“الإرهاب كما نشرحه لأولادنا”.. تحصين الجيل القادم من ألغام الإفراط وسموم التفريط

خاص-الوثائقية

أعادت هجمات باريس في نوفمبر 2015 طرح سؤال الإرهاب الشائك، وأصبح ما كان يناقش بين النخب حديث الجميع في فرنسا حتى الأطفال منهم، وهنا طرح الروائي الفرنسي المغربي الطاهر بن جلّون كتابه “الإرهاب كما نشرحه لأولادنا”، محاولا الإجابة فيه بلغة مبسطة على مسألة الإرهاب. وهو الكتاب الذي كان عنوان إحدى حلقات “خارج النص” التي بثتها قناة الجزيرة الفضائية.

 

وحي الكتاب.. معركة التفريق بين الإسلام والعنف في عقول الأطفال

يقول المؤلف الطاهر بن جلّون: ماذا نقول لأولادنا عن الإرهاب؟ نقول لهم الحقيقة، وخصوصا أن علينا أن لا نستخف بقدرتهم على سماع ما يزعج، وعلى مواجهة الرعب، إنهم ليسوا أقوى من البالغين أو أكثر حصانة منهم، إلا أن عندهم من الإدراك ما يؤهلهم لذلك، وبالإمكان التعامل مع هذا الإدراك من دون أن نخشى انعكاسات كارثية على نموهم، لكن بشرط واحد وهو أن نحسن اختيار الكلمات واللحظة المناسبة والطريقة الملائمة.

ويتحدث عن فكرة الكتاب التي دعته إلى تأليفه قائلا: فكرة هذا الكتاب تعود إلى اليوم الذي تلا هجمات الإرهاب في “باتاكلان”، التي أحزنت كل فرنسا، لأنها خلفت 230 قتيلا في صفوف الشباب، عائلات كثيرة خيم عليها الحزن، ففكرت كيف أشرح للأولاد لماذا فقدوا إخوانهم وأخواتهم.

ثم يستطرد متحدثا عن حقيقة الإرهاب كما يراه: إذن أعطني تعريفا للإرهاب؟ الإرهاب هو أولا وسيلة وطريقة عمل، وليس فكرا ولا فلسفة، إنه اعتماد العنف ضد أشخاص أو ممتلكات بهدف إرغام الحكومة على تلبية المطالب التي رفعها أناس لا نعرف وجوههم ولا هوياتهم. وأحيانا لا تكون أهداف الإرهاب محددة على نحو واضح، بل هو يقضي بكل بساطة بقتل أشخاص يختارهم عشوائيا. أما الهدف، فهو زرع الرعب وجعل كل أحد يقول في نفسه: كان يمكن أن أكون أنا الضحية.

يرجع المؤلف جذور التطرف إلى التفرقة العنصرية التي تعامل بها الدول الأوروبية المجنسين من أصول أخرى

 

مفردات المعجم الشبابي.. ترحيب النخبة الفرنسي وبرود المغاربة

يقول “فرانسوا بورغا” وهو مفكر فرنسي متخصص في الإسلام السياسي: إن شرح ظاهرة مثل العنف السياسي للأطفال هو تحدٍّ فكري وإنساني، وأعتقد أنه -أي: المؤلف- فشل في هذه المحاولة، لم يعط للكبار ولا للصغار ما ينبغي أن يفهموه.

ويرد المؤلف بن جلون بقوله: كان من الضروري أن أشرح من أين أتى هذا ولماذا، وعلى الخصوص أن أبرهن للشباب والأوروبيين أن هذا الإرهاب لا يعبر عن الإسلام، بل هو تعبير عن همجية لا علاقة لها بالدين.

وحول المفردات التي استخدمها الكاتب يقول الباحث بمعهد العالم العربي في باريس المعطي قبّال: هنالك معجم خاص يستخدمه الكاتب ربما يستعصي على الشباب فهمه، ولكن عندما نستوعب هذه المنظومة التواصلية التي يستخدمها الشباب هذه الأيام، ندرك أن هذا القاموس ليس غريبا.

