يهود يثرب.. الغدر الأول في تاريخ الإسلام

بينما يواجه المسلمون تهديدا مباشرا لمدينة القدس التي هي من أكبر رموزهم الدينية ومعها كامل فلسطين، وبينما تحاول إسرائيل -التي تعرّف نفسها بكونها دولة اليهود في تناقض صارخ مع ادعائها تمثيل الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط- السطو على الحقوق الفلسطينية والإسلامية بل وحتى المسيحية؛ تعود إلى الذاكرة الجماعية للمسلمين إلى واحدة من أخطر المحن التي مرّت عليهم، فاليهود الذين وجدهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مقيمين في المدينة المنورة بعد هجرته إليها، أقر لهم حقوقهم التي وجدها قائمة، واحترم تحالفاتهم القبلية المحلية وأدمجهم في منظومته السياسية الجديدة، لكنهم تحوّلوا إلى مصدر للغدر وكادوا يصبحون خنجرا يطعن في ظهر الدعوة الإسلامية الفتيّة حينها ويصيبها في مقتل.

يعلم جميع الدارسين للتاريخ الإسلامي ما دار بين المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة المنورة، وأن قبيلتي بني النضير وبني قينقاع جرى نفيهما خارج المدينة، بينما أعمل حكم السيف في قبيلة بني قريظة.

لكن الموضوع يظل رغم ذلك ملفوفا بثوب من التحفظ والغموض، خاصة أن بعض المستشرقين والمنظرين لموقف العداء الثقافي والحضاري تجاه الإسلام والمسلمين يصوّرون هذه القصة كما لو كانت بقعة سوداء في التاريخ الإسلامي، أو عملية تطهير أو إبادة تعرّض لها يهود المدينة المنورة، بينما يكفي تقليب معطيات التاريخ الموثوق، للوقوف على أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تعامل مع يهود المدينة المنورة بما يفوق المواثيق والعهود المعمول بها في العصر الحديث، من حيث احترام الخصوصيات العقدية والثقافية، بل وعدم فرض أي جزية أو تمييز ضد يهود “يثرب”.

وفي مقابل ذلك، تجمع المصادر على أن يهود المدينة المنورة سارعوا إلى نقض العهود وتدبير المؤامرات والمكائد، مما دفع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ قرار الإجلاء من الديار في حق من أمعنوا في التشويش على دعوته وتأليب الناس عليه، بل ومحاولة قتله، كما كان الحال مع بني النضير. أما حكم السيف فلم يصدر إلا عندما وجد المسلمون أنفسهم أمام “خيانة عظمى” من جانب بني قريظة.

يهود المدينة.. عرب لم تنبتهم شجرة أنساب العرب

يختلف الباحثون حول أصل يهود المدينة، حيث ذهب جمهور المـؤرخين إلى أنهم من بني إسرائيل، وأنهم نزحوا إلى المدينة من أقاليم أخرى، بينما يذهب فريـق آخر إلى أنهم عرب متهودون[1].

مواطن قبائل اليهود في يثرب قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها وتغيير اسمها إلى المدينة المنورة

أصحاب الرأي الأول يسندون موقفهم ببعض ما ورد في القرآن الكريم، مثل الآية القرآنية من سورة البقرة التي تقول: “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ”[2].

فهذا الخطاب الإلهي بصيغة المخاطب يعني بالنسبة للبعض أن الذكر الحكيم يتوجه إلى أناس حاضرين في لحظة ومجال نزول الوحي، وهو تفسير تؤكده آيات قرآنية أخرى، منها قوله تعالى: “سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”[3].

 يهود يثرب في رأي المستشرقين

ويزيد من تأكيد هذا التفسير ما ورد في القرآن الكريم من ربط بين اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبين أخلاق أسلافهم من بني إسرائيل وما كانوا عليه من الكفر والتكذيب، مثل قوله تعالى: “يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ”[4].

وهناك دليل آخر يثبت أن يهود المدينة المنورة ينحدرون من سلالة بني إسرائيل، وهو أن النسابين العرب لم يذكروا أيا من قبائل اليهود في المدينة أو غيرها مـن أقـاليم الحجـاز ضمن الأنساب العربية[5].

