“فن العلوم”.. أكبر الآلات في التاريخ لاكتشاف أصغر الجسيمات في الكون

خاص-الوثائقية
تأسس المجلس الأوروبي للبحث النووي سنة 1952، وقد وقعت فيه 12 دولة اتفاقية لإنشاء مختبر يعنى بالفيزياء الأساسية تتم فيه مشاركة النتائج مع الناس كافة، وذلك من أجل تعزيز التعاون الدولي. وقد تكرست هذه الأهداف السلمية في قانون المجلس الذي عرف باسم “سيرن”.
ويكشف فيلم “فن العلوم” الذي تبثه الجزيرة الوثائقية عن أسرار المركز الأوروبي لفيزياء الجسيمات بمدينة جنيف بسويسرا، حيث تلتقط الآلات العملاقة صورا للجسيمات الدقيقة كأنها أعمال فنية مليئة بالجمال.
“كلنا يصنع تمثاله”.. مصادم الهدرونات الكبير
يضم المركز غرفة (LHC) وهي اختصار لمصادم الهدرونات الكبير، وهو أقوى مسارع في العالم، واستغرق صنعه ثلاثين عاما، وقد صمم بناء على نظرية عالم الفيزياء “بيتر هكس” عام 1964.
يقول الفيزيائي “باولو جيوبيلينو” إن ما يقومون به يشبه إلى حد كبير العمل في الكاتدرائيات القوطية، فلا أحد يعرف البناء الرئيسي، “كلنا رئيسيون أنا المتحدث باسمهم، ولكني لست الأهم، كلنا يصنع تمثاله فتظهر النتيجة الأخيرة متسقة وجميلة”.
عمل في المركز آلاف من العلماء الذي يحملون أكثر من مئة جنسية مختلفة، فالمركز يتجاوز المكان والأعراق والأديان والجنس، والجميع منصهرون في بوتقة واحدة لأجل العلم والمعرفة، يجمعهم شغف الطبيعة المكونة من الطاقة، وهي مسائل بعيدة عن متناول حياتنا اليومية.

“هيغز بوزون”.. لغز الجسيم الذي يمنح المادة كتلتها
في مكتب أرضي صغير في المركز، اخترعت لأول مرة الشبكة العنكبوتية (لإنترنت) عام 1990، وضمن ما نصت عليه لوائح “سيرن” أصبحت الشبكة في خدمة العالم أجمع، يرى “سيرجيو بيرتولوتشي” أنهم يتحدثون بلغة السلام مثل الموسيقى، وقد حازت منظمتهم على صفة المراقب في الأمم المتحدة.
ينطوي هدف المنظمة تحت بند المصلحة العامة، ويعيش العاملون بها من أجل الأفكار والحاجة للمعرفة، بعيدا عن المصالح الشخصية.
نجَم عن أول تجربة قام بها العلماء في المصادم اكتشاف مذهل، حينما شاهدوا جسيما أوليا أسموه “هيغز بوزون” عام 2012، يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها، لقد أسهم هذا الاكتشاف في تفسير كل شيء نراه في الكون، ويقول الفيزيائي “زولف هويير” إن لهذا الجسيم أهمية كبيرة، لأنه لو لم يكن موجودا لم تكن أنت موجودا.

“هي آلة تشبه الشعر”.. أضخم معجل جسيمات في العالم
بدأت مناقشة العمل في مصادم الهدورونات الكبير عام 1983، وانتهى إنجازه في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، ومن أجل بنائه صنعوا 1300 مغناطيس صناعي، طول كل مغناطيس 15 مترا، وبمجال قدرته ثمانية ونصف تسلا، ويعمل على درجة حرارة 272 تحت الصفر.
ويعتبر أكبر آلة صنعت على مر العصور، فهي لا تصنع أي شيء، كما يقول “سيرجيو بيرتولوتشي”: هي آلة تشبه الشِّعر، لا تعمل أي شيء سوى البحث عن إجابات والتحقيق في لغز.
والمصادم هو كتلة ضخمة يزن 13500 طن، وله 100 مليون قناة، ويمكنه التقاط أربعين مليون صورة في الثانية.
وبحسب ويكيبيديا، فإنه أضخم مُعجِّل جسيمات وأعلاها طاقة وسرعة في العالم حيث يصل قطره نحو 27 كيلومترا وهو مبني تحت الأرض على عمق نحو 100 متر بين فرنسا وسويسرا بالقرب من جنيف.