وبقدر ما لاقى الكتاب رواجا بين النخب فإنه أثار الكثير من الجدل، فبينما رحبت النخبة الفرنسية بالكتاب تلقاه أبناء الجالية المغربية في فرنسا بنوع من البرود، وهم الذين لا يزالون منذ ثلاثة عقود من الاغتراب يتطارحون هذه الأسئلة الشائكة ذاتها، أسئلة الهوية والاندماج والحقوق المنقوصة والحنين إلى الوطن الذي لا يزال حاضرا في ثقافتهم.

صحف فرنسية تتهم المؤلف بمحاولة الدفاع عن الإسلام رغم أنه يعرض أسباب المشكلة فقط

 

جذور المشكلة.. مطرقة الجهل وسندان التحريض

جاء الكتاب على شكل تساؤلات من الأطفال، يحاول المؤلف الإجابة عليها بطريقة مبسطة، من قبيل:

– على ضوء ما شرحته لي، هل بالإمكان ممارسة الإسلام في ظل نظام ديموقراطي علماني كفرنسا؟

– إذا ما فهم الإسلام بطريقة ذكية، هل يمكنه التعايش تماما مع الديموقراطية؟

يقول بن جلون: هنالك صورة سيئة للغاية عن الإسلام والمسلمين في فرنسا، وهي نابعة من عنصرية متعددة المصادر متعددة الجذور، والإعلام مسؤول عن ذلك خصوصا عندما يهول حدثا قام به مسلمون، والمسلمون مسؤولون عن ذلك أيضا حين يتيحون الفرصة لمن يشوهون صورة الإسلام.

أما أستاذ تاريخ الإسلام المعاصر صادق سلام فيذهب إلى أن “الإعلام الفرنسي يُدار من طرف فئة متخصصة في “الإسلامويين المتطرفين” بغض النظر عن الظروف التي صنعت هؤلاء المتطرفين”.

ويوجه بن جلون سهامه الصريحة إلى الإعلام التحريضي قائلا: لا يتحدث الإعلام إلى الأطفال، بل يقدم الحدث دون تفسيره، وينسبه إلى الإرهاب الإسلامي أو الإسلام الإرهابي، حتى قبل أن تظهر نتائج التحقيقات، ويخلط بين الديانة والهمجية.

من الواضح أن الكاتب لا يقف في صف الأصوليين حتى وهو يعلم بأن دول أوروبا هي البادئة في الظلم والاعتداء

 

“لقد ثأرنا للنبي”.. بين واقع مهمش وأحلام بالفردوس

يسأل الأطفال: لماذا كنا نسمعهم بعد هجمات “شارلي إبدو” يقولون “لقد ثأرنا للنبي”، وبعد هجمات “باتاكلان” قالوا “الله أكبر”؟

وأجيبهم: إن هؤلاء يزعمون أنهم ينشرون الإسلام بهذه الطريقة، وهو إسلام لا يعرفون عنه شيئا، إلا بعض الآيات التي حفظوها من أجل تبرير أعمالهم ويبايعون بها البغدادي.

ويطرحون سؤالا آخر: هل علينا أن نخاف من الإسلام؟ ولماذا يتزايد عدد الذين يخافون من الإسلام في أوروبا؟

والجواب: عن أي إسلام تتحدثون يا أطفال؟ الإسلام ديانة موحِّدة، ولكن المشكلة في اختلاف تأويلات النصوص لهذه الديانة، مما يخرجها عن إطارها الفكري اللائق.

ينحاز بعض النقاد للمؤلف في دعواه بأن التيار الوهابي الذي يؤوِّل النص حرفيا له تأثير كبير في تشكيل عقول المتطرفين، ويؤكد غيرهم أن العنف لا يتولد من الدين أساسا، فكل الأديان بما فيها الكاثوليكية يوجد فيها من يدعو إلى العنف، وذلك بتأويل البعض للنصوص على هواهم.

