“آلات بشرية”.. فصل آخر من استعباد الإنسان للإنسان

خاص-الوثائقية

إنها الساعة الثامنة صباحا، فريق التصوير متمركز الآن أمام مصنع ضخم للنسيج وإنتاج الأقمشة في ولاية غوجارات غرب الهند، ويقف على البوابات آلاف العمال القادمين من ولايات مختلفة وسط وشرق الهند، ومن إقليم البنغال كذلك، وسوف يدخلون الآن لأخذ أماكنهم أمام الآلات الضخمة وخطوط الإنتاج غير المتناهية، ولن يخرجوا من هنا حتى يحل الليل.

أما طاقم صناعة هذا الفيلم الوثائقي، فالمؤكد أنهم لن ينتظروا هنا لمدة 12 ساعة، لا بد أن يتبعوا أفواج العمّال إلى الداخل، حتى يرصدوا نشاطاتهم ومعاناتهم أمام لهيب النيران وعند مراجل الماء الذي يتميز غيظا وغليانا، سوف يعيشون معهم الدقائق القليلة التي يتناولون فيها طعامهم البسيط، ثم يدفعون بهذا الفيلم الاستقصائي المميز إلى قناة الجزيرة الوثائقية.

 

عمّال على هامش الحياة.. إنسان برتبة آلة

حين يُسدِل الليل أستاره على هذه البقعة من الأرض، ويأوي الملايين إلى الأرض، ويلتحفون السماء المحملة بغازات المداخن، لا يلوون على شيء إلا لينالوا قسطا من إغفاءة قصيرة، يحلمون فيها بوجوه أطفالهم الذين تركوهم خلفهم، ثم ما يلبثون أن يستيقظوا مذعورين على أصوات متعهدي العمال الذين يصيحون فيهم بشراسة، ويصفعونهم بقسوة حتى يستأنفوا يوما آخر شاقا من أيام المعاناة.

يستغرق العمل في هذه المصانع ساعات طويلة تبلغ ١٢ ساعة يوميا، ثم لا يحصل مقابل هذا الجهد المضني إلا على أجر زهيد جدا لا يكاد يسد الرمق، ففي هذه المصانع لا وجود لنقابات تدافع عن حقوق العمال من أجل ساعات عمل أقل، أو تحسين مستوى الأجور، والعمال المساكين في مقابل ذلك يقومون بأعمال مضنية في بيئة عمل لا تتوفر فيها أدنى شروط السلامة.

في هذا المصنع يضطر العمّال للبقاء فترة طويلة مع مواد كيميائية سامة وأصباغ خطرة ومواد كاوية للجلد وظروف بيئية لا تتناسب مع حياة آدمية طبيعية. هنا حيث تتناقص نسبة وجود الأوكسجين في الجو، وتتزايد على حسابها الأبخرة السامة، وأول وثاني أكسيد الكربون، وفي هذه الظروف حيث لا تتوفر العناية الصحية ولا الرعاية الطبية لهؤلاء المساكين الذين سوف تأكل الأمراض المزمنة أجسادهم النحيلة.

وعلى بعد عشرات الأمتار فقط من أسوار المصنع، ينقل فريق آخر من العمال نفايات سامة وقاذورات مقززة، يطرحونها في الجوار، دون مراعاة لأدنى شروط البيئة النظيفة، لتجد هذه السموم من يفتش فيها ويقتات من ورائها من عشرات آلاف الناس القاطنين حول تلك المصانع، الذين تعتمد معيشتهم على ما يجدون في هذه النفايات من قطع معدنية يبيعونها أو أقمشة تالفة.

الطبقية في أوضح صورها، رؤساء في مكاتب مكيفة يبيعون ويشترون بأغلى الأثمان، ويراقبون عمالا مسحوقين

 

نظام السادة والعبيد.. الطبقية في أبشع صورها

في مبنى إدارة المصنع وفي الغرف المكيفة يقبع مدراء الأقسام المختلفة وراء مكاتبهم، يراقبون عبر الشاشات الكثيرة آلاف العمال وهم يسحقون تحت وطأة الماكينات والآلات، والأحمال الثقيلة والنيران الموقدة، يراقبون عيني طفل لم يتجاوز عامه الرابع عشر، تختلس نظراته الناعسة كاميرا المراقبة المثبتة فوق رأسه، ويتابع عمله على خط الإنتاج الذي لا ينتهي. قد يهرم هذا الطفل ويشيخ وهو جالس على نفس الخط الذي لا يقف.