الملك تُبّع يكتب وثيقة سلام مع يهود المدينة الذين قتلوا ابنه بعد أن بشروه بموعد ظهور النبي العربي

أما الذين يقولون بأن يهود المدينة ينحدرون من أصول عربية، فيبررون ذلك بالقول إن بني النضير وبني قريظة هما فرعان مـن قبيلـة جذام العربية، وأنهم تهودوا ونسبوا للأماكن التي نزلوا فيها، حيث نُسبت قريظة إلى جبل كان هناك، كما نُسب بنو النضير أيضا إلى جبل عرف بهذا الاسم.

وأما بنو قينقاع فإن بعض المستشرقين يـرجحون انحدارهم من أصل عربي، كما يستند مؤيدو فكرة الأصل العربي ليهود المدينة إلى الأسماء التي حملها اليهود وتلقبوا بها، وهي أسماء عربية في غالبيتها مثل حُيي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن الربيع وغيرهم.

وهذه الحجج الأخيرة تبدو أضعف من أن تحمل الباحثين على تصديقها، مما يرجح احتمال انحدار جل القبائل اليهودية في الجزيرة العربية من أصول إسرائيلية، حيث توجد دلائل تاريخية على هجرة العديد من بني إسرائيل إلى الجزيرة العربية.

يهود الجزيرة.. هجرات بني إسرائيل التاريخية

يمكن تقسيم الهجرات اليهودية إلى الجزيرة العربية إلى مرحلتين تاريخيتين، الأولى تعود إلى ما قبل ميلاد المسيح، وأما الثانية فبعد الميلاد، فهجرات ما قبل الميلاد تتجسد أساسا في تلك الهجرات التي يحتمل أنها جرت في عهد موسى عليه السلام، حيث تشير بعض الروايات إلى أن موسى عليه السلام حج إلى مكة في أناس من بني إسرائيل، فلما كان انصرافهم منها ومروا على يثرب، قررت طائفة ممن كانوا معه البقاء والإقامة فيهـا[6].

بينما تقول رواية أخرى أقل مصداقية إن موسى وهارون عليهما السلام مرا فـي طريقهمـا إلـى الحـج بالمدينة مستخفيين من اليهود، وأن هارون عليه السلام توفي خلال هذه الرحلة عند جبل أُحـد، فدفنه موسى عليه السلام هناك.

تعود أصول اليهود في المدينة المنورة إلى أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية واليمن وسواهما

وهناك رواية ثالثة تتحدث عن هجرة يفترض أنها تمت بعد السيطرة الآشورية على بلاد الشام، وخاصة بعد محاصرة الملك الآشوري سرجون الثاني (٧٢٢-٧٠٥ ق.م) للسامرة التي كان يسكنها اليهـود حتـى سقطت على يديه سنة ٧٢١ ق.م، فقام بإجلاء اليهود وطردهم عنها، وأحل سكانا من الـدول المجاورة بدلا منهم.

أما الهجرات اليهودية التي تمت بعد الميلاد، فتتسم بوضوح أكثر وبراهين أكبر، وهي هجرات جرت في القرنين الأول والثاني للميلاد، أي في عهد السيطرة الرومانية على فلسطين، حيث كان اليهود ينزحون عن ديارهم بعد قيامهم ببعض الثورات الفاشلة[7].

قبائل يهود يثرب الثلاث الكبرى:

بنو النضير.. أصهار النبي محمد

تنتسب هذه القبيلة –حسب المصادر العربية- إلى هارون بن عمران شقيق موسـى عليهما السلام، ومما يؤكد صحة هذا النسب إرجاع النبي صلى الله عليه وسلم نسب زوجته صفية -وهي من بني النضير- إلى هارون عليه السلام.

يهود يثرب كانت مهنتهم الزراعة والتجارة، وسكنوا أطراف المدينة وعلاليها

وبالرغم من أن بني النضير وبني قريظة كانتا من كبريات القبائل اليهودية في المدينة، وأنهما كانتا تفخران بنسبهما إلى هارون عليه السلام، وتريان أن لهما السيادة والشرف علـى من سواهم من إخوانهم في الدين، إلا أن بني النضير كانوا في الوقت نفسه يرون لأنفـسهم الشرف على بني قريظة، ويبدو أن هذا الشرف والسيادة كانا لبني النضير علـى جميـع القبائل اليهودية في الحجاز بما في ذلك يهود خيبر.

