“12 خطوة للأمام”.. حبل النجاة من مستنقع الإدمان

خاص-الوثائقية

من المرعب حقا وقوع المرء في غياهب الإدمان، إنه انجراف نحو هاوية الانحراف، قد يؤدي بصاحبه إلى اقتراف أي ذنب أو جريمة للحصول على نشوة توصله حدود الموت أو الانتحار، لكن داخل كل نفق مظلم هناك شعاع نور وبارقة أمل.

هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “12 خطوة للأمام” يعرض لنا رحلة علاج لشبان عانوا الإدمان، فنتعرف على أسبابه ونتائجه وطرق علاجه من خلال قصصهم، وقد ساعدهم في ذلك الدكتور المصري إيهاب الخراط أخصائي الطب النفسي.

 

مشروع مركز العلاج.. حلم يتحقق

لطالما كان حلم الدكتور إيهاب الخراط إنشاء مركز لعلاج المدمنين، فقد كان مهتما بفكرة المجتمع العلاجي التي تعتمد على حل المشكلة بشكل جماعي تفاعلي يساند الأفراد داخله بعضهم، وقد سافر الدكتور إلى بريطانيا والولايات المتحدة وزار الأماكن المشابهة، وفي إنجلترا دخل مصحة ليس كمدمن ولكن أراد أن يعرف كيف تدار الأمور عن كثب.

تعرف د. إيهاب هناك على البرامج، وكيف يضبط الوقت وساعات النوم والاستيقاظ وطريقة التعامل مع المدمن والمقاربات والمقابلات الدافعية، وهي كيفية رفع الرغبة والدافعية للمريض من خلال جلسات فردية وأخرى جماعية.

كان حلم د. إيهاب أن يجد مكانا مناسبا ليقيم مشروعه، وبالمصادفة كانت أخوات رجل الأعمال بهجت ناصيف يُردن التبرع بأرض صحراوية، فذهبن لقسيس كنيستهن وأخبرنه بذلك فحدثهن عن المشروع فتبرعوا بتلك الأرض ليقام عليها المصح، وكان ذلك في عام 1994، وبعد ثلاثة أعوام جمع مبلغ للبدء في البناء، وقام المدمنون المتعافون باستصلاح الأرض وزراعة الزيتون.

“لست ابني ولا أنا أمك”.. عبد الإله المغربي

عبد الإله شاب مغربي وصل إلى حالة اليأس بعد أن تركته عائلته بسبب إدمانه، بدأ مشواره مع الإدمان في سن المراهقة بشرب الخمر، وكان يتدرج في الشرب إلى أن وصل به الأمر لمعاقرته كل يوم، وكانت لديه حالة إنكار للمشكلة بسبب معاقرة الخمر. يقول عبد الإله في يوم من الأيام انقلبت حياتي رأسا على عقب حين قالت والدتي “أنت لست ابني ولا أنا أمك حتى تقلع عن الشرب”.

عبد الإله جاء من المغرب إلى مصر ليلتحق ببرنامج “الديتوكس” أو أعراض الانسحاب

 

بعد ذلك انفصل عن أسرته مدة عام كامل إلى أن التقى بهم في أحد المقاهي، إذ يقول: هذه الحادثة أثرت في نفسي وجعلتني أفيق مما أنا فيه.

وكان لرحلة علاجه قصة، يرويها بنفسه: أختي الكبرى حقوقية، وفي أحد المؤتمرات خارج المغرب التقت بالدكتور إيهاب وسردت عليه حالتي، فطلب منها إرسالي إلى مصر، أقنعني أهلي أن أذهب كرحلة، وإن لم يعجبني الأمر فبإمكاني أن أعود، وقد وافقت لأني كنت أريد الهروب، لكني لم أكن أعلم سبب هذا الهروب، وعند وصولي إلى مصر بدأت ما يعرف بـ”الديتوكس” أو أعراض الانسحاب.

يقول عبد الإله: اكتشفت هول ما كنت فيه، لأن أعراض الانسحاب عند مدمن الكحول من أصعب أعراض الانسحاب في المدمنات كلها، كان هذا الأسبوع الأصعب في حياتي.

جلطة الأب الدماغية.. نهاية طريق الإدمان

أما عماد، فكان يعيش مع الحشيش كأنه منعزل عن العالم، وبعدها جرب البرشام وشعر أنه يمده بالطاقة ويشعره بالنشوة، لكنه كان يتعاطى “الترامادول” الذي يزيد في كهرباء الجسم، ووقع طريح الأرض أكثر من مرة، فنصحه أصدقائه باستخدام “الإبتريل” لأنه يعادل الكهرباء، ووجده يوصله إلى مزاج ونشوة من نوع آخر، فأصبح يتعاطى الحشيش والتريمادول الإبتريل، واستمر على ذلك وقتا طويلا.