يقول أحد المدراء: “لماذا تريدون مني أن أعطيهم مزيدا من المال؟ من أجل أن يصرفوه على الكحول أو التبغ؟ أم تريدون أن يضيعوه في تعاطي المخدرات؟ لا تصدقوا هؤلاء العمال الكسالى، إنهم لا يصرفون على عائلاتهم، اذهبوا إلى مواطنهم من حيث جاءوا، ستجدون أطفالهم مشردين في الشوارع، ونساءهم يتسولن على قارعة الطريق”. يقول هذا بجلافة، ويتبعه بابتسامة مستهزئة صفراء.

اثنتا عشرة ساعة عمل متواصلة كفيلة بأن ترهق الآلة، فما بالك بالبشر الذين لا يجدون قوت يومهم

 

“النظام الوحيد هنا إذا لم تعمل فستموت جوعا”.. عمال بلا نقابات

يقول مقدم الفيلم: التقيت بأحد العمال أثناء استراحة الطعام القصيرة، كان يضع تحت لسانه نوعا من التبغ الخام، سألته عن السبب فقال: لا أملك ما أشتري به السجائر العادية، إن أجري اليومي كله لا يكفي لشراء سيجارتين، لهذا فأنا أستخدم هذا النوع الرديء، إنه يخفف عني، أو ينسيني بعضا من آلام العمل. قال هذا بينما يلقي صاحبه بنفسه على كومة من القماش، ويغط في نوم عميق، كان ذلك خلال دقيقة وأنا أكلم زميله.

سألته: ومتى يستيقظ صاحبك هذا؟ قال: هي عشر دقائق فقط، ثم سيأتي المراقب ويركله بقدمه ويوقظه. تجرأت وسألته: هل أنت مشترك في النقابة؟ انتبه إليّ باندهاش وقال: نقابة؟! عن أي نقابة تتحدث؟ وماذا ستفعل النقابة؟ هل تظن أننا نستطيع الشكوى؟ أو نتوقف عن العمل؟ يا صديقي إن عشرات الآلاف أمثالنا جاهزون لأخذ أماكننا إن فكرنا في الاستنكاف، ساعتها من سيطعم أولادي؟ أنت؟!

كان هذا العامل في العقد الخامس من عمره، فسألته: وماذا عن هؤلاء المراهقين الصغار؟ إنهم لا يتجاوزون ١٥ عاما من العمر، هل يسمح لهم بالعمل؟ أجابني: ولم لا؟ أليس ذلك أفضل من أن يكونوا مشردين يتسكعون في الشوارع ويتعاطون المخدرات؟ قلت: ولكن أنظمة العمل لا تسمح بذلك، فأجاب: عن أي أنظمة تتحدث؟ النظام الوحيد هنا إذا لم تعمل فستموت جوعا.

أنت مجرد رقم، إن رفضت العمل كعبد جيء بمئات غيرك، فإن لم تعمل ستموت جوعا

 

سماسرة العمّال.. قلوب فارغة وجيوب ممتلئة

في الردهات وعلى خطوط الإنتاج يقف مراقبو العمال، حيث يمارس هؤلاء الرجال أبشع أنواع العنف والقسوة في سبيل استنزاف الرمق الأخير وقطرة العرق الأخيرة من أجساد هؤلاء العمال المطحونين. يذكرك منظرهم وقسوتهم بجنود الإنجليز الذين كانوا يدفعون الناس للعمل في مرافق شركة الهند الشرقية أيام الاحتلال الإنجليزي لأراضي الهند.

ومن خلف هؤلاء المراقبين يقف جيش من المتعهدين الذين يجلبون العمال من الولايات ويستغلون حاجتهم للقمة العيش، وكذلك يستغلون ظروف عائلاتهم البائسة، وأراضيهم البور التي كانوا يفلحونها منذ زمن، ولكنهم ما عادوا يزرعونها الآن بسبب القحط، وغلاء البذور والأسمدة والمعدات الزراعية، فما بقي لهم إلا الانقياد تحت سياط هؤلاء المتعهدين قساة القلوب.

يقول أحد المتعهدين: لماذا عليّ أن أكون رحيما بهم؟ بل هم يجب عليهم أن يشكروني لأنني أؤمّن لهم قوت يومهم. يريدون نقابات عمّال؟ وماذا عساها تصنع لهم؟ يريدون الاحتجاج وتعطيل العمل؟ سوف أصفع وجوههم ومؤخراتهم وألقي بهم خارج البوابات وآتي بعشرات أمثالهم، هؤلاء الأغبياء عليهم أن يحمدوا الله ويشكروني ويعملوا بصمت فقط.