دعاوى أوروبية متطرفة علنية و”وقحة” تدعو إلى تجريم الإسلام ومحاربته

 

منابت الإرهاب وجداول سقايته.. تسطيح الظاهرة

يرى بن جلون في كتابه أن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإرهاب اقتصادية واجتماعية تحيط بهؤلاء الشباب، ويشدد على أن البيئة الموبوءة التي عاش فيها هؤلاء المهمشون هي الحاضنة المشبوهة لظاهرة الإرهاب، وهو ما اعتبره مراقبون تسطيحا لهذه الظاهرة.

ويرجع بعض النقاد هذه الظاهرة إلى انخراط فرنسا في الحرب ضد داعش في سوريا، وينتقدون بن جلون لأنه لم يشر في كتابه إلى هذا السبب الجوهري، كما أنه رسم صورة بيضاء وسوداء فقط لهذه الظاهرة ولم يحاول أن يخوض في تفاصيلها والدوافع الأساسية لتطرف هؤلاء الشباب.

كان لوسائل التواصل الاجتماعي الأثر الأكبر في تشكيل أفكار هؤلاء الشباب، فقد كانت حياتهم مغلقة بلا أمل وواقعهم بلا طموح، وفجأة جاءتهم هذه الدعايات المزعومة عن الجهاد وكيف أنه سينطلق بهم إلى الآفاق التي طالما حلموا بها، فكانت الاستجابة سريعة لهذه الدعايات.

يحاول المؤلف توضيح مفهوم العلميات الإرهابية ويضرب أمثلة على العمليات الفدائية ضد الصهاينة

 

احتلال فلسطين.. جدلية المقاومة والتطرف

يعترف بن جلون في كتابه بالمقاومة سبيلا أمثلَ للتخلص من الاحتلال، ولكنه ينتقد سلوك بعض الفصائل الفلسطينية لمنهج الكفاح المسلح ضد الصهاينة، ولا يزال بذلك يفرق بين الإرهاب الأعمى والمقاومة من أجل التحرر الوطني.

ورغم أنه ندد بعنف جماعة أيلول الأسود في خطف الطائرات مثلا، فإنه أيضا ندد بعنف الدولة الذي تقوم به دولة الصهاينة ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض والتاريخ.

تعرض الأسلوب التبسيطي الذي حاول به بن جلون توضيح مفهوم الإرهاب للأطفال إلى ضرورة مواجهة الكم الهائل من التعقيدات الجيوسياسية والديموغرافية لهذه الظاهرة، ويظهر التحدي جليا عندما نلاحظ أن المؤلف يحاول أن يحدد هذه المشكلة العابرة للقارات ببقعة صغيرة من العالم هي باريس.

يدافع الطاهر بن جلون عن هذا التبسيط، ويقول: لا تنسوا أنني أخاطب بهذا الكتاب الأطفال، فالمفردات المعقدة مثل الجيوسياسية والعلاقات الإستراتيجية بين القوى العظمى في العالم لن تستوعبها عقول هؤلاء الأطفال.

كيف يمكن للأهل والتربويين إيصال مصطلحات الإرهاب والتطرف لأطفالهم، هل يستوعب الأطفال هذه المفاهيم؟

 

جدار التربية السليمة.. كي لا يقع أطفالنا في نفس الحفرة

حاول المؤلف الخروج عن خطاب الإدانة التحريضي الغربي، ولكنه لم يفلح بالمقابل أن يتحدث بلسان المراقب العربي الذي يدافع أو يبرر أحيانا اللجوء للعنف.

في نهاية الكتاب حاول بن جلون اقتراح بعض الحلول التي يمكن أن تحد من ظاهرة العنف في أوساط المسلمين، وركز كثيرا على التربية المبكرة، والحديث عن المفاهيم التربوية للإسلام.

ولئن تباينت آراء النقاد حول الكتاب، فقد أجمعوا على ضرورة دراسة الظاهرة، ورأى كثير منهم أن مخاطبة الأطفال الآن قد تحُول في المستقبل بينهم وبين ما يعاني منه الكبار في حاضرهم المرير.


إعلان