بنو قريظة.. دماء العرب الجذامية

تتفق هذه القبيلة مع بني النضير في انتسابها إلى هارون عليـه الـسلام، وإن كـان البعض يذكر أنها فخذ من قبيلة جذام العربية، وأنها نسبت إلى جبل يقـال لـه قريظة. وتتفق بنو قريظة مع بني النضير في صِلات قربى وثيقة مع يهود خيبر[8].

بنو قينقاع.. آل النبي يوسف الأثرياء

تنتسب قبيلة بني قينقاع -حسب المصادر العربية- إلى نبي الله يوسف عليه السلام، وتقع منازل هذه القبيلة عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية، وهذا يعني أنهم كانوا في وسط المدينة وداخلها، بخلاف بني النضير وبني قريظة الذين سكنوا أطـراف المدينـة وضواحيها.

عاش بنو قينقاع منعزلين عن غيرهم في أحد الأحياء الخاصة بهم، ولم يمارسـوا الزراعة كغيرهم من اليهود لأنهم لم يكونوا يملكون أراضي خاصة بهم، ومع ذلك فقد عرفــوا بالأموال الطائلة لاشتغالهم بالتجارة والصياغة، مما جعلهم أغنى طوائف اليهود بالمدينة[9].

سيادة الأوس والخزرج على اليهود.. حرب الـ120 عاما

بعد وصول الأوس والخزرج إلى المدينة قادمين من اليمن -حيث يرجّح أن ذلك وقع بعد انهيار سدّ مأرب التاريخي الذي تحدّث عنه القرآن الكريم- وجدوا أن اليهود قد سبقوهم إليهـا، وأنهـم غَلبوا عليها وعلى البطون العربية فيها، فكان من الطبيعي أن يقنعوا مـنهم أن يـسمحوا لهـم بالنزول إلى جوارهم والإقامة معهم، فوقع الحلف بين الطرفين، حيث إن اليهود رغبـوا فـي إقامـة الأوس والخزرج إلى جانبهم بالمدينة للاستفادة من قدراتهم وخبراتهم السابقة في الزراعـة فـي مواطنهم باليمن، والاستعانة بهم في الأعمال التجارية، ولإظهار انـدماجهم بـين العـرب، وإضفاء الشرعية على وجودهم وسط هذه البلاد.

كاد عبد الله بن أبي بن سلول أن يصبح ملكا على يثرب لولا الهجرة النبوية المباركة إليها

وتقول بعض المصادر إن الأوس والخزرج عاشوا حياة قاسية بسبب استئثار اليهود بالثروة والسلطان، فكـان الواحد منهم إما أن يعمل أجيرا عند اليهود، وإما أن يعمل لحسابه في الأرض المـوات التي تركها اليهود، وهي أراضٍ لا تنتج الكثير من الغلات.

مع مرور الوقت، استفاد الأوس والخزرج من حلفهم مع اليهود، فازدادت أعـدادهم ونمت ثرواتهم، وأحس اليهود بذلك وأدركوا خطورة الموقف، وخافوا أن تنتقل السيادة على المدينة إلى الأوس والخزرج، فانقلبوا عليهم وقطعوا حلفهم معهم، وساد التوتر والعداوة بـين الفريقين، مما دفع الأوس والخزرج إلى البحث عن حليف من العرب ينصرهم على اليهود، وهو ما أسفر عن تغلّب الأوس والخزرج وإخضاعهم اليهود لسيادتهم، فدخلت بنو قريظة وبنو النضير في حلف الأوس، ودخلت بنو قينقاع في حلف الخـزرج، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الأحلاف ما زالت تحكم العلاقات داخل المدينة بين العرب واليهود.

وما إن انتقلت السيادة على المدينة للأوس والخزرج، حتى تحولـت صـراعاتهم مـع اليهود إلى صراعات داخلية، ووقعت بينهم حروب مـشهورة استمرت أكثر من مائة وعشرين سنة، ولم تتوقف هذه الحروب إلا قبيل الإسـلام بخمـس سنين، وكلها حروب كان لليهود دور أساسي بل ومصلحة في تأجيجها.