أشياء بلا رائحة ولا لون.. ماهية العالم الكمي الغامضة
كل شيء في عالمنا عبارة عن جزيئات غير مرئية، لذا فإن الفيزيائيين يبحثون عن بصمات وآثار تركتها الطاقة تكشف عن وجود تلك الجسيمات، يمكن اكتشاف بعضها عن طريق مخلفات جسيمات أخرى، وهنا تخيل ما تعني الصور التي يلتقطها المصادم، والمسارات التي تبعثها الجسيمات في مليارات الأجزاء من الثانية بعد حدوث اصطدام.
يعتقد “لويس غاومي” أننا في حالة رؤيتنا لظاهرة كونية وأخرى ذرية فلا شك أن أدمغتنا ستنفجر، لذا نرى أشياء في حدود هذه التعليمات، ولرؤية هذا التعقيد لا بد من أن نستخدم الآلات.
إنها أشياء بلا رائحة ولا لون، ولهذا لا يمكن تخيل ماهية العالم الكمي، تقول “فابيولا جيانوتي” دائما تسالني أمي هل يمكنك رؤية هذه الجسيمات أم لا؟ وإذا كان لا يمكنك ذلك فكيف تُقرّين بوجودها.

ميكانيكا الكم المتناقضة.. بعد الفيزياء عن الواقع
كادت قوانين الفيزياء أن تتوقف مع نهاية القرن التاسع عشر، لكن ظهور ميكانيكا الكم المتناقضة جعلت الفيزياء بعيدة عن الواقع، والغريب أن الواقع هو الذي يتبع ميكانيكا الكم، ولهذا يذهب العلماء لاكتشاف الطبيعة.
ففي العالم الجسيمي نستخدم حواسنا للاتصال بالواقع، كما فعل “غاليليو” باستخدام الرياضيات، لذا يقوم العلماء بعمل رياضي وتجارب للحصول على صورة ليست عادية، ولكن لما يتوجب تعلمه من خلالها.
أما “جيم أولرشت” فيعتبر الرياضيات لغة، فعندما يأتي الفيزيائي بنظرية فهو كالشاعر عندما ينظم قصيدة أو الرسام حين يرسم لوحة فنية وهو وسيلة للإبداع، فلغة الرياضيات لا بد من اكتشافها فهي ملازمة للطبيعة التي تعبر عن ذاتها بتلك اللغة .
اكتشف الفنانون أنهم بحاجة لصور جديدة تمثل الطبيعة، في حين أظهر الفيزيائيون الطبيعة على أنها غير متوقعة وتتبع قوانين غير منطقية، نظن أن الجسيمات الأولية على شكل كريات ملونة والجزيئات على شكل أنظمة شمسية مصغرة، لكن هذه الصور لا تشبه الحقيقة في شيء، لقد استلهم الفنانون من الفيزياء تخيل ما هو خفي.
يقول “أنتوني غورملي” إن ما تبدو عليه الأشياء وما هي عليه فعلا أمران مختلفان جدا، نحن ندرك تصور إدراكنا وهذا مصدر إلهام كبير .

“نحن نقفز لمستوى جديد”. عملية إنتاج المادة
جرى تجهيز “مصادم الهدرونات الكبير” من أجل تجربة جديدة من خلالها ستضم ملايين البيانات في غضون مليار جزء من الثانية.
في هذه التجربة، يذهب العلماء لأسئلة ظلت إجابتها مفتوحة وهي التطرق للعمليات التي أنتجت المادة، لقد اكتشف ما يقرب من 4 أو5% فقط من المعرفة على ما يحتويه الكون من أسرار، وهذا محدود جدا، لذا يأمل العلماء باكتشاف المزيد. يقول “بيوتر تراتشيك”: نحن نقفز لمستوى جديد لأننا نزيد مستويات الطاقة لدرجة كبيرة لم تنتج قبل في مختبر .
تظهر إحدى الصور أحداثا حقيقية لنواتين اصطدمتا ببعضهما، وهي النقطة الأكثر كثافة وحرارة على الإطلاق، وهي أقرب ما تكون للانفجار الكوني العظيم الذي يصل إلى ملايين الأجزاء من الثانية في الانفجار العظيم، ثم يقوم العلماء بدراسة كيفية تشكل المادة، فإعادة الانفجار العظيم داخل آلة زمنية سيعود في الزمن للعتمة المتجمدة إلى رأس الدبوس الذي بدأ منه كل شيء.
يقول “لويس غاومي”: في هذه اللحظة، لا توجد لدينا فكرة، لكن الطبيعة أكثر إبداعا من الفيزيائين”، بينما يخالج “جون إليس” كثير من الأسئلة حول ظروف الإنسان ومن خلال رسوماته يحاول إظهار المشاكل الميتافيزيقية، فهناك تقاطع فعلي بين العلوم والفن، ولكل تجربة منهما جماليتها الخاصة.
وفي المصادم يبرّد سائل الهيليوم داخل الحلقة البالغ طولها 27 كيلومترا إلى حرارة قدرها 272 درجة تحت الصفر، ويكفي أن نعلم أن التيار الكهربائي المستخدم في عيد الفصح في كل جنيف يعادل المستخدم في المصادم.