عندما بدأ جسمه بالذبول والتغير، أدرك أهله إدمانه، وبدأت والدته تجد البرشام في غرفته وفي السيارة، وكل مرة تكتشف مكانا جديدا يخبئ فيه البرشام، فحاولت بشتى الطرق منعه كحرمانه من المصروف، إلا أنه كان يجده بطرق أخرى.

عماد، تعاطى “التريمادول” الذي يزيد في كهرباء الجسم ثم “الإبتريل” الذي يعادلها، فما الفائدة؟

 

يقول عماد: أنهيت دراستي الجامعية وعملت في شركة اتصالات كبيرة، وكنت أحب عملي وكان يحللون لنا الدم ليثبتوا خلوه من المخدرات، وطلبوا مني يوما عينة فجائية، فلم يكن لدي حل سوى ترك العمل والهرب، بعد ذلك صرفت ما ادخرته وصرت أسرق من أمي وأبي وكل شيء يأتي أمامي من أجل المخدرات.

وفي إحدى المرات ذهب عماد للعمل وهو ثمل، ولم يكن قادرا على التركيز، وفي الطريق كانت هناك بقعة زيت على الأرض فانزلقت به السيارة واصطدمت بحائط، فاتصل على الفور بوالده لينجده، ولما وصل الأب ورآه على هذه الحالة أصيب بجلطة دماغية أثرت عليه بقية حياته، وكان هذا يوما فاصلا بالنسبة لعماد.

يقول: بعدها بدأت بأعراض الانسحاب لمدة أسبوع وكان يرافقني صديق لي، وتوقعت أن أشفى خلال شهر وأخرج، لأني لم يعجبني المصح، فأنا معتاد على جو أقل مستوى من التهذيب، وهناك قوانين صارمة وأنا معتاد أن أكسر القوانين، وعندما جاء أهلي لزيارتي، طلبت منهم الخروج لأن المكان لا يعجبني، فوافقوا شرط أن أذهب إلى “المميز” وهو برنامج علاجي آخر أكثر صرامة، فرضيت بالواقع وبقيت في هذا المصح.

قصة الحب الفاشلة.. طريق الإدمان والعنف

تأتي قصة هشام في ذات السياق، فقد بدأ رحلته مع الإدمان وعمره 19 عاما حين كان يشتغل لحاما وعليه ضغط كبير في العمل، وكان المخدر يزيده طاقة فلا يشعر بالتعب ويحس بأنه محلق.

هشام أحب فتاة لكنه لم يستطع الزواج منها، وحين تزوجت غيره حاول الانتحار بشرب 100 حبة

 

أصبحت عائلته مدمرة لأنه كان عنيفا، وكان يعتبر البيت كالإسطبل ويذهب إليه فقط لتغيير ملابسه. يقول هشام: كنت لا أقبل النصيحة، ووقع خلاف بيني وبين والدي لمدة عام، أنا من منطقة شعبية ومن السهل الحصول على المخدرات، في بداية الأمر كنت أحب فتاة طلقتها من زوجها ولم أستطع أن أتزوجها، وتزوجها غيري، وفي يوم زفافها قررت أن أفسد الحفل، لكن حبي لها منعني، فشربت مئة قرص من الحبوب كنت رافضا للحياة، بعدها أخذني أهلي لمعهد السموم، لكن البرشام تحلل في جسمي ولم يقبل الطبيب استقبالي، وطلب من والدي أن يربطني في السرير ويعطيني العصائر، وفعلا قام والدي بما طلبه الطبيب، استنجدت بأختي الصغرى التي كنت أكن لها الحب، وعندما فكت قيدي قمت بضربها، وذهبت للحارة وعملت الكثير من المشاكل هناك.

كانت نقطة التحول عند هشام عندما مات صديقه بجرعة هيروين زائدة أمام عينيه، فقد اسود أسفل عينيه وأصبح شكله مخيفا، وقام بتخريب كل شيء بالبيت، لكن نظرة ابنه الذي أصبح في الثانوية العامة، والتي كانت تقول له ماذا تفعل، أشعرته بالخجل من نفسه، حينها دخل “الديتكوس” لمدة خمسة أيام، ولم يكن يعرف وقتها شيئا، لكن إصراره على التعافي كان سبيله للوصول.

حب يقود إلى الشفاء.. رقي الأساليب العائلية

ترك عاطف من حوله واتجه إلى المخدرات وأصبح شابا عنيفا حتى لا يوقفه أحد، وبدأ مشواره مع صحبة فاسدة كانوا يريدون الخروج مع فتيات، وقال له أحدهم إن عليه أن يأخذ حبتين حتى يستطيع التحدث أمامهن، لكن ما حدث كان العكس، فصار مشدودا يريد أن يستفرغ ولم يستطع الكلام، ومع ذلك أصبح مدمنا يذهب بنفسه لشراء المخدر.

