“صُنَّاع الأمل”.. رسالة سلام من دراجات ليبيا إلى العالم

حسن العدم
ينظم شباب ليبيا بين عام وآخر “رالي تي تي” للدراجات النارية والسيارات رباعية الدفع، وقد كانت النسخة الأولى انطلقت في عام 2008، ثم توقف في 2011 بفعل الثورة الليبية.
قناة الجزيرة الوثائقية كانت قد رافقت شباب ليبيا الطموح والمتعالي على جراحات الحرب، وصوَّرت معهم فيلما يصنعون فيه أمل ليبيا بغد أفضل، وعرضته تحت عنوان “صُنَّاع الأمل”.
تحدي الجماعات الإرهابية.. إصرار الشباب الليبي
كان الرالي ينظم في منطقة فزّان، ثم انتقل إلى صحراء ودّان نظرا لوجود الجماعات الإرهابية، وما زال الشباب الليبي يصر على تنظيم هذه التظاهرة الرياضية التي يعشقها حد الجنون، وفي أيام النظام السابق كانت التجمعات الشبابية محدودة، وكانت نشاطاتهم بمبادرات شخصية بحتة، فتراهم يشاركون في فعاليات مصرية أو تونسية على عاتقهم الشخصي، وفي السنوات الأولى بعد ثورة 2011 بدأ الشباب في إنشاء الأندية الرياضية المتخصصة.
وعلى الرغم من نشوب الاشتباكات المسلحة حول طرابلس العاصمة بين الفترة والأخرى، فإن أصدقاءهم في مدينة صرمان -التي تبعد عن طرابلس حوالي 70 كيلومترا نحو الغرب- يصرّون على استئناف الرالي، ويشجعون إخوانهم في طرابلس وكل المدن الليبية الذين يعيشون أجواء الخوف والإرهاب على أن يرفضوا الاستسلام وينهضوا للتجمع كتلة واحدة من جديد.
محمد الفزّاني ميكانيكي ومنظم راليات وعاشق للدراجات النارية وسباقاتها، وقد بدأ شغفه بها عندما كان في عامه الثالث عشر، وكان يقتني دراجة رخيصة الثمن من طراز “جاوا” ذات مكبسين روسية الصنع. يقول: ثم صرت أقتني الأغلى ثمنا والأعلى جودة، حسب ما تسمح به الظروف، وصرت أشتري الدراجات ذات القوة العالية التي تصلح للسباقات.
وبينما يستعد محمد الذي يقف الآن على مشارف الأربعين للتوجه إلى ودّان مع مجموعة من الأصدقاء، من أجل المشاركة في تجمع “تي تي”، فإن مجموعات أخرى من عشاق هذه الرياضة يستعدون في مدن وبلدات أخرى من ليبيا، وسوف يتجمعون على الطريق المؤدي إلى ودان، ثم يتوجهون جميعا إلى حيث الاحتفال الكبير.

نقص البنزين.. دولة تطفو على بحر من النفط
كان يقال إن ليبيا تطفو على بحر من النفط، والآن يعاني محمد من إحضار بضعة لترات من البنزين تكفيه لإتمام السباق، هذا بالإضافة لبعض المعوقات الأخرى من تأمين قطع الغيار، إلى تأمين أرواح المتسابقين من هجمات الدواعش والجماعات المتطرفة الأخرى.
أخبار المذياع لا تسر، فقد قام الإرهابيون بتفجير بوابتي إجدابيا والزويتينة، ولكن محمد ورفاقه تملؤهم روح الإصرار والتحدي، وتمتلئ قلوبهم بالتوكل على الله والرضا بالأقدار، فهم مصرون على التوجه للمسابقة.
يحاول محمد التهدئة من روع أصدقائه، ويطمئنهم أنه على تواصل مع المنظمين، وأن الطريق التي سوف يسلكونها مؤمنة، ثم هم في النهاية متوكلون على الله وراضون بما كتب لهم.
رفيقهم صالح أيضا يستعد للرحلة، ولكنه يُلمّح إلى أن سيارته قد لا تساعده في هذا السباق، فهي محدودة القوة، وهنا يمازحه بعضهم ويقولون: بدأت تختلق الأعذار، ويضحك الجميع، ولكن صالح يحذرهم أنه ربما تكون هناك هجمات على الطريق، فقد قرأ للتو على صفحته في “فيسبوك” أن ثمانية قتلى قد سقطوا في الجفرة جراء هجمات إرهابية.
يتواصل محمد مع صديقه أسامة، ويخبره أن سيارته -حسب العطل الذي وصفه له- بحاجة فقط إلى تغيير مضخة البنزين، وأنها سوف تكون على ما يرام، ويؤكد على ضرورة المشاركة في السباق، ثم يطمئن على سيارة أحمد وعيسى كذلك. محمد هذا نِعم القائد، ونِعم الرفيق في السفر.

