“صياد بلا نهر”.. آلام على ظهر دجلة والفرات

حسن العدم

ثمة قوارب صغيرة تتناثر بلا انتظام على ضفاف نهر دجلة، وبعض الصيادين يقومون بترتيب أشيائهم البسيطة كالشبكة والطعوم والمجاديف والثقّالات، استعدادا للانطلاق في رحة صيد جديدة. وثمة مصور يلتقط يومياتهم ويسجل أفراحهم ومعاناتهم، ويصور لمعة الفرح في عيونهم عندما يرفعون الشبكة وهي مثقلة بالصيد الوفير، ثم يجمع كل هذه الصور في فيلم، لتعرضه الجزيرة الوثائقية تحت عنوان: “صيّاد بلا نهر”.

دجلة والفرات.. شرايين الحياة في العراق

مهنة الصيد بالنسبة لشباب دجلة والفرات مهنة يرضعونها مع حليب الأمهات، فهم منذ نعومة أظفارهم يرافقون آباءهم في رحلات الصيد، ويتدربون بالسجية والفطرة على رمي الشبكة وإعادة سحبها، ويتربَّون على فلسفة طلب الرزق من الخالق سبحانه، فهم ينظرون بعيونهم إلى الماء، وينظرون بقلوبهم إلى رب السماء طمعا في فضله.

 

وإذا توجهتَ إلى منطقة الأهوار جنوب العراق، حيث يلتقي شريانا حياة أهل العراق دجلة والفرات، فسوف تستقبلك أم حيدر على قاربها الصغير المتهالك، وسوف تخبرك أنها وعائلتها وكل أقاربهم وجيرانهم لا يعرفون إلا “الهور”، ولا يتقنون إلا صيد السمك. وبعد أن أنهى أبو حيدر أهزوجته الحزينة، قال لنا: أم حيدر هي ساعدي الأيمن، وهي رفيقتي في السراء والضراء، إذا رزقنا الله في يومنا هذا شيئاً، فنحمده سبحانه ونعود إلى المنزل، وإذا لم نجد شيئا نبيت في القارب حتى الصباح.

وتقول أم حيدر: قبل الزواج لم أكن أذهب في رحلات الصيد مع أبي وإخوتي، ولكن منذ تزوجت رافقت أبا حيدر في كل رحلات الصيد، نخرج سويا ونعود سويا، ونبيع ما قسم الله لنا من سمك “الخِشني”، وإذا كان الصيد قليلا، فقد نبيت أنا وزوجي في هذا القارب الصغير، الصيد تعب ومشقة ويحتاج صبرا طويلا، ولكن العودة إلى أطفالنا، وطعم الرزق في آخر النهار لذيذ.

ما قبل الغزو الأمريكي.. أيام البركة والعزة والسيادة

إذا واصلت الإبحار مع التيار جنوبا، فسوف تصل إلى منطقة “الفاو”، حيث تلتقي الحدود العراقية بالحدود الإيرانية والكويتية، وتلك معاناة بحد ذاتها لصيادي السمك هناك. فكما أخبرنا بدران التميمي رئيس جمعية النصر للصيادين فإن هذه المنطقة يعمل فيها عشرة آلاف صياد من العراقيين، ولديهم 500 زورق صيد.

أبو حيدر وزوجته رحلة عمر في نهر دجلة

 

ويتابع التميمي: في أيام النظام السابق كانت الدولة تدعمنا بالوقود كل عشرة أيام، حتى أنهم سمحوا للصيادين باستخدام السلاح إذا داهمهم خطر من دول الجوار، أما الآن فقد انعكست الآية، فقد تخلى كثير من الصيادين عن مهنتهم وتوجهوا للعمل كعمّال في البلدية، لم تعد مهنة الصيد تكفيهم، وأصبحت من الخطورة بمكان إذ تعرضهم لكثير من المتاعب، ونتيجة لذلك انخفض عدد الصيادين إلى 5000 صياد، وكذلك انخفضت كميات الأسماك من مئات الأطنان إلى بضع عشرات الأطنان.