أهل عاطف تعاملوا مع ابنهم برقي حتى يقلع عن الإدمان إلى أن نجحوا أخيرا

 

اكتشف أهله تعاطيه من شكله ومن أخباره السيئة التي أصبحت تنتشر هنا وهناك من نصب وسرقة، يقول عاطف: كان أهلي يحاولون مساعدتي عن طريق ذكر بعض القصص عن مضار الإدمان لأنهم لا يريدون أن يجرحوني، فكان أسلوبهم راقيا ولم يطردوني من المنزل.

تعاطى عاطف جرعات زائدة أكثر من مرة، وكان أهله في كل مرة ينقذونه، وفي إحدى المرات بلع عشرة أشرطة، لكنه لم يكن ينوي الانتحار، بل كان يريد الوصول إلى النشوة، ولم يكن يملك النقود فاشترى نوعية رديئة. لقد خسر كل شيء، حتى أنه كان يبيع ملابسه لأجل التعاطي. يقول د. ايهاب إنه تعرف على عاطف في 1995 وهو من أوائل الناس الذين التحقوا بمعهده، لكنه تعرض لانتكاسة ولم يكمل البرنامج.

بعد ذلك دخل في غيبوبة بعد جرعة زائدة، ونقلوه إلى المستشفى. يقول عاطف: وقتها وجدت أهلي على رأسي، وكانت أختي تبكي فأثر بكاءها علي، وعندما عدت إلى البيت لم يتركني أهلي طوال الليل، وفي الصباح ذهبنا إلى المصح حيث وجدت هناك الحب والدعم والاهتمام الذي أوصلني إلى الشفاء.

“بيت الوادي”.. إنقاذ المدمنين من الانتحار

باع الشاب كريم كل شيء في محله وطلق زوجته، وأوصل والدته لوضع صعب للغاية، فبدأ مسيرته مع الإدمان يوم أعطاه صديقه حبة أشعرته بالنشوة والسعادة، وعندما أراد حبة أخرى حقنه صديقه بإبرة، فأعجبه ذلك كثيرا ووجد نفسه مدمنا.

وفي يوم من الأيام، كان يقود سيارته وهو في طريقه للجبل لأخذ المخدر لكنه تعرض لحادث خطير، وانقلبت سيارته ومات صديقه بجانبه، وعندما ذهب إلى المستشفى أخبره الطبيب أنه سيبقى على عكاز مدة ستة أشهر، لكن الذي كان يفكر فيه هو كيف سيحصل على البودرة فقط. وقد التحق كريم ببرنامج د. إيهاب، ووجد المجتمع حوله جميلا، بعكس ما يظنه البعض بأنهم مدمنون متعافون فيرفضونهم، لكني أصبحت مدربا لمدمنين متعافين، وأحبني الناس وكانوا يدعون لي.

لم يمنع حادث أقعد “كريم” ستة أشهر وأنهى حياة صديقه أن يكون أول همه البحث عن المخدرات

 

أما جمال وجيه فهو مدمن متعاف أصبح متطوعا في البرنامج، ويقول: إن المخدرات الكيميائية توصلك لدرجة كبيرة من النشوة والسعادة ولكن عندما تصل النهاية يبدأ المنحنى بالهبوط بشكل عكسي، وتصبح مكتئبا فتأخذها لتصل من الكآبة للوضع الطبيعي.

في البداية تعاطيت البانغو والحشيش والخمور، وفي 1997 تعرفت على مجموعة الحرية بقيادة د. إيهاب وأخبرته عن معاناتي حتى وصولي لدرجة الانتحار، فأخذني إلى مشروعه “بيت الوادي” في وادي النطرون الذي كان لا يزال حديثا، وبقيت في مرحلة “الديتوكس” عشرة أيام.

مبادئ التربية.. خطوات البرنامج الـ12

يقول د. إيهاب: برنامج 12 خطوة برنامج دولي بدأ في عام 1935، وعمل مع مدمني الكحول ثم مدمني المخدرات باختلافهم، ولهم زمالات في كل أنواع الإدمان السلوكي كإدمان الجنس والقمار والأكل والدخان وهي تعتمد بالأساس على الزمالات.

تبدأ الخطوة الأولى بالابتعاد عن المتعاطين والأماكن التي يجري فيها التعاطي وهي مرحلة التنظيف، وقتها قد يشعر المرء بالفراغ، وفي المرحلة الثانية يبدأ ملء الفراغ بأشخاص آخرين متعافين، والخطوة الثالثة هي التقرب من الله واتخاذ القرارات والتوكل عليه والرضى بالنتيجة.