أدى هذا كله إلى سعي الطرفين لتحقيق السلام وجمع الكلمة، فاتفقوا على اختيـار أحد أشراف القبيلتين لتتويجه ملكا على المدينة، فوقع اختيارهم على عبد الله بن أبيّ بن سـلول، وهو من قيادات الخزرج، إلا أن ذلك لم يتم بـسبب هجـرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حينذاك، وهو أمر يبدو أنه ترك أثرا في نفـس ابن سلول، وجعله في صفوف المناوئين للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكه، كما أن الهجرة النبوية أنهت الصراع بين الأوس والخزرج وحولتهم إلى إخوة[10].

دستور المدينة.. “هذا كتاب من محمد النبي”

نظم النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته للمدينة العلاقات بين سكانها، وذلـك مـن خلال توقيع كتاب أو ما يعرف في المصادر التاريخية باسم “الصحيفة” أو “الوثيقة”، وقد تـضمنت هذه الصحيفة قواعد العلاقات الداخلية بين المسلمين وعلاقاتهم باليهود والمشركين. وتعتبر بعض المصادر هذه “الصحيفة” بمثابة عهد وميثاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة، وهو ما سينكثون به في وقت لاحق.

تعايشا مع أهل المدينة من يهود ومشركين وضع النبي وثيقة سلام وتعاون تبين حقوق وواجبات سكانها

كانت مدة العهد بين الرسول واليهود غير محددة بوقت، بل تُرك الأمر مطلقا مـا داموا ملتزمين بشروط هذا العهد. وبالرغم من أن الوثيقة التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم لم تشر صـراحة إلـى القبائل اليهودية الكبرى الثلاث إلا أنها أشارت إليهم بالولاء إلى القبائل العربية التي كانوا في حلف معها قبل الهجرة.

وقد نظمت الوثيقة علاقة المسلمين باليهود من خلال المحاور الآتية[11]:

1.    إقرار مبدأ الحرية الدينية “فلليهود دينهم وللمسلمين دينهم، أموالهم وأنفـسهم إلا مـن ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يُهلك) إلا نفسه وأهل بيته”.

2.    المساواة بين المسلمين واليهود في الحقوق والواجبات “وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم”.

3.    الاستقلال الاقتصادي حيث تنفق كل طائفة من المسلمين أو اليهود على أنفـسهم “وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم”.

4.    التزام اليهود بالدفاع عن المدينة إلى جانـب المـسلمين مـن أي اعتـداء خـارجي والمشاركة في تحمل نفقات الحرب.

5.    التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين القائم على أساس النصح والتناصح والتعـاون فيما بينهم “وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يـأثم امـرؤ بحليفـه، وإن النصر للمظلوم”.

6.    وحدانية السلطة في المدينة باعتبار النبي صلى عليه وسلم هو المرجع لأي خلاف في المدينة “وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مرده إلـى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

“يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش”

بعد انقيادهم في البداية بدأ اليهود تدريجيا بالتحرك ضد الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة دعوته، إذ لم يلتزموا ببنود الوثيقة، وشرعوا في التشكيك في نبوته وأكثروا من الأسئلة لإحراجه، فكان أول نقضهم للعهد لما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر، يوم 17 رمضان من العام الثاني للهجرة، فقطعت اليهود ما كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من مواثيق.

المسلمون يحاصرون بني النضير لإخراجهم من المدينة بعد نقضهم عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم

وتشير المصادر إلى أن حادثة شهيرة لاعتداء يهود بني قينقاع على امرأة مسلمة، هو أحد الأسباب المباشرة في قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه القبيلة، حيث قال ابن هشام في كتابه حول السيرة النبوية: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة مسلمة قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ لها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع[12].

وحين بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما وقع للمرأة المسلمة دعا رؤساء بني قينقاع وحذرهم من البغي ونقض العهود، فردوا عليه بطريقة غليظة، حيث خاطبوه قائلين: “يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت إنّا نحن الناس”، فأنزل الله تعالى قوله في الآية 58 من سورة الأنفال: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ”. فخرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم عدة أيام إلى أن أعلنوا استسلامهم، فقام بإجلائهم عن ديارهم في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة[13].