ويستغل المتعهدون عدم اتحاد هؤلاء العمال، وعدم اجتماع كلمتهم على المطالبة بحقوقهم، ويتعاملون معهم بمنتهى القسوة والبهيمية، لقد جاءوا بهم من بقاع شتى ناطقة بلغات مختلفة بحيث لا يجدون ما يجتمعون عليه، فيستغلون فرقتهم وضعفهم ويسومونهم سوء العذاب، ثم يلقون إليهم بالفتات من المال، ويحتفظون بالباقي في جيوبهم. يكفي أن نعلم أن أجر العامل لا يتجاوز في المعدل 3 دولارات في الشهر.

نفايات المصانع التي ينتظرها خلق آخر يبحثون عن رزقهم

 

“نحن نعمل من الليل إلى الليل”.. منسوجات ملطخة بدماء الكادحين

هناك في مكان ما بعيدا عن هذه البيئة الصاخبة والملوثة، تجد مدراء الإنتاج والتسويق والمبيعات، يعقدون الصفقات بالملايين ويبيعون الأقمشة والمنسوجات التي تضمخت بدماء العمال البسطاء وعرقهم، وطالما داعب ملمسها الرقيق الشفيف أياديهم الخشنة الجافة. مدراء ومن خلفهم موظفون كبار ووزراء لا يهمهم إلا عدّ الأموال التي لا حصر لها، وتسجيل أرقام العمالة وتخفيض مستويات البطالة على الورق فقط.

أثناء استراحتهم القصيرة تجمَّع عدد من العمال حول طاقم التصوير، وتحدثوا إليهم بشيء من المرارة: أنتم تأتون وتصورون وتذهبون، لا تفعلون شيئا من أجلنا، لا تهمكم معاناتنا، كم مرة جاء أمثالكم إلى هذا المكان ولم يفعلوا شيئا؟ اذهبوا إلى صاحب المصنع، تحدثوا إلى مدير المصنع، صدّقونا نحن لا نعرف صورهم، لم نرهم منذ جئنا إلى هنا، يمكن أن يسمعوا منكم عن الصعوبات التي نواجهها.

ثم صرخ آخر: قولوا لهم لقد سئمنا العمل الطويل، نحن نعمل من الليل إلى الليل، نريد أن نرى وجوه أطفالنا، قولوا لهم إن هذه الروبيات القليلة التي يعطونا لا تكفي للمواصلات، بل إنها لا تكاد تغطي نفقات الطعام، قولوا لهم نريد أن نعلم أبناءنا، نريدهم أن يكونوا أفضل حالا منا. ثم قال: أيها العمال من منكم يريد أن يعمل 8 ساعات فقط؟. وأتته الإجابات من كل مكان: أنا، أنا.

مصانع بريئة المظهر من الخارج تضم بين جدرانها ألوفا من البشر المستعبدين

 

لهم ناطحات السحاب ولنا العرق.. تجارة العبيد في ثوب جديد

يعيش عمال حقل الصناعة في الهند ظروفا مزرية، أما أصحاب هذه المصانع فيعيشون في عالم آخر، إنهم وراء البحار والمحيطات يقبعون في قصورهم الفارهة ومكاتبهم في ناطحات السحاب في لندن وباريس ونيويورك، لا يدور بخلدهم ما يجري للعمال الذين يعملون في مصانعهم، بل إنهم لا يتخيلون وجودهم أصلا، ولا يكادون يرون إلا عالمهم وأموالهم واستثماراتهم.

شركات عابرة للقارات تجني أموالا طائلة من دماء هؤلاء العمال المسحوقين وعرقهم، وعارضات أزياء ونساء من المجتمعات البيضاء الراقية في باريس وروما يلبسن ما ينتجه هؤلاء المهمشون على أطراف العالم، ولا يتخيلن أن بشرا مثلهم من طينتهم هم من صنعوا هذا، ولكنهم لا يملكون ما يسدون به رمق أطفالهم الجوعى.

قبل استقلال الهند كانت هنالك شركة واحدة تتكفل بسحق هؤلاء المساكين، كانت تلك شركة الهند الشرقية، أما بعد الاستقلال فلم يتغير شيء إلا أن زادت الشركات العالمية التي تمارس ضد هؤلاء العمال المقهورين أبشع صور الاستغلال، إنهم يعتصرون جهدهم وتعبهم حتى الثمالة، تلك يا سادة هي العولمة والأسواق المفتوحة والتجارة الحرة التي لا تزيد الناس إلا عبودية ورقّا.


إعلان