ويرى عبد الإله أنه في المرحلة الثانية لم يعد ذاك الشخص الذي يدّعي معرفته بكل شيء، بينما يرى كريم أن الخطوة الثالثة في التقرب إلى الله هي التي أثرت فيه وأن الله لا يعطينا إلا الخير لكن نحتاج لبعض المجهود “وهذا ما أراحني نفسيا ومعنويا”.

يقول عبد الإله “عندما وصلت للروحانيات، بدأت الخطوة الرابعة وهي كتابة الأخطاء منذ الطفولة، وفي المرحلة الخامسة شاركت أشخاصا متعافين في كشف عيوبي التي كتبتها وتكون أفعالنا نتيجة لهذه العيوب، وهكذا لكي لا تتكرر نفس الأخطاء دعوت الله أن يبعد عني النواقص”. ويرى عماد أنه ببعض المجهود قد يتغلب على تلك العيوب.

الخطوات الني ينتهجها الدكتور إيهاب الخراط في مركزه هي جزء من منهج عالمي متبع منذ 1935

 

في المرحلة الثامنة والتاسعة وهما مرحلتان يخشاهما كثيرون، إذ يقوم المتعافي بعمل قائمة بأسماء الأشخاص الذين تعرضوا للإيذاء بسببه وطريقة تعويضهم.

يقول كريم “إن أول شخص على قائمتي كانت أمي وطلبت مسامحتها، وأخبرتها أنني سأعيد لها النقود وأعوضها، فسامحتني وقالت لا أريد منك إلا أن تعود للحياة ولا تعود للتعاطي مرة أخرى”. أما عبد الإله فقد وجد أن أهله سامحوه على الضرر النفسي والاجتماعي الذي سببه لهم.

أما الخطوة العاشرة، فهي عبارة عن 45 سؤالا قبل النوم يجيب عليها المتعافي بنعم أو لا، ويقع الجرد الذي يستر مدة شهر، أو حتى يستقر المتعافي داخليا وروحيا.

والخطوة الحادية عشرة هي التأمل مع الله تعالى وماذا يريد من الإنسان. أما الخطوة الأخيرة فهي نقل رسالة لشخص يريد الإقلاع عن الإدمان، ويجب أن يكون عملا تطوعيا بدون مقابل أو هدف.

يرى هشام أن الـ12 خطوة هي مبادئ عامة تربّى عليها، ومنها الصدق والأمانة وعدم الكذب، وهي موجودة بدواخلنا لكن نغفل عنها.

علاج المدمن للمدمن.. لا يفل الحديد إلا الحديد

عمل عاطف متطوعا في نفس المصح بعدما عرض عليه جمال ذلك، ففكرة معالجة الأصحاء للمدمنين ليست ناجحة، لذلك يُفضل أن يساعدهم في ذاك متعافون، فهم أقدر على التعاطف مع المدمن، والنتائج تكون أفضل.

غدا عاطف من أقوى الإداريين في المركز، وبعد 17 عاما أصبح يملك كل شيء لم يكن قادرا على امتلاكه في الماضي، فتزوج وصار له أبناء وامتلك بيتا وسيارة، وكذلك فعل عماد الذي تطوع للعمل لمساعدة المدمنين، وهذا جعله يشعر أنه يساعد نفسه بنفس القدر، وقد تزوج وله طفل، أما كريم فيجد في العمل التطوعي إضافة له وشيئا يملؤه سعادة.

ديتوكس المدمنين مجتمع خاص بكل مقاييسه لا يسبر غوره إلا خبير قادر على التعامل معهم

 

كان حلم عبد الإله أن ينشئ مصحا في المغرب على غرار مشروع د. إيهاب، لكنه لا يملك النقود، ورغم أنه أصبح مدربا دوليا لمعالجة السلوكيات الخاطئة، فإن القانون المغربي لا يسمح له بذلك.

وفي الختام، يقول د. إيهاب: هناك مدربون كثر من مصر معترف بهم دوليا ولا يعترف بهم محليا، وهناك مدربون من دول عربية يأتون للتطوع في مصر.

ويُعتقد أن في مصر نحو ثلاثة مليون مدمن، وتقول الدراسات إن 10% منهم فقط هم من يطلبون المساعدة، وهذا يعني أنه في كل ثلاث سنين يوجد 300 ألف مريض بحاجة لـ100 ألف سرير لإعادة تأهيلهم، ولكن مع ذلك فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، ورحلة العلاج من الإدمان تبدأ بالإرادة والإصرار والسير نحو الهدف دون النظر إلى الوراء.


إعلان