بنو النضير.. محاولة اغتيال رسول الله

يرى المؤرخون أن غزوة بني النضير كانت بعد مرور ستة أشهر من موقعة بدر، وإن كان هناك من يجعلها في السنة الرابعة من الهجرة، أي بعد معركة أحد، أما سبب إجلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لبني النضير، فقد ذكر فيه المؤرخون روايات عدة منها أن قريشا كاتبت اليهود تحرضهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستجاب بنو النضير لهم وعزموا على الغدر، وتواعدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، واقترح اليهود أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثة من أصحابه، بثلاثة من أحبارهم، وأرادوا الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم وقتله، فأرسلت امرأة من بني النضير خبرهم إلى رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته ما أرادت بنو النضير من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الرجل حتى أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة[14].

حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير الذين نقضوا العهد وحاولوا قتله

وتشير بعض المصادر الأخرى إلى أن سبب لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومرافقيه بسادة بني النضير هو موافقتهم على مساعدته في دفع دية رجل قتله رجل مسلم عن طريق الخطأ، وتحويلهم موعد اللقاء إلى فخ لقتله.

فبعدما أعربوا عن موافقتهم على المشاركة في دفع دية لرجل أو لرجلين من بني عامر قتلهما أحد الصحابة خطأ، وكان بنو عامر هؤلاء حلفاء لبني النضير؛ ذهب النبي للقاء بني النضير، فتآمروا عليه كي يقتلوه بإلقاء صخرة فوق رأسه، فأتاه الوحي وأخبره بالمؤامرة، ليقرر إثر ذلك إجلاءهم عن ديارهم، فمنهم من قصد بلاد الشام، ومنهم من يمم وجهه شطر خيبر[15].

سعد بن معاذ.. حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات

حين عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من معركة الخندق أتاه جبريل حاملا أمر التوجه إلى بني قريظة، وما إن أقبل جيش الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدأ بنو قريظة في رشقهم بالنبال والسهام، ليستمر الحصار عليهم قرابة 25 يوما كما تقول الروايات التاريخية.

وبعدما طال بهم الحصار، استسلم بنو قريظة وطلبوا السماح لهم بالجلاء، بينما بادر الأوس الذين كانوا معهم في حلف سابق إلى طلب العفو عنهم مستدلين في ذلك بإنزال يهود بني قينقاع على حكم سيد الخزرج عبد الله بن أبي سلول، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزال بني قريظة على حكم أحد سادة الأوس، وهو سعد بن معاذ الذي قرر قتل الرجال المقاتلين منهم[16].

لم يعثر المستشرقون على أية كتابات عبرية في مواقع سكنى اليهود في المدينة لأنهم كانوا جميعا عربا

وقد اشترط سعد بن معاذ على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى بني قريظة القبول بحكمه فيهم بناء على ما يمليه عليه ضميره، فلما قبلا منه ذلك قضى بقتل المقاتلين من بني قريظة، باعتبارهم خائنين كانوا ينوون الهجوم على المدينة المنورة خلال غياب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنها في معركة الخندق، وكان حكمه حكم الله من فوق سبع سماوات كما جاء في نص الحديث النبوي.

إعلان الحرب.. جريمة الخيانة العظمى

بينما يصوّر البعض واقعة قتل المقاتلين من بني قريظة كما لو كانت إعداما جماعيا لأشخاص مسالمين، فإن الحسم قد جاء في القرآن الكريم، وتحديدا في الآيتين 26 و27 من سورة الأحزاب، حيث يقول فيها تعالى: “وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا”.

فالذكر الحكيم ينفي أن يكون ما وقع هو مذبحة جرى تنفيذها بدم بارد كما يصوّر بعض المؤرخين المتحيزين، كما لا يرد في القرآن الكريم ما يدل على نزول بني قريظة على حكم أي شخص، أو قتلهم بشكل جماعي، بل تشير الآيتان الكريمتان إلى قتل قسم منهم ونجاة قسم آخر، وهو ما يرجح أنه وقع خلال المعركة، أي أن القتل والأسر وقعا بشكل متزامن، وليس بعد استسلام بني قريظة كما يدعي البعض.