محمد الفزّاني.. خبرة الدراجات التي ترافق الفريق
يعمل محمد بكل جد ونشاط، ويتواصل مع كل الأصدقاء المشاركين في السباق، ويطمئن على جاهزيتهم وجاهزية سياراتهم ودراجاتهم، ويبدي استعداده لإصلاح أي عطل أو تقديم المشورة الفنية عن بُعد لمن لا يستطيع الوصول إلى ورشته.
يقول محمد عن بداياته المهنية إنه في عام 1999 اشترى حوالي 100 درّاجة مستعملة، وعمل على تفكيكها والاستفادة من قطع الغيار الصالحة، وشراء القطع الأخرى جديدةً من السوق المحلي أو الخارج، وأعاد إنتاج عدد كبير منها يصلح للركوب والسباقات.
أما دراجته الخاصة فهي من نوع “بي أم دبليو آر 1100 آر تي” (BMW R1100 RT)، وهو يفتخر باقتنائها منذ سنوات، ولا يعدل بها دراجة أخرى، فهي ذات محرك قوي جدا وسعة كبيرة، وتصلح للرحلات الطويلة والسباقات، يقول إنه سار بها إلى تونس مرتين، وفي رحلات داخلية كثيرة، وله معها ذكريات كثيرة، وقد عرض عليه الكثير بيعها بثمن عال، ولكنه كان يرفض بيعها في كل مرة.
يقول محمد: سنسافر عبر طريق بوقرين، وسنصادف مجموعة طرابلس في الطريق ثم نسير سويا، ومعنا طفلان سيرافقاننا في الرحلة والسباق، وسوف يستخدمان الدراجات الصغيرة رباعية العجلات ذات السعة 250 مللتر فقط، وسيشاركان في فقرات الاستعراض فقط، وقد تواصلت مع مجموعة طرابلس، نحن سننطلق غدا الفجر بإذن الله، وسنلتقي معهم في نقطة معينة على الطريق، ثم نواصل السير سويا، وستلحق بنا مجموعة أخرى من بلدة جميل، بارك الله فيهم.

ليبيا موحدة.. استمرار المسير رغم التفجيرات
يقول محمد: يدفعنا الشوق إلى ملاقاة الأصدقاء والأحباب، ويحركنا حماس المنافسة وعشق الراليات، عشرون ساعة تفصلنا عن ودّان، وهي مسافة طويلة جدا نعبر خلالها الصحاري مرورا بطرابلس عروس المتوسط وعاصمة التحدي والإصرار على الحياة، ثم زليتن ثم مصراته التي قاومت وصمدت ورفضت الاستسلام، ثم تاورغاء التي صارت مدينة أشباح بعد أن أجبر سكانها على الرحيل، ثم إلى بوقرين.
ويضيف: في عام 2014 انطلقنا باتجاه سرت، وعلى بوابة الخُمس حدث انفجار هائل أمام أعيننا، ذهب ضحيته ستة شبان، ورغم هذا واصلنا السير، وكانت الطريق ملغمة بالدواعش من هنا وهناك.
بعد تاورغاء تعطلت سيارة أحدهم، وفي هذه الظروف يقف الجميع وقفة رجل واحد، يحاولون إصلاحها أو جرها إلى أي ورشة تقابلهم، أو يستمرون بسحبها إلى ودان لإصلاحها هناك، وهذه الظروف والتحديات من الطبيعي أن تحصل في مثل هذا السفر الطويل، كما أن هناك مجموعة من أصدقاء محمد تراجعوا عن السفر في اللحظات الأخيرة، واكتفى الفريق الذي حضر منهم بالمشاركة الاستعراضية في الرالي.
يقول محمد: ندرس طريق الرحلة بعناية، ونحاول التنسيق مسبقا مع أهالي البلدات التي سنمر بها، وهم دائما على استعداد لتقديم يد العون، وإرشادنا إلى أحسن السبل في حالة وجود عوائق أو اقتتال على الطرق الرئيسية، بل يستضيفوننا عدة أيام إذا استدعى الأمر.
في ودّان تلتقي كل المجموعات القادمة للسباق من شرق البلاد وغربها وجنوبها، وفي ليلة السباق يحلو السمر مع الأصدقاء والأحباب، يأكلون ويشربون ويتجاذبون أطراف الحديث وينتظرون بشغف فجر الغد لبدء السباق، وكلهم عزم وتصميم على مواجهة الإرهاب ودحر الدواعش، وليثبتوا للعالم كله حبهم للحياة الطيبة وحرصهم عليها.

