ابن خاتمة الأنصاري الأندلسي.. قاهر الطاعون وصاحب أول كتب الأوبئة

خاص-الوثائقية

“ثم يتصل الفساد حسبما قدمنا، وشمل على هذه الوتيرة أكثر المعمورة فحرز ما هلك من نوع الإنسان به في هذا الوقت المحدود بسبعة أعشار (سبعين في المائة)، ولم يتقدم فيما اتصل بأولي الاطلاع من تواريخ الأمم وباء بلغ مبلغه من أخذه بين المشرق والمغرب واستئصاله أهل البيت والقرية على سبيل واحدة، يتعلق بالناس تعلق النار بالحلفاء والهشيم بأدنى ملابسه من إلمام بمريض أو ربما بمباشرة ثوبه وآنيته”.

كان هذا مقتطف من كتاب “مقنعة السائل في المرض الهائل” للعلامة والأديب والطبيب الأندلسي، لسان الدين بن الخطيب، وهو وصف للطاعون الذي ضرب نصف الكرة الأرضية تقريبا في القرن الثامن الهجري، وعصف ببلاد المغرب، والأندلس خصوصا.

ولشدة وطأة الوباء وما أزهقه من أرواح في سنين قليلة، فقد تعددت تسميات وتوصيفات تلك الجائحة، فأطلق عليه “الطاعون الأعظم” و”الطاعون الجارف”، و”الطاعون العام”.

 

تشابهت الأعراض وتعددت الأمراض

قرون كثيرة تفصلنا عن ذلك الوباء، لولا أن العودة إليه باتت من حكم الضرورات، في زمن انتشار فيروس كورونا المستجد، الذي يعتبر من أخطر الأوبئة التي تواجه البشرية، منذ عقود.

صحيح أن للأوبئة أوجها متشابهة، لولا أن تضييق الزاوية للنبش عن دور المسلمين وحضورهم لمواجهة الطاعون سابقا، وبين فعاليتهم في مواجهة فيروس كورونا حاليا، سيكشف بالملموس، حجم التراجع الذي أصاب المسلمين على الصعيد الفكري والعلمي، ففي أيامنا هذه لا حديث سوى عن المختبرات الغربية والآسيوية التي تسابق الزمن للوصول إلى لقاح، وتتنافس فيما بينها لتصنيف أجهزة الكشف عن الفيروس.

هذا الدور هو الذي كان يقوم به العلماء المسملون في منتصف القرن الثامن الهجري، خصوصا في الأندلس، التي تركز فيها رحيق كل العلوم، ففي تلك الفترة وبينما كانت أوروبا تفسر الطاعون بأنه غضب من السماء، كان العلماء المسلمون يأخذون بالأسباب، ويبحثون ويعتمدون العقل لفهم هذا الوباء، ومن بين هؤلاء العلامة والشاعر والطبيب والفقيه الأندلسي، أحمد بن علي بن خاتمة الأنصاري، الذي تُجمع الكثير من الروايات التاريخية أنه صاحب أول كتاب طبي في الأوبئة، وهو كتاب “تحصيل الغرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”، وفيه قدم الكثير من التفاصيل عن الطاعون، الذي كان العالم كله حينها عاجزا عن فهمه، واستطاع أيضا فهم طرق انتقاله وكيفية التخلص منه، والحد من انتشاره.

كتاب “مقنعة السائل عن المرض الهائل، لابن خاتمة الأنصاري أول كتاب طبي يتحدث عن الأوبئة

 

شاعر الأندلس وطبيبها وحسنة من حسناتها  

لا تتفق المصادر التاريخية على سنة واحدة لولادة ابن خاتمة، أما الوفاة فقد ذكرها عدد من الباحثين بأنها كانت سنة 770 هجرية، واسمه الكامل هو أحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري، ولعل أكثر من ترجم وكتب ومدح بابن خاتمة هو أديب الأندلس لسان الدين ابن الخطيب، لشدة إعجابه به، ومتانة العلاقة بينهما، وتؤرخ الكثير من الكتب للمراسلات بينهما والتي كتبت بلغة بديعة ومشاعر فياضة من الود والتقدير.