توترات المياه الإقليمية.. رحلة صيد عند ملتقى الحدود

يصحبنا العم كامل خليل في رحلة صيد خطرة عند الحدود، وهو صياد قديم في هذه المنطقة فقد قضى ستين سنة من عمره في صيد الأسماك، ولسان حاله يقول مثل جميع جيران دجلة والفرات، وعلى امتداد أكثر من 2000 كيلومتر: نحن ورثنا هذه المهنة كابرا عن كابر، ولكن في زماننا هذا فأنا لا أحبذ أن أورثها لأبنائي، إنها صارت مهنة متاعب فقط، وسأحدثكم لاحقا، فيومنا سيكون طويلا، ولكن دعونا أولا ننتهي من أسئلة خفر السواحل.

يخاطر الصيادون أحيانا عند اقترابهم من مناطق النزاع الإقليمي خصوصا في منطقة الفاو بين العراق وإيران والكويت

 

يقول كامل: في السابق كان مسموحا لنا بالصيد في كامل المياه الإقليمية العراقية، أما اليوم فقد تركوا لنا شريطا ضيقا فقط للصيد فيه، أما إذا أخذَنا تيار المياه يمينا أو شمالا باتجاه إيران أو الكويت فالويل لنا والثبور وكل عظائم الأمور، فأقل ما سنواجهه هو المهانة والسباب والشتائم من خفر السواحل، وقد يصادرون سفننا أو يكتفون بمصادرة صيدنا، وقد يسلبوننا ما معنا من المال، وقد يعتدون علينا بالضرب.

مهنة الصبر الجميل.. معاناة الصيد الصامتة

تمثلت مشاكل صيادي الفاو في الفترة الحالية في عدة أشكال، منها المساحة الضيقة التي يسمح بالصيد فيها مقابل المساحات المفتوحة في السابق، ومشكلة أخرى تمثلت في نقص الوقود وغلاء أسعاره، فبينما كان الوقود يمنح لهم بالمجان، أصبحت تكلفة الوقود لسفينة صيد متوسطة يزيد على مليون ونصف دينار عراقي (ما يعادل 1500 دولار أمريكي للرحلة الواحدة).

يحدثنا الشاب أحمد عاشور -وهو من صيادي نهر دجلة- عن بداياته مع الصيد، فقد كلفه أبوه يوما أن يراقب الشبكة الصغيرة التي نصبها مراقبة فقط، وحذره من أي فعل آخر، ولكن الفضول لدى الأطفال دفعه إلى سحب الشبكة ليرى ما فيها، فإذا بسمكة كبيرة جدا، شفعت له عند أبيه فِعْلتَه بتجاوز التعليمات، وكانت هذه الحادثة بداية انطلاقه في هذه المهنة.

قبل الغزو الأمريكي في 2003 كانت الدولة توفر للصيادين ثمن الوقود، لكنه انقطع منذ ذلك الحين

 

أما عن هذه الأيام فيقول عاشور: لقد قلّت البركة ولم يعد ذلك الصيد الوفير الذي كنا نجنيه في سالف الأيام موجودا، وأصبحت المهنة أكثر تعبا، الناس يظنون أنك مستمتع بهذا العمل الشاق، ولذلك يحاولون أن يبخسوك حقك في ثمن السمك، ولا يدرون كم نعاني ونصبر طويلا حتى نحصل على هذه السمكات المعدودة.

وعن معاناته اليومية مع هذه المهنة، يحدثنا عاشور عن تحديات جديدة لم تكن في سالف الأيام، إنها التحديات الأمنية التي يتعرض لها العراق بعد الغزو الأمريكي في 2003 وتداعياته. فأوقات الصيد محدودة من الفجر إلى العصر فقط، وقد تتعرض لدوريات الشرطة مرارا، وقد يسحبون قاربك أو يصادرون غلتك وعدة الصيد.

“يبدو أن ماء الفرات يتلوَّن كما تتلوَّن قلوب العراقيين”

في الناصرية على نهر الفرات، التقينا مع العم كريم كاظم جاسم، وهو صياد متقاعد قضى في مهنة الصيد أكثر من خمسين عاما، ويحدثنا عن أفضل أوقات الصيد، وتكون عادة بعد صلاة الفجر مباشرة، “على أن كل أوقاتنا في السابق كانت مخصصة للصيد، فقد كان وفيرا بعكس هذه الأيام، إذ شحَّ الرزق وزادت صعوبة الحياة.