مليارات الاصطدامات داخل المسارع.. تجربة جديدة
يستخدم الفيزيائيون مخيلتهم للاقتراب من الحقيقة، وعادة ما يكون لديهم تساؤلات، فالذرات والجزيئات كيانات نشطة، وعلى المستوى الذري والجزيئي يبقى العالم في حركة مستمرة وهائلة، وتكمن حياتنا في القياسات المتشابكة في حقول الطاقة غير المرئية.
يقول “أنتوني غورملي” تشكل الطاقة والمادة بعدين متبادلين، وكذلك المكان والزمان، فأنا كنحات أفقد شعوري بالحتمية لكي أشكل إيقاعات جسيمية للمادة، وأشعر أن كل شيء في تغير دائم.
ستصل طاقة الاصطدام إلى 13 تيرا فولتا، أي ضعف الطاقة التي استخدمت في اكتشاف جسيم “هيغز بوزون”، وعلى بعد مئة متر يجب أن تكون حلقة المصادم مغلقة بإحكام، وتجري مراقبة التجربة على السطح على مدار الساعة من غرفة التحكم.
هناك 500 ترليون جسيم مضغوط مغناطيسيا في شعاعين، كل واحد منهما أرفع من الشعرة، وينتجان مئات الاصطدامات في الثانية في تلك اللحظة، وفي فضاء ضئيل وكثافة عالية من الطاقة كانت كل قوانين الفيزياء حاضرة، وبعد مليارات الاصطدامات ظهر شيء في مجسات المصادم، وأظهر المنحنى احتمال وجود جسيم جديد.

“عندما يكون الحل بسيطا يريكه الرب”.. طوفان النظريات
في أقل من شهر من التجربة وضع الفيزيائيون 400 نظرية، وسيختارون النظرية الصحيحة من بين هذا الكم الكبير من النظريات.
تشرح بعض قوانين الطبيعة الرئيسية فيزياء الكم أو سلوك الذرة أو الكواكب حول الشمس، أو فساحة الكون بمفاهيم بسيطة لكن هل يمكن تفسير شيء كبير بهذا الحجم بشكل بسيط؟
يقول “بي برودنس” إننا نستطيع بشكل بسيط جدا تقليص التعقيد الهائل في الكون لنقطتين أساسيتين، وهو شكل من أشكال السحر.
يقول “أينشتاين”: “عندما يكون الحل بسيطا يريكه الرب”، خلف كل هذا التعقيد في الكون يوجد تفسيرات بسيطة لكن العلماء يحتاجون للتجارب والمعادلات لحل تلك الشيفرات الكونية.

أناقة المعادلات.. بعد جمالي في العلم الخفي
يرى “لويس غاومي” أن هناك بعدا جماليا لما يقومون به، فوصف “أينشتاين” لطريقة عمل قوى الجاذبية يعطي الشعور بالجمال والبساطة، من المفاجئ أن الفيزيائيين يتحدثون عن الجمال وأنه مرتبط بالمشاعر والذوق فكيف لهذا أن يفيد العالم.
يقول “تايسون”: يجب أن تكون نظرية الفيزياء جميلة ومدعمة، فنظرية “أينشتاين” النسبية جميلة لدرجة أنني أجد صعوبة بالغة في فهمها، فلا يوجد تعريف رياضي للجمال لكن يمكن تميزه من خلال النظر.
أما “بيوتر تراتشيك” فيقول: أعتقد أن الفيزيائيين يميلون للنظر إلى المعادلات بطريقة متشابهة، لذا فإذا كانت أنيقة ومغرية بالنسبة لهم فهذه طريقة لإيجاد بعض الحقيقة.

