفيديو، مع إطلاق الجيل الخامس من “PlayStation” اللعبة الأشهر على الإطلاق، والنسخة الجديد لجهاز “إكس بوكس”، بالإضافة إلى دخول شركة “غوغل” على الخط بكشفها في 2019 عن منصة “ستاديا” (Stadia) للألعاب السحابية على الإنترنت، والتي ستخلق أوراق المنافسين التقليديين في هذا السوق.

وفي ظل تجميد جميع مشاريع إطلاق الأجهزة الجديدة بسبب الأزمة الحالية، تبقى هذه السنة مفتوحة على جميع الاحتمالات، لكن سنة 2019 شهدت نموا بحوالي 10% في سوق الألعاب الإلكترونية، ولأول مرة تصدرت الولايات المتحدة السوق العالمي متفوقة على الصين، وقد احتفظت الألعاب عبر الهواتف الذكية بصدارة الإيرادات بحوالي 45% (68.5 مليار دولار)، متبوعة بمنصات اللعب بحوالي 32%، ثم الحواسيب الشخصية بحوالي 23%.

وكشف تقرير “نيوزو” المتخصص، أن الإيرادات في الولايات المتحدة لوحدها قاربت 37 مليار دولار، وذلك بفضل النمو في ألعاب المنصات، وتأثير لعبة “فورنايت” (Fortnite).  مقابل تجميد الحكومة الصينية لإطلاق ألعاب جديدة في الصين. واستمرار اليابان عبر شركتها الأشهر “سوني” في اعتماد النهج التقليدي وعدم مسايرة التوجه العالمي نحو الألعاب السحابية.

وتحتوي أيضا متاجر “آبل” و”غوغل” الإلكترونية على أكثر من 300 ألف لعبة قابلة للتحميل، وتربح كلتا الشركتين ما بين 15 إلى 30% من مشتريات الألعاب في الأجهزة المحمولة التي تعتبر الأكثر نموا في صناعة ألعاب الفيديو، بينما تجاوزت قيمة الإنفاق العام على هذه الألعاب في مجال التجارة الإلكترونية 70 مليار دولار، كسابع صنف من المشتريات يقتنى في العالم الرقمي.

معارض ألعاب الفيديو يزورها مئات الألوف من المهتمين في أيام افتتاحها

 

ديار العرب.. استهلاك يطغى على الصناعة

تعد الولايات المتحدة من أكبر أسواق ألعاب الفيديو في العالم، فـأكثر من نصف السكان يمتلكون في البيت -على الأقل- منصة واحدة متخصصة في ألعاب الفيديو، منهم 60٪ يفضلون اللعب من خلال منصات متخصصة، وليس عن طريق أجهزة الهواتف الذكية أو الحواسيب الشخصية، مما يجعل معدلات مبيعات منصات الألعاب في الولايات المتحدة من أعلى المعدلات في العالم على الإطلاق. كما تحتضن البلاد إحدى أكبر شركات التكنولوجيا في العالم “مايكروسوفت” التي تصنع منصة ” إكس بوكس” الشهيرة، والتي بيعت منها أزيد 24 مليون وحدة حول العالم منذ 2006.

وتعتبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ أكبر وأسرع سوق للألعاب على مستوى العالم، وتعتلي اليابان عرش ألعاب الفيديو عبر المنصات الثابتة، وذلك بجهازها الأشهر على الإطلاق “بلاي ستيشن” الذي تصنعه شركة “سوني” اليابانية، بينما تتفوق الصين أساسا من خلال ألعاب المحمول والبرمجة والتطوير، ويتوقع أن يصل حجم صناعة ألعاب الفيديو في الصين إلى 16 مليار دولار في 2023، مع وجود 354 مليون لاعب عبر الإنترنت، أي أكثر من إجمالي الشعب الأمريكي.

أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فاستهلاك الألعاب هو السائد في غياب صناعة حقيقية، بسبب المنافسة الشرسة وضعف الاستثمار في هذا المجال مقارنة بالدول الغربية، وقد كشف تقرير حديث نشرته مؤسسة “لاي الدولية لخدمات الألعاب” (LAI Global Game Services) أن الدول العربية تسجل في المقابل أعلى معدل نمو في سوق الألعاب الإلكترونية على مستوى العالم بنسبة 25% في السنة، بينما لا تتعدى النسبة 9.2% في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، و4% في أمريكا الشمالية.

ويرجع هذا الإقبال الكبير إلى وجود 400 مليون شخص في المنطقة العربية تقل أعمار كثير منهم عن 25 سنة، وتوفر زبناء بقدرة شرائية كبيرة خصوصا لدى سكان منطقة الخليج، وتعتبر السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر من أكبر أسواق الألعاب الإلكترونية في المنطقة.