ونجد أن ابن الخطيب يصف ابن خاتمة بأنه “قوي الذهن كثير الاجتهاد، جيد القريحة، بارع الخط، ممتع المجالسة، حسن الخلق، وهو حسنة من حسنات الأندلس وطبقة في النظم والنثر”.

عاش ابن خاتمة الأنصاري في “ألميرية”، وهناك تتلمذ على يد الكثير من كبار علمائها ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العيش المري، وإبراهيم بن محمد أبي العاص التنوخي، والرحالة بن جابر بن حسان الوادي، وغيرهم من شيوخ الأندلس وولاة أمرها وكتاب وزرائها.

وبعد سنوات سيصبح لابن خاتمة مكانة علمية مرموقة ليس في ألميرية فقط وإنما في كل الأندلس، فقد أصبح له مجلس علمي في المسجد الأعظم في ألميرية، وكان مجلسا للإقراء، يتم فيه تناول صنوف الأدب واللغة المختلفة، خصوصا وأنه كان شاعرا وألف الكثير من الدواوين.

نال ابن خاتمة الأنصاري احترام عامة أهل ألميرية ونخبتها لما أظهر من جزالة علم، ووافر اطلاع، وحسن لغة، فأصبح يقوم بمهمة كتابة العقود المهمة للإمارة، ويكتب عن الولاة في بلده، وكان دائما ضيف الشرف على عاصمة الأندلس غرناطة، لملاقاة أميرها في قصر الحمراء، فعقد صداقات مع علماء غرناطة ووزرائها.

ألف العديد من الكتب في الأدب والشعر والطب، ومنها “مزية آلميرية على غيرها من البلاد الأندلسية”، و”إلحاق العقل بالحس في الفرق بين الجنس وعلم الجنس”، و”رائق التحلية في دقائق التورية”، و”ريحانة من أدواح ونسمة من أرواح”، وهو ديوان شعري، ثم كتابه “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”، الذي ألفه بعد ظهور الطاعون في موطنه ألميرية، وما أحدثه من مقتلة عظيمة في صفوف الناس، فما حكاية هذا الطاعون.

 

الطاعون القادم من آسيا

في كتاب “المغرب الإسلامي في مواجهة الطاعون: الطاعون الأعظم والطواعين التي تلت القرنين 8-9 هجرية” لأحمد السعداوي، يسرد العديد من المصادر التاريخية والمخطوطات التي تؤكد أن هذا الطاعون كان مصدره آسيا الوسطى، التي كانت تعرف ظهور الكثير من الأوبئة، ومنها انتشر الطاعون في الصين والهند، ثم انتقل نحو الشرق المتوسط، وحوض البحر المتوسط.

وكان العلامة ابن خاتمة الأنصاري أول من استتبع مسار الطاعون، فأكد أن أحد التجار القادمين من سمرقند، أخبره أن الطاعون قد ظهر في تلك المناطق ومنها انتقل إلى الصين وفارس والعراق والأراضي التركية، وهو ما يؤكده حتى ابن الخطيب بقوله “إن قيل ما عندكم في أصل هذا الوباء ومنذ كم ظهر في الأرض، قلنا هذا الواقع ابتدأ بأرض الصين في حدود عام أربع وثلاثين وسبع مائة، وتحدث بذلك غير واحد من أولى الرحلة البعيدة والجولان كالشيخ القاضي الحاج أبي عبد الله ابن بطوطة”.

وقد وصل الطاعون بلاد المغرب والأندلس عن طريق السفن القادمة من الشام ومصر وإيطاليا في عام 748 هجرية، وكان شديد الفتك بالأرواح، ففي تونس على سبيل كان الطاعون يخطف حياة ألف شخص كل يوم. كما أن الجيش المريني الذي انتقل من تونس إلى فاس ساهم في نقل الطاعون، وذكر الرحالة الشهير ابن بطوطة أن والدته ماتت بسبب هذا الطاعون في مدينة تازا شرق المغرب.