“يتمتع بها كل أهل أفريقيا إلا الليبيون”
في خيمة محمد استقبل مجموعة من أصدقائه القادمين من بنغازي، يتحدثون عن أمان الطريق ووفرة الحاجيات والوقود بثمن زهيد، بينما كانت مجموعة أخرى قادمة من منطقة فزّان في الجنوب تشكو من قلة الوقود وارتفاع سعره، إذ يتحدث علي القادم من فزان عن الجنوب بحزن، وأنه صار مستباحا وذهبت هيبة العرب هناك، وأن الدواعش يهددون الأمن هناك، وأن خيراته من البترول منهوبة ويتمتع بها كل أهل أفريقيا إلا الليبيون.
يبدأ حفل الافتتاح باستعراض لأطفال الدراجات الرباعية، إذ يستعرضون فيه مهاراتهم أمام جمهور النظّارة، ويرسلون رسالة سلام للعالم أجمع، أطفال ليبيا من كل مناطقها بلا استثناء يتعالون على الجراح والتمزق، وفوق الاستقطاب السياسي أو المذهبي.
انقضى يوم الافتتاح دون حوادث تذكر، سوى ما حدث لأحد المتسابقين من تحطم دراجته، إثر حادث قبل أن يصل إلى ودان، ولكنه خرج من الحادث سالما ولم يمسه أذى.
نحن الآن في اليوم الثاني من المهرجان، وهو يوم سباق البالغين، هنالك بعض المعوقات الفنية وعدم التزام بعض المتسابقين بشروط السلامة، ولكن لجنة التحكيم وبعض الخبراء في مجال الراليات يحاولون إصلاح الأمر، وتطبيق الأنظمة والشروط على الجميع دون استثناء.

تسلق كثبان الرمال.. وداع على أمل اللقاء
رغم طموحهم العالي فإن معظم الشبان الليبيين يعانون من معوقات تمنعهم من المشاركات الدولية، ومنها قلة الإمكانات الفنية وعدم توفر الدعم المادي وعدم وجود مظلة شبابية رسمية ينضوون تحتها، وهم يقومون بتعديل سياراتهم بأيديهم، من أجل زيادة قوتها ورفع قدراتها على المناورة، مع أنهم هواة وليسوا متخصصين، ولكنهم ينجحون في التحدي.
الفعالية الرئيسية هي تسلق كثبان الرمال التي يصل ارتفاعها إلى 70 مترا، وهو تحدٍّ مثير وشيق وينتظره الشباب بكل شغف، ولكن محمد الفزّاني لن يشاركهم هذا الشغف، فسيارته قد تعطلت في الطريق، وهو يشعر بنوع من الإحباط، ولكن عزاءه أنه سوف يستمتع بالفرجة ومشاهدة رفاقه وهم يصعدون الهضبة الرملية.
هناك يتجمع الشباب من كل أنحاء ليبيا، فيُنَحّون الحرب والسياسة جانبا، ويعيشون ليبيا الموحدة فقط، يجتمع ابن طرابلس مع ابن بنغازي والزليتني مع المصراتي والسبهاني، فكل ليبيا بالنسبة لهم الآن هي عائلة صغيرة واحدة. ولا تسأل عن استعراضات الأطفال الصغار على سياراتهم الرباعية ومدى البهجة التي يشعرون بها، أطفال في عمر الزهور بين 8-12 من أعمارهم، يشاركون في صنع الأمل، ويبشرون بمستقبل ليبي واعد، بعيدا عن ويلات الحرب ودمار القذائف.
تستعد ودّان لتوديع ضيوفها بعد أن قضوا فيها ثلاثة أيام حافلة بالمتعة والبهجة والسلام والتعالي على الخلافات السياسية والمناطقية، ويحل وقت الرحيل، والشباب ينتابهم شيء من الحزن وألم الفراق، ولكنهم يمنُّون النفس ويعيشون على أمل أن يلتقوا في العام المقبل، وفي مهرجان أكثر شغفا وحماسا.