شركة سوني المصنعة لـ”بلاي ستيشن 4″ باعت 80 مليون وحدة من ألعابها

 

تأثير ألعاب الفيديو.. انعكاسات الثقافة والهوية

تحولت ألعاب الفيديو في فترة قصيرة من مجرد أداة للتسلية إلى ظاهرة ثقافية بامتياز، وأصبحت أيضا تنافس الأحداث الفنية والرياضية الأكثر شعبية، فلم نعد نتفاجأ برؤية آلاف الجماهير يتابعون مسابقات كبيرة في الساحات، ويتنافسون على جوائز مالية مغرية.

واستطاعت لعبة “فورتنايت” الأكثر شعبية عالميا حصد أرباح شهرية تصل إلى 400 مليون دولار على مختلف منصات الألعاب، كما خصصت شركة “إيبك غيمز” (Epic Games) العام الماضي 100 مليون دولار كقيمة جوائز للمتسابقين في كأس العالم للعبة.

ووجهت في المقابل اتهامات عديدة للعبة “فورتنايت” التي فاق عدد مستخدميها 200 مليون شخص بالتأثير سلبيا على سلوك الجيل الصاعد بسبب اعتمادها على العنف والقتل، وحذرت بعض الدراسات من أنها قد تؤدي إلى جرائم حقيقية، وقد شهدت ولاية “فلوريدا” الأمريكية أشهر جريمة ربطت بألعاب الفيديو عندما قتل مراهق مدمن على لعبة “فورتنيت” مجموعة من التلاميذ داخل مدرسة ثانوية.

وأصبحت هذه الألعاب تعكس إذن هوية المجتمعات التي تصممها، في غياب تام للطابع العربي رغم بعض المحاولات المحتشمة، وهو ما يفسح المجال أمام الشركات الأجنبية لتعريب ألعابها بغية استمالة المستهلك العربي، مما يسيء في كثير من الأحيان للهوية والثقافة العربية.

ودفع هذا الوضع بعض الشركات العربية إلى التدخل لمحاولة إضفاء تغييرات على بيئة اللعب والموسيقى والأسماء وغيرها، دون الخوض في تطوير ألعاب فيديو مستقلة بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج وصعوبة المنافسة مع المنتجات العالمية ذات الجودة العالية، إضافة إلى غياب استديوهات متخصصة لاحتضان الكفاءات العربية في هذا المجال.

برمجية “ديب بلو” تغلبت على أبرز لاعبي الشطرنج في التاريخ “غاري كاسباروف” عام 1997

 

صناعة ألعاب الفيديو.. غلبة الذكاء الاصطناعي على البشر

شكلت ألعاب الفيديو منذ ظهورها أحد أبرز مظاهر الذكاء الاصطناعي الذي نعرفه حاليا، فاللعب ضد الكومبيوتر ظهر مع ظهور هذه الألعاب الإلكترونية، وبلغت مع مرور السنوات درجة كبيرة من التقدم حتى أصبح الذكاء الصناعي يتجاوز قدرات البشر في بعض الألعاب الفردية.

وأفضل مثال على ذلك ما حدث في لعبة “الشطرنج” مع برمجية “ديب بلو” (Deep Blue) التي تغلبت على أبرز لاعبي الشطرنج في التاريخ “غاري كاسباروف” عام 1997، فلم يعد الآن بإمكان البشر التغلب على الذكاء الصناعي في هذه اللعبة مهما بلغ الإنسان من الذكاء، لأن الذكاء الصناعي قادر على أن يسبقه بمئات الخطوات إلى الأمام. وأيضا تفوق نظام “غوغل” للذكاء الاصطناعي في عام 2017 على اللاعب الأول في العالم في لعبة “غو” (Go).

وشكلت لعبة “دوتا2” (Dota2) أحد أهم انتصارات الذكاء الاصطناعي في الفترة الأخيرة، وذلك بعد أن تغلب الحاسوب على لاعب محترف في هذه اللعبة الحربية متعددة اللاعبين على الإنترنت، وذلك ضمن مشروع الذكاء الاصطناعي “أوبن أل” (OpenAI) الذي أسسه “إيلون ماسك”.

وفي المقابل تعتبر ألعاب الفيديو مَشتلا حقيقيا للأبحاث المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، فقد استطاع باحثون نقل بعض التقنيات التي تستعملها الألعاب إلى الواقع، وإدخالها ضمن “خوارزميات” تستطيع مساعدة البشر على اتخاذ قرارات أفضل في المسائل الإستراتيجية المعقدة، لكن هذه القرارات ما زالت مرتبطة بضرورة وجود العنصر البشري للحسم في المسائل الأخلاقية والاجتماعية التي تبقى مستعصية على الذكاء الاصطناعي.

 


إعلان