ويؤكد ابن خلدون أن الطاعون وصل الأندلس سنة 751 حيث تسبب في هلاك عدد كبير من جيش ألفونسو ملك قشتالة الذي كان يحاصر المسلمين في جبل طارق.

ولتقريب الصورة عن قوة هذا الطاعون، وما خلّفه من خسائر بشرية، فإن ابن خلدون يؤكد أنه فقد أمه وأباه وعددا من أساتذته بسبب هذا الوباء، بل إن مصادر أخرى تتحدث عن أنه أهلك نصف ساكنة بعض المناطق أو ثلثها، ويتحدث ابن الخطيب عن بلوغه نسبة السبعين في المائة في بعض مناطق الأندلس.

وفي كتاب “السلوك لمعرفة دول الملوك” يصف العلامة المقريزي نتائج الطاعون فيقول “وعم الموتان أرض إفريقية بأسرها، جبالها وصحاريها، ومدنها جافت من الموت وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها”.

أما ابن خلدون فيؤرخ لهذا الطاعون فيقول “ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي حاف بالأمم وذهب بأجلّ الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران، وانتقض عمران الأرض بانتفاص البشر فخربت الأمصار والمصانع وضعفت الدول والقبائل وتبدلت المساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب”.

ابن خاتمة فصل في كتابه الأعراض التي تصيب مريض الطاعون كالبثور التي تملأ الجسم

 

طبيب الأندلس يواجه الطاعون

صدرت الكثير من الكتب حول الطاعون من علماء مسلمين، لكن وإلى حدود القرن السابع هجري كانت الكتب يغلب عليها الطابع الفقهي أكثر من كونها تتحدث بلغة طبية، أما أوروبا التي كانت تئن تحت وطأة الطاعون فكانت تفسر ما يحدث بأنه عقاب من السماء أو عمل شيطاني.

وسينتظر العالم لقرون، حتى يبدع علماء الأندلس كتبا طبية تفسر أسباب تفشي الطاعون وأعراضه وطرق الوقاية منه، حيث تتبع ابن خاتمة عددا من حالات الإصابة بالطاعون ودرسها، فألف كتابه الشهير “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”.

حيث يتحدث ابن خاتمة عن أعراض الطاعون، وهي الحمى، والإعياء، وعرق مصحوب بقلق ورعشة، والقيء والغثيان، وخفقان القلب الشديد، كما أن الدمّل هي الأخرى من العلامات المميزة للطاعون، ويؤكد الطبيب الأندلسي أنها تظهر “مع كل طي في الجسم تحت الإبط وخلف الأذنين وربما عمت البدن وتنمو هذه الدمل بنمو الحمى والرعشة”.

ويتحدث أيضا عن علامات استحكام الطاعون من صاحبه، وهي النزيف ونفث الدم، وتبول الدم، وذكر أن هذه العلامات هي الدالة على أن صاحبها في المراحل المتأخرة وبأنه هالك لا محالة.

ويضيف أيضا من العلامات الشائعة ارتفاع نبض القلب والحمى المصحوبة بالتشنج والإحساس بالبرودة في الأطراف واسوداد اللسان وانتفاخ اللثة.

وكان ابن خاتمة يسعف المرضى والمصابين، ويراقب تقلب أحوالهم والأعراض التي تظهر عليهم، وغرضه الوصول لفهم كيفية انتشار الوباء، وما هي أسباب تفشيه وكيف يمكن الحد من انتشار العدوى، واعتمد ابن الخاتمة على كل مشاهداته في كتابة نظريته العلمية عن الطاعون القاتل وفهم سلوكه وكيف ينتشر، ما جعله أول من يؤلف نظرية علمية وطبية في الطاعون، وهو ما يفسر انتشاره الكتاب بشكل كبير في كل أوروبا.