منذ عهد النبي سليمان وبلقيس، كانت لليهود هجرات من وإلى اليمن وأطراف الجزيرة العربية وشمال أفريقيا

ويسجل المؤرخ الأسكتلندي “مونتغومري وات” في كتابه “محمد في المدينة” استغرابه الكبير كيف أن يهود بني قريظة ظلوا يعيشون عيشة طبيعية في المدينة بعد هذه الواقعة، ويُمارِسون تجاراتهم دونما أي تغير، وهو ما يعني عدم حدوث أي مذبحة، بقدر ما كان تنفيذا لحكم مبرر بوقوع الخيانة والغدر.

فالحرب التي اندلعت بين المسلمين ويهود بني قريظة مبررها واضح وثابت، وهو نقض بني قريظة للعهد الذي كان يجمعهم بالمسلمين وانضمامهم إلى الأحزاب التي أعلنت الحرب على المسلمين، وهو ما جعل ظهر المسلمين مكشوفا ودعوتهم كلها مهددة بالإبادة، فما أقدم عليه بنو قريظة يعتبر بلغة العصر الحديث بمثابة الخيانة العظمى التي تستوجب القصاص وإعلان الحرب[17].

ومن دلائل العدد القليل ممن شملهم حكم القتل، كون الروايات التاريخية تكاد تجمع على أن من تقرر تنفيذ حكم القتل فيهم جرى التحفظ عليهم في دار بنت الحارث، وهي سيدة من بني النجار، ومن غير المعقول أن تكون دار واحدة كافية لضم جميع رجال بني قريظة. ولا تستبعد بعض الروايات أن قسما من رجال بني قريظة أعلنوا إسلامهم في تلك اللحظة العصيبة.

حلف الأحزاب.. دفاع مشروع عن النفس

جذور قصة ما وقع مع بني قريظة تعود إلى أحد زعماء بني النضير، وهو حُيي بن أخطب الذي أتى قريشا في مكة المُكرمة، وجعل يُقنِعهم بضرورة أن يتألبوا مع قبائل عربية أُخرى على محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه في المدينة المنورة[18].

حين بلغت هذه الأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل أربعة من أصحابه، وهم سعد بن مُعاذ وهو سيد الأوس، وسعد بن عُبادة سيد الخزرج، وخوّات بن جُبير وعبد الله بن رواحة، فأتوا كعب بن أسد في حصنه وكلموه، وتأكد لهم خبر دخول بني قريظة في حلف الأحزاب.

تحالف يهود بني قريظة مع الأحزاب يوم غزوة الخندق كان خيانة عظمى ونقضا للمواثيق استحقت الاستئصال

وتكمن خطورة حلف الأحزاب في أن الأمر يتعلّق بأكثر من عشرة آلاف مقاتل كانوا على أهبة الاستعداد للانقضاض على المسلمين في المدينة، على أن تأتي جيوش العرب من الشمال وجيوش اليهود من الجنوب، ليطبقا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانت خطورة الجبهة الجنوبية من ناحية بني قريظة تتمثل في كونها غير محمية بالخندق الذي بناه المسلمين من ناحية الشمال، وبالتالي تعتبر جبهة مكشوفة عسكريا.

وتأتي شهادة المؤرخ الإسكتلندي “مونتغومري وات” الذي قال إنه لو قدّر لبني قريظة اجتياح المدينة المنورة، لقضوا على محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته لكون المدينة المنورة تضم النساء والأطفال[19].

 

المصادر

[1] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[2] سورة البقرة، الآية 47
[3] سورة البقرة، الآية 211
[4] سورة النساء، الآية 153
[5] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[6] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[7] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[8] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[9] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[10] https://library.iugaza.edu.ps/Thesis/55325.pdf
[11] ابن هشام: السيرة، ج٣
[12] https://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=142782
[13] https://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=142782
[14] https://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=142782
[15] https://youtu.be/8RLRVGGAuRM

[16] http://www.al-khechin.com/article/511

[17] http://www.al-khechin.com/article/511

[18] https://youtu.be/8RLRVGGAuRM

[19] https://archive.org/details/muhammadatmedina029655mbp/page/n15/mode/2up