“إيجاد النظام وسط الفوضى”.. قوانين التناسق في الطبيعة
يقول البعض إن الجمال يكمن في عين الناظر (فكن جميلا ترى الوجود جميلا)، تنبت الأزهار بشكل متناسق وليس عشوائيا، وتكمن الإجابة في الهندسة حيث أن الزهرة تحصل على ميزة عندما تنمو بهذه الطريقة، وفي قوانين الفيزياء هناك خصائص متناسقة إذ أن الطبيعة تنجذب نحو الاتساق في المخلوقات الموجودة فيها.
يقول “مايكل أنجلو مانغانو”: الجمال يعني التواتر والتناسق، والتواتر يعني إيجاد النظام وسط الفوضى.
وللتناسق في الطبيعة قوانين لا يمكن أن نراها، وهذا هو الجمال الخفي الذي يحاول العلماء البحث في أسراره، وذكر هذا “هرقليطوس” قبل 2500 عام حين قال “الطبيعة تحب الاختباء”، فحين بنى اليونانيون معبد كونكورديا قاموا بربط أجزائه بمعادلة رياضية بسيطة، كان هذا يشبه الموسيقى والجسيمات الأولية، ويعتقد العلماء أن الجمال انعكاس لنظام مجهول يحكم الكون.
لكن بين هذا التناسق هناك تصدعات طفيفة وفجوات، فالجمال الكوني يكمن في احترام جميع التناسقات وعدم كسر أي شيء، إلا أن التناسقات جميعا موجودة على شكل واجهة مكسورة، إن التناسق الكامل أمر غير ممتع، ويرى “مايكل أنجلو مانغانوا” أن التناسق المثالي يعرضنا للشلل، ويتركنا غير قادرين على تغير أي شيء.

خيبة النظريات الـ400.. صراع الجمال والحقيقة في الفيزياء
ينجذب الناس في العادة للأشخاص الذين ليس لديهم جمال مثالي، وعدم التناسق يخلق الجاذبية. يقول “جون إليس”: لو نظرنا لصورة مركبة للموناليزا بحيث يكون الجزآن متطابقين فلن تكون رسمة مثيرة للاهتمام، إن كسر التناسق فكرة يفهمها الفنانون جيدا.
تقول إحدى الأساطير إن النساجين كانوا يخيطون بعض الشوائب في سجاداتهم لأنهم كانوا يعتقدون أن أرواحهم ستبقى معلقة للأبد في السجادة إذا كانت مثالية.
قد يبدو مفهوم الجمال بعيدا عن العلم، لكن الحقيقة أن القوانين الفيزيائية غالبا ما تبحث عن البساطة الجمالية التي لا تنفصل عن جمال الطبيعة، فالجمال شيء تدركه حواسنا، ويرى “جون إليس” أن مفهوم الجمال من صنع الإنسان.
ويفضل “أنتوني غورملي” الحقيقة على الجمال، لكونها أقل ارتباطا بالذوق وأكثر ارتباطا بالمعلومة، لأن العلم قد ابتعد عن الفكرة التقليدية للجمال، لأن المعيار لدينا في الجمال هو الشكل.
مصادم الهدرونات الكبير يكشف ليس فقط عن ركيزة المادة بل عن الجمال أيضا، إن مليارات الاصطدامات بداخله تظهر المادة خاصيتها بالطاقة والحركة.
العلماء هم أسياد الشك، لذا فالبحث مستمر والمغامرة ما زالت في بداياتها والشغف في البحث عن المزيد ما زال متوهجا، فهم أشخاص يجدون المتعة في الانتظار الطويل لتتجلى تجاربهم عن نتائج مرضية لهم، يحاولون البحث عن معنى لكل شيء في تناسق فائق.
لم تسفر التجربة في “سيرن” عن اكتشاف جسيم، كان ما رأوه عبارة عن تغير إحصائي، ولم تثبت أي نظرية من النظريات الأربعمئة التي وضعها العلماء الذين أتوا من كل بلاد العالم.