ويعرف ابن خاتمة الطاعون فيقول “إنه حمى خبيثة دائمة عن سوء مزاج قلبي بسبب تغيير الهواء عن حالته الطبيعية إلى الحرارة والرطوبة، مهلكة في الغالب، يتبعها كرب وعرق غير عام، لا يعقب راحة ولا ترتفع عقبه حرارة، وقد يوجد لها فتور في اليوم التالي واضطراب في عامَّة الأوقات ثم تتزايد من بعد، وقد يتبعها تشنُّجٌ وبردٌ في الأطراف، وقيءٌ مراريّ سمج متواتر، وعطش، واختلاف سَحْج على ألوان، أو ثقل في الصدر وضيق في التنفس، ونفث في الدم، أو نخس في أحد الجانبين أو تحت النهدين مع التهاب، وعطش شديد، وسعال، وسواد في اللسان أو تورم في الحلق، واختناق مع امتناع الابتلاع أو عُسره، أو وجع في الرأس، أو سَدَر ودوار، وغثيان، وانطلاق فضول سمجة، وقد تتداخل بعض هذه الأعراض، وقد يكون ذلك مع نتوء عقد وطواعين تحت الإبط أو في الأرْبيَّتَيْن أو خلف الأذنين، أو فيما يلي هذه المواضع بوجعٍ متقدِّم في الموضع أو دونه، وقد تحدث قروح سود في مواضع الجسد وأكثر ذلك في الظهر والعنق، وقد تحدث في الأطراف”.

ابن خاتمة ليس طبيبا فحسب، بل هو أديب وشاعر وكاتب كذلك

 

الأندلس.. منارة الطب

حسم ابن خاتمة أيضا في مسألة مهمة كانت مثار نقاش طويل، وهي التأكيد أن الطاعون مرض معد، وهو ما أيده فيه صديقه ابن الخطيب، وتحدث ابن خاتمة حينها عن المناعة وإن بشكل آخر عندما وصفها بالاستعداد، وقال إن بعض المخالطين لمريض الطاعون قد لا يصابون بالطاعون لعدم “استعداد” جسمهم على استقبال العدوى، وهو ما نسميه في أيامنا بمناعة الجسم.

كما شدد ابن خاتمة على أن الطاعون مرض معد، وما يتطلبه ذلك من عزل للمريض وعدم مخالطته، ففي السابق كان السائد أن الطاعون غير معدي، وهو ما كان يفضي لتفشيه بشكل أكبر لكثرة مخالطي المريض، وبإثبات الطبيب الأندلسي بأن الطاعون يعدي ودحضه للكثير من النظريات التي تقول إنه لا ينتقل من إنسان لإنسان، ساهم في تقليل عدد المرضى، وقدم ابن خاتمة مثالا برجال كانوا يتاجرون بأمتعة قتلى الطاعون، فماتت الأغلبية منهم ولم يسلم منهم إلا عدد قليل، وهو ما يؤكد أن الطاعون ينتقل بين البشر.

وساهم ابن خاتمة أيضا في تغيير الظروف التي كان يعالج فيها مرضى الطاعون عندما أكد أنه يجب الحرص على تهوية مكان المريض، والحرص عل إبعاده عن مكان تنفس الأخرين حتى لا تنتقل العدوى، ففي السابق كان المرضى يوضعون في أماكن مغلقة ما يجعل أي شخص يدخل على المريض معرضا للعدوى.

لقد كان كتاب ابن خاتمة أول كتاب طبي يقدم صورة شاملة عن الطاعون وعن أعراضه وكيفية الحد من انتشاره، وعن البيئة التي يجب توفيرها للمريض وبالفعل سيتلقفه عدد من الأوروبيين للاستفادة منه في محاربة الطاعون.

وكانت الأندلس في عصره، منارة طبية، ساهمت بشكل كبير في الحد من انتشار الطاعون، بظهور ثلاث رسائل تعالج الطاعون بطريقة طبية، أولها كانت لابن خاتمة، ثم كتاب لابن الخطيب الشاعر والطبيب الذي مات مقتولا في السجن فألف رسالة بعنوان “مقنعة السائل عن المرض الهائل”، والثالث كتاب محمد بن علي اللخمي الشقوري بعنوان “تحقيق النبأ في أمر الوباء”.

 


إعلان