من أقوال أهل الفرات: “أواه يا فرات، كانت شربة الماء منك ترد الروح، فما بالك اليوم؟

 

أما هذه الأيام فالحاج كريم يخرج إلى الفرات يوميا، لا للصيد ولكن ليبث إليه همومه، فتراه يتحدث إلى الماء وكأن الفرات يبادله أحزانه وأشجانه، يقول له: “أواه يا فرات، كانت شربة الماء منك ترد الروح، فما بالك اليوم؟ أراك قد تلوثتَ بذنوب الآدميين، أين ذهبت تلك الصفحة اللامعة كالمرآة؟ يبدو أن ماء الفرات يتلوَّن كما تتلوَّن قلوب العراقيين”.

دجلة والفرات.. موعد في بندقية الشرق

تعالوا بنا الآن إلى البصرة (بندقية الشرق) كما كانت تسمى، ونسمع عن يوميات مسلم عباس أحد الصيادين في البصرة، وهو موظف حكومي، فعند نهاية دوامه في الثانية بعد الظهر يبدأ بالتحضير لرحلة صيد، يجهز قاربه الصغير وشبكته ولوازم صيده ثم ينطلق في المياه الضحلة ويصيد ما قسم الله له حتى الواحدة بعد منتصف الليل، ثم إذا كان صيده وفيرا فإنه يترك لأولاده مهمة بيعه صباحا في السوق، ويذهب هو إلى عمله الرسمي، أما إذا كان الصيد محدودا فهو غموس للعيال.

يعد “المسقوف” أشهر وألذ وجبات السمك النهرية في العراق، يُشوى في ساعة، ويؤكل في خمس دقائق

 

يقول عباس: في السابق كان الصيد وفيرا والمياه عذبة وصافية، أما اليوم فالصيد شحيح للغاية والمياه ملوثة بسموم كيميائية وملوثات عضوية، ومجاري المياه القذرة تصب في النهر من كل حدب وصوب، فضلا عن السفن الكبيرة التي تلقي بحمولاتها من الملوثات عندنا، ويقومون بغسلها من القار والوقود في مياهنا، الأمر الذي أدى إلى قتل الثروة السمكية.

بلاد الرافدين.. آثار العظماء على ضفاف النهرين

يأسر النهر كل من مر من هنا حتى الطفل سجّاد حيدر ذو الـ13 ربيعا، فإنه يعشق دجلة ويعشق الصيد فيه، يعمل بنفسه على تجهيز الشبكة والأثقال والقصبة الطويلة والأواني اللازمة وبقية الأدوات، يأخذ بكل هذه الأسباب ثم يدعو ربه طويلا، لقد تعلم في هذه السن الصغيرة أن الرزق من عند الله، وأنه سبحانه بيده كل شيء. وأما فرحة الصيادين صغارا وكبارا فتأتي عندما يرون السمكة الكبيرة وهي عالقة بالشبكة، فلا تعادلها فرحة.

سجّاد حيدر، طفل من بغداد يعشق دجلة ويبحر فيه بعد مدرسته

 

تحب أم سجّاد ابنها كثيرا، وتقلق عليه عندما يذهب إلى الصيد، إذ تقول: “الشط غدّار يا وليدي”، ولكنها أيضا تفرح عندما يأتيها بالسمكة الكبيرة والسمكتين، تفرح لفرحه، وترى فيه رجل المستقبل ومعيل الأسرة.

هذا دجلة وذلك الفرات، مهوى أفئدة الشعراء والأدباء، منه استلهم الجواهري، وعلى ضفافه وقف معروف الرصافي، ولا بد أن أبا تمّام وصفي الدين الحلي قد هاجت عواطفهما على ضفافه. وكذا أولياء الله والصالحون من عباده من الحسن البصري، مروراً بمعروف الكرخي والسفيانَيْن، وكبار العلماء وعلى رأسهم الإمام الأعظم أبو حنيفة. تُرى ماذا فعلت الأيام بك يا فرات؟


إعلان